لماذا سقطتْ الأنظمةُ القائمة بأوروبا الشّرقيّة في النّصف الثّاني من الثّمانينات؟: بولندا مثالا (2): محمّد صالح بن عمر

 

ما إن وطئتْ أقدامُنا أنا وزوجتي أرض بولندا خارج مطار فرصوفيا/وارسو (في شهر أوت/أغسطس من سنة 1979 : راجع مقالي السّابق )لنذهب إلى وسط المدينة ،حتّى دُهشنا لسعر تذكرة الحافلة الذي كان أشدّ انخفاضا ممّا هو في تونس بقرابة الخمس مرّات.ثمّ حين وصلنا أمام أوّل نزل اعترضنا وجدنا جمعا من المواطنين البولنديّين يعرضون أسعارا أشدّ انخفاضا للإقامة في بيوتهم.فاخترنا سيّدة بدت لها طيّبة ومستقيمة .فدفعنا لها ثمن لَيْلَتَيْنِ ،لأنّنا كنّا قد برمجنا لليوم الثّالث زيارة إلى مدينة كراكوفيا الواقعة في جنوب البلاد. ثمّ ما إن وضعنا أمتعنا في الغرفة التي أجّرناها من تلك السّيدة حتّى خرجنا للبحث عن مطعم .كان الوقت حوالي السّابعة مساء و اللّيل بدأ يخيّم على المدينة.وكنّا محظوظيْن حقّا إذ كان أوّلُ شخص اعترضنا يتكلّم بلغة فرنسيّة جيّدة .إنّها كرستينا التي تحدّثتُ عنها في مقالي السّابق .كانت سيّدة في حوالي الخمسين من عمرها، أرملة منذ قرابة السّنتين ولها ابنان متزوّجان يقيمان بعيدا عن العاصمة، تشتغل صيدلانيّة بصيدليّة حكوميّة .وبعد أن تعرّفتْ إلى جنسيّتنا و مهنتنا وسبب قدومنا إلى بولندا قالت لنا مداعبة : ” أنا باعتباري بولنديّة أصيلة أخشى ألاّ يتيح لكم المطعمُ الذي تبحثان عنه فرصة تذوّق طبخنا الوطنيّ الحقيقيِّ والتّلذّذ به.ولمّا كنتُ طبّاخة ماهرة فإنّي أفضّل أن أدعوكما لتناول الطّعام في بيتي” ثمّ خاطبتْني قائلة: ” حسنًا فعلتَ حين اصطحبتَ زوجتك معك في هذه الرّحلة .ولولا ذلك لما كنت أقف حتّى مجرّد الوقوف للإجابة عن سؤالك”.وبعد أن تناولنا الطّعام وعلمْنا منها أنّها تكتبُ الشّعر والقصّة ولها محاولات في كتابة المسرحيّات ،اقترحتْ علينا أن نقيم عندها مجّانا على شرط أن نغادر البيت معها على السّاعة السّابعة صباحا وأن نعود إليها في السّاعة السّابعة مساء.
لقد كان ذلك المقترح يناسبنا تماما ،لأنّي وزوجتي من كبار ممارسي المشي على الأقدام وفي كلّ سفراتنا لا نكاد نعود إلى النّزل إلاّ في المساء.فكان الاتّفاق بيننا في الحين واصطحبتنا إلى بيت السّيّدة التي سكنّا عندها – وكان قريبا من بيتها – وأفهمتها محتوى الاتفاق الذي حصل بيننا . فسعدت به لأنّها غنمتْ سعر ليلتين دون إيواء أحد وستعود من الغد إلى النزل لاقتناص زبون جديد.
طيلة يومين متتاليين ،من السّابعة صباحا إلى السّابعة مساء، قطعت أنا وزوجتي عشرات الكيلومترات على الأقدام وزرنا معظم أحياء المدينة بما فيها أقصى المواضع وأخفاها.وممّا نال إعجابنا، بوجه خاصّ، هو الأسعار المنخفضة جدّا لكلّ ما يؤكل وما يًلبس.فكانت أقلّ خمس مرّات تقريبا من الأسعار الجاري بها العمل في تونس ، إلى حدّ أن قالت لي زوجتي:”لو نُقلت هذه المغازات إلى تونس لأصبحنا أغنياء في وقت وجيز”.
لكنّ ذلك كان المظهرَ الخارجيَّ. وكان لا بدّ من سماع الحقيقة من فم كريستينا لفهم الواقع السّائد آنذاك في ذلك البلد.فقد فسّرت لنا ما وجدناه من انخفض في الأسعار عندهم بارتفاع مستوى المعيشة في تونس، مؤكّدة أنّها رغم كونها صيدلانيّة لا تعرف الشّبع إلاّ نادرا.وذلك لأنّ الرّواتب في بلادها شديدة الانخفاض، كما أنّه لا توجد فروق محسوسة بين رواتب مختلف الفئات .فرواتب الأطبّاء أو الصّيادلة مثلا لا تختلف كثيرا عن رواتب الممرّضين ورواتب هؤلاء لا تبعد عن رواتب العمّال.والمشكلة لا تكمن في التّقريب بين الرّواتب بل في طريقة تنفيذ هذا التّقريب .ذلك أنّ النّظام ، حسب رأيها، أساء تطبيق الاشتراكيّة .فبدلا من الرّفع في رواتب كلّ الفئات من الأسفل إلى الأعلى أنزلها جميعا من الأعلى إلى الحضيض. فأدّى ذلك إلى تعميم الفقر ،على حين أنّه رغم نسبة نفسه إلى الاشتراكيّة ليس سوى جهاز بيروقراطيّ يتكوّن من المسؤولين الكبار في الحزب الحاكم وكبار الضّباط .وهؤلاء يتمتّعون بكلّ المنافع على حساب عموم الناس.
فكّرنا جيّدا فوجدنا كلام كرستينا صحيحا.فقد كان المعظم الأغلب من أساتذة التّعليم الثّانوي الذين درّسوا معنا في تلك الفترة أي في النّصف الثّاني من السّبعينات قد اقتنوا قطع أراض بأحواز العاصمة (المرسى- قمّرت- سكرّة -أريانة – المنزه – المنار- رادس – الزّهراء – حمّام الأنف…)وبنوا فيها بيوتا محترمة أو اشتروا في تلك المناطق شققا فاخرة. ولا أزال على اتصال بالكثير منهم.أمّا أنا وزوجتي فقد عقدا قراننا سنة 1975 وبعد ثلاث سنوات فقط اقتنينا شقّة بدينة رادس دون أن يكون أيٌّ منّا ورث شيئا عن والديه.وكنّا نقضّي عطلة الصّيف لمدّة شهرين كاملين بمدينة الحمّامات إلى حدّ أن صار أهل تلك المدينة يعرفون عائلتي فردا فردا ويظنّنا الكثير منهم من أصيلي بلدتهم .وفي سنة 1982 اشترينا قطعة أرض في الجهة المقابلة للمركز الثّقافيّ بالحمّامات ثمّ بعناه لبناء منزلنا الحالي.وكلّ هذا بمال التعليم الثّانويّ .وهو ما يعجز عنه بل ربّما لا يفكّرُ فيه إطلاقا اليوم أستاذ التّعليم العالي .
فالقدرة الشّرائيّة لأساتذة التّعليم الثّانويّ بتونس في ذلك الوقت كانت مرتفعة كما قالت كريستينا.ومع هذا كنّا ناقمين على الوضع السّياسيّ في بلادنا ونعتبر أنفسنا مظلومين ونشنّ الإضراب تلو الإضراب وكنت أنا أكتب في جريدة”الرأي” المعارضة التي كانت نندّد بغلاء المعيشة وبالطبقيّة.
فأيّ اشتراكيّة أذن كانت تتغنّى بها إذاعات بلدان أوروبًا الشّرقيّة في تلك الفترة؟

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*