خيباتُ محمّدٍ: محمّد بوحوش – توزر– تونس

محمّد بوحوش

حينَ وضعتكَ أمّك قسرا تحت جذع زيتونة ذات خريف رماديّ مبهم،

لم تصرخْ كعادة المواليد.  قالت أمّك جهرا: هذا الفتى الّذي وُلد في الهواء الطّلق سيكونُ سعيدا وحرّا… وأسمّيهِ على اسم النّبيّ محمّد.

طفلا، كنتَ تحلمُ وترى العالم أضيقَ من خرم إبرة. أحلامكَ كانت أمطرَ من سحابة وأوسعَ من محيط.

كانت سماؤك، بلون الفراشات، خفيضة ومليئة بالأنجم المزهرة،  كم كنتَ قريبا من النّاس! قريبا من اللّه، تشقُّ سماوات بعيدة، وترى نفسك في القطب الشّماليّ تلهو بقطع الثّلج، وتحلم بزورق وبحر وحقول معشوشبة.

بالكاد تنامُ، ويسافرُ بك الحلم في تونسك الخضراء إلى أصقاع الدّنيا.

حين بلغتَ الشّباب، صرتَ بجروح دامية في الكفّين وبجسد منهك…

في أمّ القرى حيث ولدتَ قضمكَ الفقر، عرفتَ وقتها القهر، عرفتَ بشاعة الموت وبطش البوليس حينما سقط  بالقرب منك شهيد الخبزة الفاضل  ساسي ذات شتاء أسود.

تعثّرتَ، وتلعثمتَ كثيرا يا محمّد، وما أكثرَ ما شيّدتَ من بيوت أضحتِ الآن آهلة  بالخراب!

حتّى إذا صرتَ كهلا أدركتَ أنّكَ جئتَ الزّمان الخطأ في المكان الخطأ.

وأنّ الحياة الّتي كنتَ تحسبها حبّا هي في الحقيقة حرب.

تُرى هل انتهت حياتك ولم تنتهِ الحرب؟

سريعا، كنتَ تكبرُ يا محمّد،

والوطن في عينيك كان يصغرُ،

صرتَ واقعيّا جدّا

تزنُ الأشياء بالميزان، وترى العالم بلون أبيض…

ثمّ… ها أنتذا على مشارف أرذل العمر،

وقد عمّ الشّيب رأسك وبلغ الوطن عتبة العار،

تحيا مكلّلا بالخيبة

في بلد له ذيل حصان عجوز، ويحبو على أربع

صرتَ أشدَّ حزنا يا محمّد، خيّبكَ العَالمُ

والأصدقاءُ والأهلُ والشّعرُ والبلد القفرُ

صرتَ فراغا، خاويا من أيّ معنى،

وتونسكَ الخضراءُ الّتي غزاها الغربان والبرابرة  أضحتْ صفراءَ.

سريعا، صرتَ تكبرُ يا محمّد، ويضيقُ عليكَ قميص الأماني،

يصغرُ الوطن، ويشتدُّ عليكَ لؤما

صرتَ على قاب كذبة:

ترطنُ بلغة أخرى غير اللّغة الأمّ، فتسمّي الوطن هاويةً، والأهل عزلةً، والبيت منفى، والعالم صندوقا أسودَ…

ها أنتذا أخيرا،  تعلّقُ بدل السيّف منجلا، ولا ترى في الأفق القريب أو البعيد قوس نصر.

ما أضيقَ ثوب الحياة! حياتك التّي غنّيتَها طفلا، ثمّ… حفظتَها عن ظهر خيبة.

ما أكثرَ عليك هذا الكلّ القليل! وما أفدحَ هذا العمر الشّبيه بلعنة!

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*