ذكريات سرمديّة للشّاعرالمغربيّ عبد اللّطيف البحيري : قراءة في العتبات :نقوس المهدي – اليوسفيّة – المغرب

نقوس المهدي

عبد اللّطيف البحيري

ديوان ” ذكريات سرمديّة ” SOUVENIRS VIVACES ” هو العمل الشّعري الثّاني بالّلغة الفرنسيّة ضمن المنجز الإبداعي الذي استهله للشاعر المغربي عبد اللطيف البحيري بديوانه الأول الموسوم بــــ ” Bribes et étincelles ” “شظايا وشرر”. ومن باب الفضول المعرفي القول أن النقد السيميائي يشترط فيما يتعارف عليه بالخطاب المقدماتي البحث في “عتبات النص”. وهي أنساق ظاهراتية تنطلق من الدرجة الصفر في الكتابة وتتيح الحفر في فصوص النصوص والبحث في عدة علامات وأيقونات محددة يستطيع القارئ بوساطتها فهم الدلالات والإيماءات التي تمكن من الولوج إلى الجو العام للديوان وفضاءاته واشتغالاته وحمولاته الإبيستيمية. وذلك بفك شفرة: اسم المؤلف، العنوان، اللوحة، دار النشر، تاريخ النشر، الإهداء، المقدمة، الخطوط، الكاليغرام، الانزياح ،التورية ،الاستعارات ،الأحابيل اللغوية وغيرها. وبالرغم من بداهة هذه الإشارات والإيحاءات الدلالية فإنها تشكل بالضرورة إحدى السمات الإجرائية والتفاصيل البصرية والفنية التي  تعد في مجملها مرجعية مهمة ومفتاحا لآليات معينة وظفها الشاعر لإيصال خطابه الى المتلقي .

ويتكون ديوان ” ذكريات سرمدية ” ” Souvenirs vivaces ” الصادر عن مطبعة لأخوين سليكي بطنجة 2013 ، من 78 صفحة ويتضمن 65 عنوانا، تتوزع على عدة أغراض وتيمات معينة على شكل تراتبي وتسعى على مستوى وحدة الموضوعات  إلى التعبير عن مراحل زمنية وتشكيل الكون ومخلوقاته وتأثيثه بكل ما هو ضروري وأساسي، وتصويره على نحو من التسامح والمحبة عبر مرجعيات دينية صوفية عرفانية، تتوخى صفاء الروح وتحصين الذات ضد كل ضروب الاغتراب والألينة والخراب والضياع، باختيار عناوين تنحو في شقها النحوي إلى استخدام الأسماء بدلاً من الأفعال  الدالة على  الحركية.وذلك  لنزوع الشاعر إلى  الاستقرار والاستمرارية والإقبال على الحياة ببعث الماضي بدلا  من دفنه وخلق العالم على الطريقة الأفلاطونية وتأثيثه بالجمال وبعثه من غير سوء على طريقة الشعراء والفنانين، مستعينا بعناصر الطبيعة الأربعة حسب التفسير الأرسطي. “الماء والهواء والتراب والنار” وتوظيفها بالتفاصيل والجزيئات الدقيقة ذاتها لتشكيل فضاءات المتن الشعري والتحكم فيها عقلانيا وموضوعيا من غير إسقاطات إيديولوجية.. ذلك أنه ففي البدء كانت الهيولى، وكانت الكلمة، وكان الشعر، وكان القلم، وكانت ربة الشعر، والشاعر:

متربّعا على رصيف مقهى كبير

يتذوّق بلذاذة لُحيظات الهناء

الإنسان الهادئ أبدا

برغم الضجيج ورغم العناء

قصيدة “تفتح” – ص7

ريشته الهزيلة تتعثر على صفحة

تخط أحلاما و ضفافا ارحب

افاقا بعيدة وشطانا مليحة

لا ضجر حوله ولا صخب

قصيدة “سفر تكوين”- ص8

ويبدو التناص مع النصوص الدينية والإشارات الروحانية جليا.وهو ماثل في  توظيف عدة ظواهر وردت في المصادر الدينية،تشير إلى التحول الذي عرفه الكون منذ بدء الخليقة .وذلك لاعتقاده ” أن الجمال سوف ينقد العالم” كما يقول دوستويفسكي.

وانطلاقا من هذه المقولة ندرك هذا التفاعل والانسجام بين الشاعر والوجود والتماهي بين الحلم والواقع لخلق عالم فاضل، يوغل بالقصيدة إلى أعمق أعماق الروح الإنسانية ،مستلهما مكنونات ومكونات الطبيعة والمشكلات الوجودية المتشابكة في حالة من التوافق الروحي والتأمل الرصين وصدق السريرة وصحة العقيدة ” الدوكسا”. والإحساس الصوفي العميق الذي يحيل على الصفاء الروحي العرفاني في أبهى تجلياته، إذ تتكرر لفظة “الروح” حوالي 33 مرة، فيما تتردد مفردات “الحلم” و”أحلام اليقظة” و”الذكريات” وغيرها من المتواليات المعجمية ” isotopies ” مرات عدة. ولهذا التكرار اللفظي دلالاته السيميائية القصوى. ذلك أننا حينما نلتجئ إلى مثل هذه الإحصاءات والتأويلات والمقاربات النقدية في تحليل النصوص ومراهنة الشاعر عليها في تبليغ رسالته، نضع نصب أعيننا ما كتب من سرود طويلة دون نقطة ولا فاصلة وما اشتمل عليه ديوان أناشيد مالدورور للشاعر الفرنسي لوتريامون من أسماء بلغت 185 اسم حيوان وكذا 435 إحالة للحياة الحيوانية .

دلالة العنوان:

العنوان هو المدخل الأساس الذي يعطينا انطباعا أوليا عن مضمون الكتاب. ويبدو جليا أن وظيفة العنوان في العمل الأدبي هي أنه بمنزلة نجمة القطب التي نستدل  بها على خبايا العمل الإبداعي .ذلك أن اختيار العنوان ليس عملاً شكلياً معزولا عن فضاء النصوص، بل هو دلالة أيقونية منتزعة من صميمها، إنه وان كان يقدم نفسه بصفته عتبة للنص كما يعرف ذلك السيميائيون، فإنه بالمقابل لا يمكننا بأي حال الولوج إلى عالم النص دون اجتياز هذه العتبة.

وغير خاف على أحد أن الأدباء من الأجيال المتقدمة على وجه الخصوص كانوا أشد عناية وعلى أتم وعي بمسألة العنوان والشكل والخط. فحينما نتطرق  إلى العنوان أو إلى مسألة الشكل الظاهري للكتاب لا ننسى الإشارة إلى أن الشعراء منذ القديم اهتموا  وضع عناوين لأشعارهم مثل اسم المعلقات والمذهبات والمفضليات والأصمعيات، فيما يفي المطلع في قصائد أخرى بالقصد والغرض، بعكس بعض الذين انتهجوا طريقة عنونة أشعارهم ومصنفاتهم بطريقة جذابة وتفننوا في اختيار عناوين موسيقية  جذابة و في بعض الأحيان غريبة. وتحبيرها بخط بديع،وزاه لحرصهم على تمييز مصنفاتهم عن باقي الكتب والإصدارات وشد المتلقي إليهم، وإغرائه  على نحو أو آخر لقراءة الكتاب واقتنائه

فالعنوان إذن محرض أساس

العنوان شريك متواطئ للكاتب وقارئه.

بعض الكتب تمارس علينا فعل الغواية

وبعض العناوين تستميلنا

وبعض الكتب نقتنيها لأشكالها أو لعناوينها أو لمضامينها

ليس هناك كتب مخادعة

وليس هناك كتب من دون فائدة

قل لي ماذا تقرأ أقول لك من أنت

وبالرغم من كونه يوحي في الأضمومة ظاهريا بالتفكير بالماضي فهو لصيق بواقع الحال. وانطلاقا من هنا يمكن تفسير ذكريات سرمدية كضرب من استقراء الزمن الحاضر باستنفار الأحاسيس واستدعاء الحلم وحلم اليقظة والغنوص والذكريات والأمنيات والأمل في البحث عن نبتة الخلود، ب تفكيك الكون بكل فسيفسائه وتفاصيله وخباياه، ثم إعادة رأبه وبعثه من جديد.وهذه  رحلة في عمق الزّمن البروستي ماضيا وحاضرا ومستقبلا،  غرضها المراهنة على اقتناص اللحظة الشعرية والشعورية.

هذا العنوان برغم عتاقة دلالاته وارتباطه بما هو ماض لا في مفهومه القدري، لكن بما ينضح به من قلق وجودي تشوفي، يربط الشاعر براهنه ويوثق له ويستشرف آفاق متخيلة لما يجب أن يكون عليه العالم من تحرر وسلام ومساواة وتسامح. إنه التفكير بألم ومعاناة. ذلك أنه بحسب تعبير خورخي لويس بورخيس: ” نحن حديثون بفعل الواقع البسيط في أننا نعيش في الزمن الحاضر. لم يكتشف أحد بعد فن العيش في الماضي. وحتى المستقبليون فإنهم  لم يكتشفوا سر العيش في المستقبل. إننا حديثون، شئنا ذلك او أبيناه.

دلالة اللوحة:

بعد العنوان طبعا تشكل صورة الغلاف إحدى الدلالات الأيقونية ومفتاحا نلج بفضله إلى الجو العام للديوان. و من هنا يتخد النص الشعري المتوسل بالبيان واللغة هيأة نص فني بصري مواز يرتكز على الخطوط والمشاهد والألوان. وذلك متأت من ضرورة موافقة لوحة الغلاف لتيمة العنوان الذي يشترط فيه التعبير عن الجو العام للمجموعة. فعلى حد قول  جاكوبسون ” يعالج فن الشعر مشكلات الأبنية اللغوية بالكيفية نفسها التي يهتم فيها تحليل الرسم بالأبنية التشكيلية.” .

وتتكون اللوحة هنا من مجسم غير واضح المعالم يجمع بين التشكيل/ التصوير، يهيمن عليه لون بنّي بين فاتح وغامق، تظهر من خلاله تخطيطات هلامية، في جانبها السفلي تتدلى صورة لأشخاص مظللين وغير محددي السحنات. شدة التظليل لا تسمح لنا بتحديد سيمائهم و معرفة جنسهم، فيما يشكل المنظر بكامله لوحة فنية تغطي المجموعة، من الجهتين الأمامية والخلفية، ومقاصده الدلالية أولا وأخيرا. وهذا مؤشر إضافي لتفعيل قوة التخييل، فالذاكرة كما يشار إليها موشومة بالإيحاءات، بالحلم، بالرسوخ، بالديمومة، بالثبات، بالامتداد في الماضي، بالتمدد في الزمن الحاضر ، باستشراف المستقبل المشرق بالامل والفرح..

المقدمة:

يقول على العريشي  في المقدمة التي كتبها  للديوان :

“رحلة مسافر بين الكلمات إهابها أضحى مخطوطة مرصعة بذكريات حياة، مفعمة بالحب والفرح، بالأوهام والأحزان التي تكتسب على التوالي حياتها على الصفحات البيضاء وتقبض على الزمن.

كل قصيدة هي ولادة دائمة يتم بمقتضى فعلها الإبداعي خلق ذكرى دائمة تكوي جلد الشاعر عبد اللطيف البحيري مثل أرواح أو حالة نشوة، لتخليص الروح المعذبة من تداعيات الماضي.

ماض حاضر موشى بالحب، بالأسى، بالحنان، بالإدراك، بخيبة الأمل، بالفرح، بالرغبات، بالريبة، بالقلق، بالمخاوف، بالأمل، باليأس، بالجنون، بالحكمة، بالانبعاث، بالتجدد.. دفق من المشاعر التي يستعرضها الشاعر في هذه الأضمومة والتي تشكل على مدى صفحاتها حياة بكاملها على هيأة ذكريات دائمة.. إنها مجموعة تلقي بنا في حميمية ناظمها، انطلاقا من هذه اللحظة القاسية الصعبة للإبداع، وهذه الدعوة إلى ملهمته، والمناجاة مع الطبيعة.

حينما يولع الشاعر بكل فعل، بكل حرف صامت، بكل حرف صائت، يصرفها بطريقة هارمونية واحدا واحدا وفقا لآلامه وأفراحه مثل أستاذ يطلق رشاش يراعه ليسلمنا إلى دوامة الأبيات التي تنشد هذا الطرب البهيج.

بالنسبة إلى عبد اللطيف البحيري القصيدة هي إقلاع دائم، سفر في متاهات الروح، التي تنبثق أيضا من بين كلماتها. إذن هي ذكريات دائمة، وهي بالنهاية باقة زاهية الألوان من صميم حياة الشاعر”.

استنادا إلى كل هذه المقدمة البديعة المركزة، نخلص إلى أن هذه المعطيات والرؤى التأويلية هي وسيلة الشاعر عبد اللطيف البحيري للقبض على الزمن الضائع والسفر بنا بين تلافيف ذاكرة موشومة بالجمال والفرح والألم والأمل، ليستعيد لنا من خلال أشعاره البديعة حياة كاملة غير مصابة بأمنيزيا الأحداث والذكريات، وتشتغل على مثنوية الماضي السحيق والحاضر العميق بكل خساراته، كيف يمكن إذن للذكريات وهي محض أحداث وتهويمات وتهيؤات وأخيلة آنية عفا عليها الزمن، وأصبحت في حكم الماضي البعيد إن تبعث وتصبح ثابتة وراسخة وأبدية وربما حية في لاوعي الشاعر وملازمة له على الدوام.

يقول برغسون: “إن كل حياتنا الماضية موجودة بأكملها، بأدق تفاصيلها ونحن لا ننسى شيئا، وكل ما أدركناه وفكّرنا فيه وأردناه منذ بزوغ شعورنا يظل موجودا إلى غير نهاية”.

هكذا نختصر علاقة الشاعر بالزمن وبالأشياء والأمكنة والمحسوسات، وبتطلعاته المحفوفة بالهواجس والكبوات الى حياة أكثر إشراقا ممهورة بالأمل والفرج، هذا التناقض في المفاهيم والرؤى يكسب الحياة توازنا وكمالا، لأن الحياة بروتينيتها وبندرة التجارب فيها لا تستحق أن تعاش. لا بد هناك من عشق لهذه الحياة ومن معاناة وألم.. هكذا على الأقل ما نتصور. لا يقول الشاعر ذلك مباشرة، بل يؤثر أن يحدثنا عن الشواطئ والبحار والمحيطات وفصل الربيع، عن عطر الزهور وتفتح الورود وابتهاج الطبيعة، وعن الزمن الماضي والذكريات والأحلام عن إيولوس إله الرياح، وابنه سيزيف، وبوسيدون إله البحار ومورفيوس إله الأحلام والكثير من الكائنات الأسطورية، لكن أيضا عن مزيد من الإكراهات والخسارات والحروب والبراكين وكل ما يوحي بذلك.

لكل هذا تأتي النصوص تبعا لتصورات الشاعر ومزاجه مفعمة بشحنات من العواطف الجياشة تختزل مسيرة الكون الشاعر وتربطه بماضيه وبذكرياته وبالأشياء التي يتوجس فيها علاقة بالأشياء الحميمية والجميلة تلك التي تحسسه بكينونته، وتمنحه دفقا من الأمل لمواصلة الحياة والانصهار فيها حتى ليبدو للقارئ أن النصوص تنحو نحو الاحتفاء بالتفاصيل اليومية والمرئيات والتصورات بطريقة لا تخلو من “النوستالجيا” والتوق إلى زمن أفضل ينقذنا من عزلتنا وخساراتنا المزمنة في واقع يغلفه الحزن والألم. هذا الانفلات الزمكاني المراوح بين متتاليات محسوبة قاسمها المشترك التذكر والتخيل، الانفتاح والانغلاق، الوضوح والإبهام، الإشراق والقتامة، الحقيقة والخيال، اليقين والوهم، السكينة والحيرة، الحلم وحلم اليقظة في مطلقها اليقيني  في محاولة للتشبت بالحياة وبعثها من رمادها كالفينيق.

الإهداء:

هناك دوما خصوصيات في دواخل الشاعر لا يمكن كتمانها. وهي تشكل مرجعيات يعتمدها في توزيع أريحيته وفيء حنانه وحبه على مريديه، فهو لا يستثنى أحدا، لكل واحد نصيب، هكذا يفتح الأديب قلبه ليزف البشارة  على نحو تدريجي مستهلا بالأسرة الصغيرة  منها إلى كل أصدقائه ، ثم يتوسع كوسموبوليتيّا إلى كل الشغوفين بالشعر،  إذ حيثما يكون الشعر يكون الجمال والصدق.

الذكريات والأحلام:

في الأحلام نحيا حياة موازية للواقع بكل تفاصيلها وأحداثها. لهذا يصر الحلم على الحضور وعلى إقحامنا بقوة في عوالمه السحرية بتكرار اللفطة حوالي 15 مرة.

في قصيدة ” شمس ليالي ” نقرأ:

” وأنا استيقظ باكرا هذا الصباح لاحظت أن الشمس قد اختفت، بالرغم من أني طيلة الليل كان لي معها حوار عبر متاهات هذياني

التقطت أنفاسي معتقدا أن الأمر مجرد تجهم عابر. فقررت الخروج لأروح عن نفسي

اثر بضع خطوات فوجئت بنور منبعث من جدول على تخوم بستان خرب، أصبح الضياء أكثر حدة بحيث لولا ذراعي لفقدت الرؤية، وشيئا فشيئا بدأت حدة النور تتلاشي واستطعت التعرف إلى شمس حلمي”.

يلاحظ القارئ أن الشاعر يحلم وهو في عز منامه بأن الشمس قد خسفت واختفت فيجري معها حوارا شاعريا.

يتماهي العنوان الأصلي شمس ليالي” Soleil de mes nuits ” في تجانس صوتي مع تعبير مجازي ” métaphorique ” آخر في غاية الإيحاء  يحيل ضمنيا على ” شمس منتصف الليل – Soleil de minuit “، وهو طباق يتداخل فيه الحلم والإحساس بالحرمان مع الرغبة في حياة يحدوها الأمل ..

يورد الشاعر عمدا  عدة مقابلات لفظية  غير مألوفة في تعبيرات موحدة كالضياء والعتمة، النوم واليقظة، الشمس والظلام.. بنيّة الدعوة إلى الانفتاح على المستقبل في مواجهة العتمات وانسداد الآفاق وفقدان الثقة في الواقع.

قد يبدو التضاد جليا على مستوى المعنى، فيما يشكل على المستوى البلاغي صورة شعرية بديعة، يطلق عليها فقهاء اللغة مصطلح ” أوكسيمور”. وهي أسلوب  يراد به الربط بين مصطلحين على طرفي نقيض .وهو ما يجعل النصوص محكومة بجدلية الخفاء والتجلي..

في عالم الأحلام تنمحي التخوم بين المعقول ونقيضه وتتلاشى..

الفيلسوف التاوي ” شوانغ تسو ” حلم يوما أنه تحول إلى فراشة، وحينما استيقظ لم يعد متيقنا  أن كان يحلم بأنه فراشة، أم أنه فراشة تحلم بأنها هو، والأمر  نفسه بالنسبة  إلى غريغوار سامسا بطل قصة  المسخ  لفرانز كافكا الذي أفاق من أحلامه المزعجة فوجد نفسه قد تحول إلى حشرة ضخمة.

تلك هي وظيفة الشعر التي دفعت بمفكر كبير كغاستون باشلار-  وهو أول من شعرن العلم إلى القول “إن وظيفة الشعر الكبرى هي أن يجعلنا نستعيد مواقف أحلامنا”

ومما لا يخفى أن الشعر لا يتحقق إلا بخلق لغة شاعرية خاصة، مع اعتماد ترسانة من الأنساق اللغوية والتعابير المجازية تلميحا وتوضيحا، وهنا تكمن عبقرية المبدع وجمالية الإبداع على السواء.

في الشعر لا تبتكر الكلمات بل تتذكر  في أثناء الكتابة، هي الأداة التي يكون بها  التفكير  وتطوير المدارك، هي الوسيلة التي بها يحلم  الإنسان ويتأمل، هي أساس العملية الإبداعية، والكتابة الشعرية تمارس دورها  من حيث هي فعل إنتاج المعرفة. اللغة في الإبداع هي حسب مارتن هيدغر جوهر لإثبات الوجود والكينونة .

ولمّا كانت ثمة مواقف نسيان كثيرة ، فالذكريات هي انبعاث ومضات وأحداث من الماضي، وإثارتها لا تعني اجترار الماضي واستعادته على نحو  محنط ،نمطي أو ميتافيزيقي، إنها محاولة لتجاوز أمنيزيا الذات قصد استعادة توازن روحي ونفسي بالانغماس في الأحلام واجترار أحلام اليقظة والهواجس.. إنه ماض حاضر باستمرار محفوف بالأمل..

هكذا تبدو الذات منفلتة في الزمان والمكان، وهي تهيم في كل الاتجاهات، ساعية  إلى استكناه جوهر الأشياء وعناصر الكون، فتتفاعل لأجل خلق لحظة تأملية نسترجع بها ما فات، وتتحول إلى عناصر ملهمة تمتعنا وتؤنسنا..  في محاولة لتجاوز الحيز الفيزيقي والتصور الغرائبي للأحداث والأشياء إلى المألوف من الظواهر الطبيعية، وأحيانا من خلال مشاهد سوريالية يوظفها الشاعر ليشير بها إلى عدمية الوجود والخوف والتوجس من الأتي ورسم خطاطات لتجاوزه بصلابة العزم وقوة الشكيمة.

الذكريات استعادة ما ينفلت منا ساعة الصحو، وساعة السهو.. وهي وقائع حياتية نسيناها أو كدنا لكن نستعيد أطوارها في المنام أو أحلام اليقظة، وأحداث مماثلة نعيش أطوارها من جديد، او نتف من الذكريات الجميلة او البائسة تنبري من سجوف الماضي البعيد. وانبعثت فجأة  و على حين غرة.. لكن هل بمقدورها إعادة الحياة إلى الأشياء واستنساخها.

الامكنة والازمنة:

رغم أن المعجم الذي يحيل على الطبيعة بكل مكوناتها وعناصرها الأربعة يفرض نفسه في أكثر من نص، إلا أن العلاقة بينه وبينها تظل متأرجحة بين القبول والرفض، بين الاتصال والانفصال، بين الانبهار والنفور، وبين الخضوع لناموسها وانتقاد الكثير من ظواهرها الشائنة باعتبارها نشازا يراوح بين الغربة والضياع، الألفة والعزلة، الأمان والتيه، الإشراق والأفول، الغواية والنفور

فتيمة الكينونة برغم تجددها المستمر أشبه بالخيوط التي تربطنا بالوجود وبالحياة. أنها صيغة من صيغ إرادة الحياة، تحلق بنا في فضاء المعنى. هذا ما يفسر الحضور المكثف للمعجم المرتبط بكلمات الروح الذكريات والأحلام الأرض المحيطات البحر الغابة الشمس الجداول في كذا نص شعري..

للزمن أيضا حضوره المتماهي مع المكان، ويشكلان معا ركنا أساسيا في الخيال الأدبي كما هو بالنسبة إلى العلم أيضا، يمنحه هويةً مختلفة عن الواقع الحقيقي.

يخلص بورخيس إلى إن الشعر كالزمن “إذا لم تسألوني ماهو، فإني أعرفه، ولكن إذا سألتموني ما هو، فإنني لا اعرفه.. ويعتبر أيضا أن أعظم المتع التي صادفها في حياته هي إمكانية حياكة الكلمات وتحويلها إلى شعر..

يقول هيراقليطس “إنك لا تستحم في النهر مرتين””

إن مياه النهر لا تستقر على حال واحدة.. وكذلك بالنسبة إلى الزمان سواء بسواء إنه ضرب من المجاز.

الشعر والترجمة:

أشعار عبد اللطيف البحيري من نوع السهل الممتنع. هكذا أوجز منذ البداية الحالة العصية التي تصادف القارئ ومترجم أشعاره على الخصوص  لا سيما من غير المتمرسين مثلي.. فأسلوبه على رقته وجزالة لغته وبساطة تراكيبه المنتقاة بعناية فائقة أنيقة تغريك بعشقها وتسافر بك مفردة أجنحتها في فضاء جواني يفيض بالرقة والجمال.. لهذا تفرض عليك نصوصه تحديا  كبيرا في نقلها بأمانة،لأن هناك ترجمات جنت على النصوص الأصلية جناية فظيعة لكون أصحابها  أرادوا إسقاط تصورات شخصية عليها  أو تأويل بعض الكلمات/التعابير في محاولة قسرية لإخضاعها لــ”سرير بروكوست”.

هناك من يعتقد كما أحد الإيطالين أن الترجمة خيانة، وهي بشرط  في تقدير عمرو بن بحر الجاحظ الذي يقول في كتاب الحيوان: ” لابد للترجمان من أن يكون بيانُه في نفس الترجمة، في وزن علمه في نفس المعرفة”، وهي نفس الرؤية لجاك دريدا الذي يرى أن الترجمة مستحيلة ومتعذرة وهي إما حرفية  تقتصر على نسخ النص الأصلي او مؤولة تراعي خصوصيات الثقافة المستقبلة، وهي تحايل، وهي نقل، وهي استنبات، وهي حوار بين ثقافات، وهي صورة للنص الأصلي.. وهي بديل.. وهي مفاوضة بين نسقين ثقافيين.. وهي ” السيمولاكر” الذي يعني به فوكو الكذب الذي يجعلنا نأخذ علامة بدل أخرى.

وهي تأليف بحسب موريس بلانشو،صيغة من صيغ عدة يحكمها المزاج وتخضع لعملية تأويل قلما ترضي ذائقة صاحب النص الأصلي لكن ما كل شيء قابل للترجمة.

نقف هنا إزاء أعمال عدة ظلت عصية عن الترجمة..تصورات عدة لكن لامناص من الترجمة لأن “الكيان الذي لا يطرأ عليه  أي تحوّل يصير إلى زوال” بحسب مزاعم غوته.

خاتمة :

نحن إزاء شاعر يمتلك ناصية القول، مفعم بالأحاسيس الإنسانية، عميق الثقافة، متعدد المرجعيات الإبيستيمية، يكتب بهدوء وتمعن، ودون تصنع وتكلف، ومزايدة. أقصد بالكثير من عشق للغة والشغف بالكلمة الشاعرة، وبالكثير من الخبرة والموضوعية اللتين تسعيان إلى  اختزال المسافة بين المعيشي والمتخيل، والمجاورة بين التذكر والتبصر، والمزج بين الأسطورة والواقع، والتماهي بين الحلم والواقع  على نحو يشي بعمق التجربة الشعرية لدى عبد اللطيف البحيري، ذلك أن تعدد المناهج النقدية دليل على خصوبة النص وعمقه. وقد حاولت  في هذه القراءة التفكيكية الانطلاق من مقاربة السمات الدلالية في ديوان ” ذكريات سرمدية “. إيمانا مني بأن اللغة بكل انزياحاتها وسحرها وسطوتها، هي سليلة معيار وحمالة معان، بما تتحمله من التعبيرات البلاغية وجمالياتها، وستبقى الجسر الرابط بين الأديب والمتلقي، ذلك أن المعجم الشعري الشفيف برومانسيته، بأحاسيسه الرهيفة الجياشة، بهارمونيته بإيقاعية موسيقاه، بتوسله بالتكثيف والاستعارات الاليغورية والصور الشعرية الشائقة يفرض على القارئ الحصيف سحره، ويبحر به، مجدفا في بحار لا ضفاف لها من المتعة المعرفية والنشوة الروحية،اللتين تكادان تظهران للعيان عواطف الشاعر وانفعالاته من فرط رقتها.. ولعل ” أشعر النَّاس منْ أنت في شعره حتَّى تفرغ منه” .هذا على الأقل ما قاله أبو محمد عبدالله بن مسلم ابن قتيبة الدينوري في كتابه الشهير الشعر والشعراء.

أخيرا وليس آخرا، لا أدعي أن هذه القراءة المتواضعة تسعى إلى الإحاطة بكل جوانب التجربة الشعرية للشاعر عبد اللطيف البحيري، مع اعتذاري لكم إن أخذت من وقتكم ما يكفي، راجيا أن أكون قد وفقت بعض التوفيق ، وقبل الختام يحضرني في هذا المقام البيت  التالي من الشعر العربي القديم  :

ولو خيّرنا لما افترقنا   ولكن لا خيار مع الزّمان

 

 

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*