حوار مع النّاقد محمّد صالح بن عمر: أجرته :منيرة الرزقي

هذا الحوار أجرته معي الصّحافية اللاّمعة منيرة الرزقي سنة 2010 ونشر بجريدة “الصّحافة” التّونسيّة

1 – كيف تنظرون إلى المدونة الأدبية اليوم شعرا وسردا وما هي التحولات التي طرأت عليها منذ السبعينات إلى اليوم لاسيما وأنك تتابعها بالدرس والتمحيص منذ عقود ؟

المدونة الأدبية التونسية فيها الغث والسمين.  والغث أكثر بحكم التشجيع الذي يحظى به  الأفراد الممارسون للكتابة ولا أقول الكتاب  و كذلك دور النشر  لا سيما اقتناء كميات مهمة من الكتب التي تصدر بالبلاد مهما كان مؤلفوها . وهو اختيار حكيم من الدولة لأن تركيز لجان للقراءات يؤدي إلى نتائج سلبية عاينها الخاص والعام في العهد السابق من جراء الانزلاق  إلى إلاخوانيات والنزعات الجهوية وتصفية الحسابات الشخصية . فحياد وزارة الثقافة والمحافظة على التراث  ، عملا بمبدإ ” دولة الثقافة لا ثقافة الدولة ” هو لعمري موقف حكيم . ولا   خوف من الكتب الرديئة لأن أصحابها سرعان ما يعاينون  ردود فعل الساحة الثقافية  على ضعف ما يكتبون فينسحبون من تلقاء أنفسهم . وإذا أصروا على البقاء رغم عدم الاقتناع بما يكتبون فليبقوا إذن . لكنهم على كل حال  لن يحتفظ التاريخ بأسمائهم بعد موتهم .

على أن المتميز من الإنتاج الأدبي التونسي مهم في حد ذاته  كميا  بحكم كون الإبداع نادرا في كل عصر ومصر. ففي تقديري يوجد في تونس ما لا يقل عن سبعين شاعرا مهما منهم قرابة الخمسة عشر  ترتقي أعمالهم إلى مستوى عالمي  . ولو ترجمت نصوصهم ووصلت إلى العارفين بالشعر في العالم المتقدم لنالوا الاعتراف ثمة  ولأضحى لهم صيت عال  خارج  بلادنا .

فيما يخص التحولات  قد  ظهر في التسعينات جيل جديد من الشعراء  أدخل تغييرا جذريا على أساليب الكتابة  تجسد في إطلاق العنان للمخيلة والحلم واللاوعي على حساب الايدولوجيا  . وهو ما أدى  إلى استبدال شعر الموضوعات بشعر المناخات  وما استتبعه من كسر البناء الشجري للقصيدة . فتكثف الشعري وتقلص المرجعي . ومن أبر ز شعراء هذا الجيل محمد الهادي الجزيري وحافظ محفوظ وشمس الدين العوني وآمال موسى وعبد الوهاب الملوح  و إيمان عمارة ونزار شقرون والهادي الدبابي وفاطمة بن محمود ورحيم الجماعي  وفاطمة عكاشة ومحمد النجار وعبد الفتاح بن حمودة  والشاذلي القرواشي و سمير العبدلي وعادل المعيزي  وفاطمة بن فضيلة .

وكذلك شأن الأقصوصة . فقد انهارت فيها المدارس وتداخلت الأجناس  ، امتدادا للتطور الذي تحقق في هذا الجنس السردي عند الطليعيين في أواخر الستينات وبداية  السبعينات .فالى جانب الطليعيين الذين تتواصل مسيرتهم إلى اليوم  و لم تفقد نصوصهم حداثتها وتوهجها  أمثال عزالدين المدني ورضوان الكوني وأحمد ممو  وساسي حمام القريب منهم فنيا وحسن نصر رائد الواقعية السحرية  ظهرت في التسعينات وبعدها  أسماء جديدة منها فوزية العلوي وإبراهيم الدرغوثي  و عباس سليمان و صالح الدمس و جنات إسماعيل ومنيرة الرزقي ومحمد السبوعي وفيصل الزوائدي .وهؤلاء يصدرون في تقديري عن رؤى عميقة متميزة وتجارب حقيقية في مضمار الحياة . لذلك جاءت نصوصهم نابضة بالعفوية التي هي السمة  الأولى للفن . أما الصدور عن النظريات الانشائية فإنه  لا يفضي  إلا إلى وضع  نصوص باهتة مفتعلة  كالدجاج الأبيض الذي  ربما كان سمينا مكتنزا لكنه يكون  فاقدا لأي نكهة . وهو ما اعترف به تودوروف نفسه في كتابه الموسوم ب الأدب في خطر  الذي صدر بباريس  سنة 2007  والذي أعرب  فيه عن أمنيته رؤية  الأدب السردي يعود  إلى قلب الإنسانية  بعد أن دمرته الإنشائية السردية .

2- والرّوائيون؟

إن وضع الرواية في بلادنا صعب للغاية . وذلك لعدم وجود عادات مترسخة في قراءة الروايات باللغة العربية . فالوسط الفرنكوفوني في تونس يقبل على قراءة الروايات الناطقة بلغة موليار أكثر بكثير من إقبال قراء العربية على قراءة الروايات المكتوبة بلغة الضاد . لذلك  فكتاب الرواية بالعربية عندنا في شبه قطيعة مع القراء . ومثلما تعلمين فإن  كاتب الرواية بخلاف الشاعر والناقد والقصاص لا وجود عمليا  له خارج القراءة لأن الشاعر ينشد شعره أمام الجمهور والناقد يلتقي بجمهور الأدب في دور الثقافة والشباب والقصاص يمكنه النشر في الصحف اليومية فيصل نصه  بفضل ذلك إلى عشرات الآلاف من  القراء. ثم لا معنى لروائي ليس له على الأقل عشرة آلاف قارئ . ففي الشرق و الغرب تسحب من روايات الكتاب الكبار مئات الآلاف من النسخ وتترجم إلى أكثر لغات العالم انتشارا.  ومع هذا فهناك أسماء تونسية في دنيا الرواية  احتفى بها النقد المحايد بكثافة منها البشير خريف الذي أعدت عن أعماله عشرات الدراسات وإبراهيم الدرغوثي الذي صدرت عن تجربته  إلى حد الآن خمسة كتب  اثنان منها جماعيان  .

3 – على أي أساس تختارون الأعمال الإبداعية التي تشتغلون عليها ؟

المعيار الأساس الذي أعتمده في اختبار ما أدرسه من إنتاج أدبي تونسي هو التميز . والمقصود بالتميز هو أن يكون للشاعر أو الكاتب أسلوب خاص في الكتابة يمكنه من النشر بلا إمضاء .فلو بقيت نصوص لم تنشر  للشابي أو الدوعاجي أو المسعدي أو البشير خريف أو جعفر ماجد  مثلا  ونشرت اليوم بلا توقيع لعرف النقاد والأدباء أنها لهم أو لأشخاص يقلدونهم . هذا هو الإبداع . وهو ليس في متناول إلا من تمتع بقدرات خارقة في التخيل والحساسية والحدس .أما الجودة  في غياب التميز فهي في متناول أي متعلم ملم بتقنيات الكتابة الشعرية أو السردية  يوطن نفسه على التمرن بضع سنوات . لذلك فالجودة هي شرط لزوم لكنها لا تعد بأي حال شرط اكتفاء ، مع الإشارة إلى أن غير المبدع لا أمل له في البقاء  لأن التاريخ لا يحتفظ إلا بالمتميز .

4-  يرى البعض أنه ليس لدينا ” طبقة أدباء” بل لدينا بعض النماذج الفردية فحسب التي أصلت كيانها في هذا المضمار ، كيف تقيمون هذا الرأي ؟

لا معنى ل” طبقة أدباء ” . فالإبداع أمر فردي بحت . والمبدع الحقيقي مدرسة قائمة الذات لأن أفكاره متميزة وأسلوبه متفرد . والدليل على ذلك أن الحركات الأدبية لا يبقى منها إلا المتفرد . فالسريالية مثلا كانت فيما بين الحربين تيارا ساحقا انتمى إليه ما لا يقل عن مائة وخمسين شاعرا . لكنك حين تفتح أي كتاب من كتب تاريخ الأدب الفرنسي في باب السريالية  لا تعترضك إلا ثلاثة أسماء هي أندري بروتون ولوي أراغون وبول ألوار . و الآخرون أين هم ؟ أولئك لم يحتفظ بهم التاريخ لأنهم عاديون .فإذا كانت لنا قامات فردية مهمة كما تقولين   وهذا متوفر فعلا – فذلك كل ما نطمح إليه .

5- ألا ترون أن النقد الأدبي لازال بعيدا عن اهتمامات المرأة ما عدى بعض الاستثناءات على عكس الإبداع الذي يشهد تناميا لحضورهن  ؟

لا علاقة للنقد بجنس كاتبه .إنما الحقيقة أن النقد نادر بطبيعته قديما وحديثا عند كل الأمم . انظري مثلا  كم من  شاعر و من كاتب سردي وصلتنا  أسماؤهم  من مختلف عصور الأدبين  العربي و الفرنسي. لكن عدد النقاد  عندنا وعندهم كان  دائما محدودا جدا . والسبب في ذلك  أن النقد عمل فكري  يقوم به صاحبه أو لا يقوم به بمحض إرادته و  دون أدنى ضغط داخلي أو خارجي .أما الشاعر أو الكاتب السردي فإنه إذا كانت تجربته أصيلة  لا يستطيع إلا أن يكتب . يضاف إلى ذلك أن الناقد معرض إلى الثلب والتحامل من الذين لا يكتب عنهم . وهذا لا تتحمله المرأة  بديهيا  فالناقد ينبغي أن يكون صداميا وإلا عجز عن أداء مهمته .

قلت بعض الاستثناءات .  لكني لا أعرف ناقدة واحدة في تونس . لعلك تقصدين الباحثات الجامعيات .لعلمك  الباحث الأكاديمي ليس ناقدا لأنه يكتب لأهل التخصص  . أما الناقد فهو ينتمي إلى الساحة الثقافية لا الجامعة ويكتب لجمهور الأدب . ونوعية المتلقي تؤثر تأثيرا عميقا في الخطاب .  لكن هذا الخلط الفادح شائع مع الأسف  في وسطنا الأدبي . فالجامعي غير الملم بمدونة الأدب التونسي التي تشتمل على ألف وخمسمائة مجموعة شعرية وسبعمائة مجموعة  قصصية ورواية وما نشر في الصفحات الأدبية للجرائد والمجلات منذ ظهور الصحافة بالبلاد لا يمكنه أن يفيد في دراسة الأدب التونسي . فكيف يعرف مثلا أن الأثر الذي يدرسه منتحل إذا لم تكن له مثل تلك الثقافة ؟ ثم إن المرء الذي يحترم نفسه لا  يتحدث إلا في موضوع يعرفه وإلا عد متطفلا .أما المناهج فهي ملقاة على قارعة الطريق يعرفها الخاص والعالم   ثم ما هي الا أدوات عمل فلا تغني عن معرفة النصوص والتيارات الأدبية والخلفيات الفكرية و أعمال الكاتب السابقة .

6-  رغم كل الجهود التي تبذل لازال الأدب التونسي بعيدا عن الإشعاع العربي واقتصر الأمر على الحضور بشكل فردي في بعض المنابر ، كيف تفسرون هذه الظاهرة؟

إن الإشعاع العربي الحقيقي  للتونسيين   مرتهن بتوفر شرط  أساس هو استعداد العرب المشارقة للاهتمام بنا . لكننا مثلما نرى لا يمكن أن يكون لهم مثل هذا الاستعداد. وذلك لأن المشرق العربي يتخبط في مشكلات سياسية ودينية وعرقية بالغة التعقد ، إضافة إلى وجود مأساتين متواصلتين لا بوادر   لوضع حد لهما   هما  مأساتا الشعبين الشقيقين  الفلسطيني والعراقي .أما نحن فبعيدون مكانيا عن بؤر ذلك  التوتر. لذا  فمن الطبيعي أن ننشغل نحن بأوضاعهم  لا العكس. وما الأدب إلا  انعكاس لهذا الوضع . هذا ولا أعد مشاركة بعض التونسيين في الندوات التي تنتظم في المشرق بمداخلات عن غير الأدب التونسي إشعاعا. إنما الإشعاع  للذين يكتبون عنهم .

7 –  كانت لكم تجربة متميزة في السنة الجامعية الماضية تمثلت في استضافة بعض الشعراء في حصة الدرس بهدف التعريف بمشروعهم الإبداعي ومناقشته من قبل الطلبة ، إلى أين وصلت؟

فعلا لقد  درست في السنة الماضية في إطار مادة التعليمية مسألة عنوانها تدريس النص الشعري التونسي . وقد كلفت كل طالب بإعداد قراءة في قصيدة لشاعر تونسي . و قدم شرح كل قصيدة  بحضور الشاعر المعني الذي يطلب منه إبداء الرأي في التحليل الذي سمعه . لقد كانت التجربة ناجحة ومن الشعراء الذين استضفتهم ولبا النداء جعفر ماجد ومحمد عمار شعابنية ومحمد الغزي ومنصف المزغني وعبد الله مالك القاسمي وجميلة الماجري وآمال موسى وايمان عمارة ومحمد الهادي الجزيري ويوسف رزوقة ونجاة الورغي ….

8 –  كيف تنظرون إلى الفعاليات الثقافية التي تقام هنا وهناك في ربوع بلدنا  وإلى أي مدى من شأنها الإسهام في تحقيق حراك ثقافي حقيقي ؟

إن الموسم الثقافي في تونس هو سلسلة من الأعراس الثقافية المتواصلة . ومن الطبيعي أن يكون الشعراء أكثر المستفيدين منها لأن الشاعر يوفر الفرجة الضرورية لإدخال الحيوية  المرجوة على التظاهرة  المنظمة . أما القصة فان الجمهور لا يتابعها في العادة . لذلك نادرا ما يلجأ المنظمون  إلى برمجة قراءات قصصية .

ولعل أهم ما يقدم في تلك التظاهرات المحاضرات التي  تلقى عن الأدب التونسي . لكن عدم نشرها يبقى في تقديري نقصا  لأن النقد التونسي على الرغم من كثافته قد  ظل  من جراء هذا التقصير  شفويا . فلا بد إذن من العمل على نشر أشغال الندوات التي تدور محاورها حول أدبنا الوطني .

9 –  ما هي الحدود الفاصلة بين الأكاديمي والمبدع وما الإضافة التي يحققها أستاذ الآداب عندما يكتب أدبا ؟

مبدئيا لا علاقة البتة  بين مهنة الشخص والفن الذي يمكن أن يمارسه  . والدليل على ذلك أن المرحوم جعفر ماجد كان شاعرا حقيقيا وهو دكتور دولة وأستاذ للتعليم العالي و هنري ميشونيك كان  أهم منظر لإنشائية الإيقاع  و في الوقت نفسه شاعرا مجيدا .

لكن القضية تبقى مع ذلك قائمة لأن بعض الجامعيين ممن يكتبون الشعر أو السرد يحاولون إيهام الرأي العام الأدبي بأن معرفتهم النظرية لعلم الشعر أو علم السرد تجعل منهم  أقدر على الإبداع من غير الجامعيين . و هذا بعيد عن الواقع . فالروائي العربي الوحيد الذي نال جائزة نوبل –  وهو نجيب محفوظ – كان يحمل إجازة في الفلسفة ولم يتلق تكوينا في إنشائية السرد . ومثله البشير خريف الذي لا نزال ننتظر صدور رواية أخرى في مثل ألق روايته الدقلة في عراجينها و قد كان معلما لا دكتورا في السرديات .

لقد أثبتت العلوم العرفانية اليوم أن  العقل الممنهج يعسر عليه مراس العدول الذي هو جوهر الفن . والمسألة في تقديري هي مسألة وعي . فإذا كان الجامعي يفصل فصلا تاما بين تخصصه وكتاباته الأدبية فلا تأثير  سلبي له فيها . أما إذا كان يخلط بينهما فإن في ذلك اعترافا منه بأن كتاباته مفتعلة .

10 – كيف تنظرون إلى الصحافة الأدبية والفكرية في بلادنا لاسيما وأنكم كنتم ولازلتم  أحد الفاعلين فيها بامتياز؟

أنا أشرفت في شبابي خاصة على عدد من الصفحات الأدبية بالصحف التالية :  ( الأيام – المسيرة – الناس – الرأي  ). وقد كان عدد الصحف  وقتذاك قليلا .  أما اليوم فالمرء لا يستطيع متابعة كل ما يصدر في الصحف لكثرتها . لذلك تتعمد بعض الصحف الإثارة لجلب انتباه القراء . وهو أسلوب معقول في عهد أصبحت القراءة مهددة بالوسائط الأخرى  لكن على شرط عدم المساس بكرامة الأشخاص . فالجدل الفكري مطلوب بإلحاح  إلا أن محوره ينبغي ألا يتعدى الأفكار والمواقف .

ظاهرة أخرى سلبية عاينتها بنفسي في بعض الندوات هي أن بعض الصحافيين القلائل لا يتابعون الندوات التي أوفدوا من أجل تغطيتها ثم يطلبون من المحاضرين إثر انتهاء الندوة أن يلخصوا لهم محاضراتهم في أسطر قليلة والحال أننا في حاجة إلى الصحفي الثقافي الناقد التي يبدي رأيه ويقترح البدائل .

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*