بين النّصّ المسرحيّ ” راعي النّجوم ” (1) وأدب الدّوعاجي السّرديّ : انفصال أم اتصال؟ : محمّد صالح بن عمر

يثير نصّ ” راعي النجوم ” لعلي الدّوعاجي ( 1909 – 1949 ) أسئلة أجناسيّة وجيهة  لعلّ أهّمها ثلاثة : الأوّل  : ما السّبب  في كونه النصّ المسرحيّ الوحيد القصير ذا المشهد الواحد  الذي  ألّفه صاحبه باللّغة العربيّة الفصحى من جملة ما يزيد على مائة وستين نصّا  كتبها باللّهجة التّونسيّة الدّارجة  للإذاعة   وخمسة عشر نصّا متعدّد المشاهد  أنشأها أو ترجمها  للتّمثيل  على خشبة المسرح ؟  والآخر هو هل كتب هذا النصّ أيضا  ليُمثّل ؟ وهذا مستبعد  لسببين : الأوّل هو أنّه  جعل  الشّخصيّتين الوحيدتين فيه  عاريتين   والآخر  أنّ الجمهور لا يؤمّ قاعة المسرح  مبدئيا لمشاهدة فصل وحيد لا يستغرق تمثيله أكثر من عشرين دقيقة  .أم هل أنشأه ليذاع أو لينشر فحسب ؟   مع الإشارة إلى أنّ  هذا الغرض الثالث هو الذي كتب من أجله محمود المسعدي  عمله المسرحيّ  ” السدّ ” . وهو ما جعله يحتجّ حين سمع بأنّه مُثّل . لذلك عدّه بعضهم رواية لا مسرحيّة . والسّؤال الثالث هو: ألاّ يكون نصّ ” راعي النّجوم ” قصّة  حواريّة خالصة خلا منها السّرد والوصف  إلاّ ما  جاء على لساني الشّخصيّتين الوحيدتين فيه وهما ” راعي النّجوم ” والمرأة التي ترافقه ؟

وللإشارة قد  صدر هذا النصّ لأوّل مرّة  سنة  1944 بمجلّة ” المباحث ” في ركن بعنوان ” قصّة العدد ”  لاقتناع المسعدي رئيس تحرير تلك المجلّة  كما نرى بأنّه قصّة لا مسرحيّة   . لكنّ دار الثّقافة ابن خلدون بتونس العاصمة  أعادت نشره سنة 1969  في كُتيّب  ضمن سلسلة مسرحيّة   كان يديرها الكاتب المسرحيّ والقصّاص المرحوم   سمير العيّادي العارف جيّدا  بشروط الجنسين . لكنّ رفيقه في حركة الطّليعة آنذاك  الكاتب المسرحيّ والقصّاص أيضا عزّا لدين المدني أدرج هذا النصّ سنة 1969 ضمن مجموعة الدّوعاجي القصصيّة سهرت منه اللّيالي التي سهر على جمع نصوصها والتّقديم لها (2)، عادّا إياّه قصّة لا مسرحيّة ،غير أنّه تراجع عن موقفه هذا بعد أربعين عاما في مقال نشره  سنة 2009  عدّ فيه النصّ نفسه ” مسرحيّة بأتمّ معنى هذا الجنس الأدبيّ/ الفنّيّ وليست قصّة ولا رواية ولا مقالا فكريّا تأمّلياّ ” (3)

فإذا سلّمنا بأنّ هذا النصّ  نصّ  مسرحيّ وبكونه إذن  الوحيد الذي كتبه  الدّوعاجي  بالفصحى  مع أنّه كان  غزير الإنتاج في هذا اللّون من الكتابة وأنّ قصص هذا الكاتب  الستّ عشرة ورحلته الموسومة ب  جولة بين حانات البحر المتوسّط  قد  كتبها كلّها بهذه اللّغة فإنّه يكون  عندئذ نصّا معزولا   وسط مجموع نصوصه الأدبيّة حيث يلوح بمنزلة الجزيرة في بحر  أو العضو الدخيل أو الزّائد المتنافر و بقيّة الأعضاء  . وهو في ذلك شبيه كلّ الشّبه من هذه النّاحية بقصّة البشير خريّف  ” المروّض والثور ” التي خرجت لسبب مجهول  عن خطّ مؤلّفها الواقعيّ . وهو الخطّ  الذي  دأب على  السير  فيه طيلة  ما يزيد على أربعة عقود ونصف في جميع قصصه الأخرى ورواياته . فكانت القصّة الوحيدة التي  وظّف فيها العجيب والرّمز الحيوانيّ  وجعل أحداثها تدور  في إطار مكانيّ غير تونسيّ  وهو الأندلس .

طبعا  لا يستبعد المرء أيضا  إمكانا آخر. وهو  احتمال   عدول الكاتب أو الشّاعر   مهما كان في أحيان قليلة  أو نادرة  عن المسلك الفنّيّ الذي اعتاد السّير فيه ،  إما لمجرّد تجريب الكتابة في لون  آخر أو لاستغلال فكرة طريفة  خطرت له على نحو مفاجئ و لا يتهيّأ له استثمارها  إلاّ في ذلك اللّون  بالذّات . بل قد يكون السّبب أيسر من كلّ ما ذكرنا . وهو أنّ الدّوعاجي إنّما  كتب نصّه ” راعي النّجوم ”  للإذاعة مثل  نصوصه التمثيليّة الأخرى التي كتبها بالدّارجة .  لكنّ النّجاح لم يكن حليفه  لإقبال معظم المستمعين في ذلك الوقت على التّمثيليّات النّاطقة باللّهجة التّونسية وحدها من جرّاء تفشّي الأمّيّة في الشّعب التّونسيّ   .

هذه كلّها احتمالات ممكنة .  لكن لا سبيل إلى البتّ في أيّها  الصّحيح إلاّ إذا  ظفرنا بشهادة في هذا الشّأن  لأحد معارف الدّوعاجي المقرّبين الصّدوقين حتى إن كانت  مخطوطة . ولعلّنا لن نعرف الإجابة  المقنعة الشّافية عن أسئلتنا هذه إلى الأبد .

لكن إذا كان الجانب الأجناسيّ في نصّ ” راعي النّجوم ”  يثير مثل هذه الأسئلة البالغة التعقّد  فإنّ  طبيعة جنسه الأدبيّ  مهما كانت لا تمنع إمكان انصهاره  من جهات أخرى في تجربة الدّوعاجي الأدبيّة، لا سيّما أنّ لهذا المبدع المتعدّد المواهب  أسلوبا متمّيزا في الكتابة  وتوجّها فكريّا واضحا  إن  لم يكن – والحقّ يقال –  عميقا  مثلما هو الحال عند محمود  المسعدي أو حتّى البشير خريّف ،  بلورت خصائصهما  الدّراسات والبحوث الكثيرة التي تناولت قصصه إلى حدّ أن أضحت معلومة متداولة  .

فكيف يلوح لنا ، إذن ، هذا النصّ من جهتي الأسلوب ومنحى التّفكير  في علاقته  برحلة الدّوعاجي  وقصصه الستّ عشرة  ؟ وهل هو متنافر و إياّها على هذين الصّعيدين أيضا  ؟

الفكرة القادحة : المفارق / الواقعيّ / الإنسانيّ :                             

تحكم اختيار الموضوع  ، بوجه عامّ  ، في نصوص الدّوعاجي السرديّة  قواعد ثلاث : الأولى   طابعه المفارق و الثّانية  ارتباطه الوثيق بالواقع اليوميّ  والثالثة انطواؤه على أبعاد  إنسانيّة كونيّة . ولا فرق في ذلك بين أن يكون جدّيا أو هزليّا  ، خلافا لما هو متداول من أنّ  هذا الكاتب إنّما هو كاتب هزليّ  وأنّ من خصائص أسلوبه القارّة الفكاهة والمرح .

إنّ أوّل ما يلفت الانتباه في نصّ ” راعي النّجوم ” هو أنّ  الموضوع الذي يدور حوله موضوع جديّ لا هزليّ . وهو صورة الرّجل المثاليّة  في عين المرأة ومدى استجابة الشّاعر أو الفناّن عامّة  لتلك  الصّورة ؟

وهذه الملاحظة  ضروريّة منذ بدء حديثنا عن هذا النصّ ، لأنّ ممّا عرف به علي الدّوعاجي  في نصوصه السّرديّة هو  روحه المرحة  التي توقّفنا عندها شخصياّ في دراسات سابقة  ، كما توقّف عندها غيرنا . لكنّ هذه النزعة ليست مع ذلك   من الثّوابت عنده ، إذ قد خلا منها عدد من  قصصه  مثل ” مجرم رغم أنفه ” و ” أحلام حَدِّي ”  و ” قتلتُ غالية ”   و ” سرّ الغرفة السّابعة ” و ” أمِنْ تَذكُّرِ جيرانٍ بذي سَلمَِ “. وهو ما يدلّ على أنّ هذا الكاتب كان مزاجيّا  من هذه النّاحية لا يستقرّ على حال  وأنّ السّمة الأولى للفكرة القادحة أو النّواة الدّلاليّة التّأسيسيّة التي ينبثق منها نصّه الإبداعيّ  إنّما  هي  طابعها المفارق دون اعتبار لاصطباغها بلون الجدّ أو الهزل.

وإذا تأمّلنا موضوع  نصّ ” راعي النّجوم ” من هذه الجهة بدا لنا  مفارقا فعلا . ففكرة كون المرأة لا تحبّ الرجل إلا إذا ملكها أي قَبِلَ  الزواج بها  شرعيّا  مع  الخضوع التامّ لمشيئتها  ، فكرة مفارقة حتّى إن لم تكن ذات بُعد فلسفيّ عميق .  وهي ،  في حقيقة الأمر ،  من التّصوّرات التي  يمكن أن تتمخّض عنها بعض  التّجارب الفرديّة  حتّى في  أسفل الهرم الاجتماعيّ . وهذا يجعل من المحتمل ألاّ يكون الدّوعاجي قد استوحى هذه الفكرة من مطالعاته و أن يكون ، على عكس ذلك ، قد التقطها من  فم أحد جلسائه اليوميّين بمقهى ” تحت السور ” أو خارجه .

إنّها تنتمي  إذن إلى الفلسفة الشّعبيّة   . وهو ما يجعلها تتنزّل من  ثمّتَ في صميم تجربة الدّوعاجي الأدبيّة التي قامت منذ خطواته الأولى  على مبدإ  الاستلهام الحيّ . ومثل هذا الاستلهام لا يكون إلاّ من الذاّت والواقع اليوميّ المعيش  لأنّ استقاء موضوعات الكتابة  السّرديّة أو الشّعريّة أو المسرحيّة من المطالعات وحدها  غالبا ما يسم الأثر الأدبيّ بطابع التصنّع ولا تتيح لصاحبه  إمكان شحنه بحرارة الألق الفنّيّ وتوهّجه .

فالمفارقة ، إذن ، جليّة في هذه النّواة الدّلاليّة التّأسيسيّة . وهي كامنة في التّناقض  غير العاديّ بين رغبة المرأة في أن تكون ملكا للرجل  و أن يكون في الوقت نفسه عبدا لها . وهو شبيه بالتّناقض الذي قامت عليه  الفكرة التّأسيسيّة لقصّة ” سهرت منه اللّيالي ” حيث اجتمع في نفس الزّوجة الاشمئزاز من زوجها إلى حدّ مجاراة خالتها فيما دعتها إليه من الانفصال عنه بالطّلاق و التعلّق به  رغم سوء معاملته لها ، كما أنّه لا يبعد كثيرا عن التّناقض الذي  انبنت عليه الفكرة القادحة في قصّة ” الرّكن النيّر ” .  وهي اتّصاف البطلة مفيدة  القينة   بمنتهى القسوة وجفاف المشاعر الإنسانيّة .  لكنّها تحنو مع ذلك ليلة عيد أضحى على بنت بائسة لا تعرفها فتتكرّم على والدها  بخَرُوف  وترافقه إلى البيت لتستمتع برؤية تلك البنت وهي فرحة بخروف العيد .

ولعلّنا لا نظفر بمثل هذا التّناقص في رؤى  الشخوص الذكور الذين اتّخذهم  الدّوعاجي  أبطالا لقصصه و مواقفهم وسلوكهم . فملامح الرّجل الذّهنيّة والنّفسيّة  حتّى إن كان مفارقا للسّائد من حيث هيئته الخارجيّة  مثل العمّ باخير السّقّاء  فهي دائما متجانسة واضحة . وهو ما قد  يشي بأّن لهذا الكاتب موقفا  معيّنا من بنات حوّاء  يكشف عنه هذا  التردّد العالي  في قصصه للتناقض الذي يحكم  نفسيّة المرأة  ورؤاها حتّى إن كانت المعلومات التي جمعت حول حياته لا تفيد بأنّه كانت له تجارب مهمّة لافتة مع الجنس الآخر. ففي جولته بين حانات البحر  المتوسّط   التي  التقى فيها بعدّة نساء   لم يرتبط  ارتباطا عاطفيّا بأيّ منهنّ أثناء مشاركته في تلك الرّحلة .  وكلّ ما أورده في هذا الشّأن هو أنّه راقصَ فتاةً  لا يعرفها في مرقص ليليّ  بمدينة نيس ومارس الجنس مع راقصة تركيّة اصطحبها إلى بيت والدتها العجوز فلم يجداها فيه .

على أنّ ما يهمّنا هنا بالذّات  هو  أنّ نصّ ” راعي النّجوم ” ينصهر  من حيث الفكرة النّواة التي تأسّس عليها في صلب الأعمال  الأدبيّة لعلي الدّوعاجي على الرغم من  اختلافه عنها أجناسيّا .

الخاتمة المفاجئة :

تتحقّق المباغتة في السّرد عامّة بتوظيف الأحداث والمواقف والأفكار المفارقة للسّائد . ويتحدّد الغرض منها في إرباك القارئ والأخذ بلبّه قصد شدّه إلى الحكاية وحمله على متابعتها إلى النّهاية . ومعنى ذلك أنّ الأمر لا يتعلّق ضرورة بموقف فكريّ قوامه مناوأة السّائد والتمرّد عليه وإنّما بتقنية سرديّة كغيرها من التّقنيات ، إلاّ أنّ النّجاح في  استخدامها ، مع ذلك ،  يتوقّف على توفّر قدرات انتباهيّة خارقة لدى الكاتب . وهي قدرات برهن الدّوعاجي في رحلته وجلّ  قصصه  على تمتّعه بها إلى حدّ بعيد  .

ففكرة كون المرأة يحكم رؤيتها للرجل التّناقض بين رغبتها في امتلاكه إيّاها وخضوعه لها خضوع العبد هي  فكرة  مباغتة في حدّ ذاتها لطابعها المفارق . لكنّ هذه المباغتة نابعة من ذاتها لا من استخدامها في نصّ  حكائيّ . أمّا  في النصّ الذي بين يدينا فالمفاجأة قد تحقّقت بتأجيل تقديم تلك الفكرة إلى الأسطر الأخيرة من النصّ ،  تماما مثلما هو الحال في الأقصوصة الكلاسيكيّة .

وهكذا فلمّا كانت تلك الفكرة فرضيّة أي تصوّرا معيّنا  لموقف المرأة من الرّجل  فإنّ تأخبرها يحقّق هدفين اثنين : الأوّل فنّيّ وهو قوّة المباغتة .  والآخر دلاليّ وهو  منح النصّ بعدا حجاجيّا قوامه التّفكير الاستنباطيّ . لكنّ الهدف الأوّل هو الذي يهمّنا هنا بالّذات ، لأنّه  به ينصهر النصّ أيضا في تجربة المؤلّف الأدبيّة . ذلك أنّ هذه التّقنية نفسها قد استخدمها في قصّة  ” مجرم رغم أنفه ” حيث جعل البطل يروي  لرفيق سفر التقى به مصادفة في عربة قطار الأحداث التي تسبّبت في دخوله السّجن  . وحين أكمل الحكاية وحان موعد نزوله من القطار اكتشف أنّ ذلك الرّفيق أصم أبكم . وكذلك في قصّة ” الرّكن النيّر ” التي  يذهب في ظنّ القارئ  حتّى الأسطر قبل  الأخيرة منها  أنّ المقصود به  هو ركن ماديّ  لكنّه يكتشف في النّهاية أنّه ركن مجازيّ  حين يقول الكاتب : ” لا تشكرني على شيء إنّما الشّكر لله الذي أبقى في قلب القينة ناحية بيضاء ناصعة ينيرها نور الحنان . وهو أبهى الأنوار وأكثرها تلألؤا ” .  ولا تبعدُ عن هذه الطريقة في بناء الحُبكة    قصّة ” سهرت منه اللّيالي ”  التي  توحي كلّ الإشارات اللّفظيّة في كلام الخالة وردود الزوجة عليها  من بداية القصّة إلى قُبيل اختتامها بأنّ قرار الانفصال بالطلاق  وشيك . لكنّ الدّوعاجي يباغت القارئ  في السطر الأخير بهذا القول غير المنتظر للزّوجة  تخاطب به خالتها : ”  دعيه ينام … المسكين … لقد سهر كثيرا ليلة البارحة يا خالتي …” .

ولقد عزّز الكاتب  في نصّه ” راعي النّجوم ”  هذه  المباغتة  المتولّدة عن تأخير موقف المرأة المفارق من الرّجل إلى الخاتمة  بتأجيل الإفصاح  عن المعنى الرّمزيّ للعنوان أيضا  إلى هذه  المرحلة نفسها من الحكاية   . وهو  أنّ المقصود به هو الشّاعر  أو ربّما  المبدع عامّة . وذلك في قوله : ” ولا ترضى ( المرأة ) إلاّ إذا وعدها ( الرّجل ) بأن لا يقول لها شعرا ” .

ولا يخلو هذا ا لعنوان من المراوغة . فإثبات صفة الرجل فيه يوهم منذ البدء بأنّه هو البطل . لكنّ   الحوار الذي دار بينه وبين المرأة   قد كشف عن كون كلّ تدخّلاته ليست سوى مطايا  لإبراز موقفها منه ومن الرّجال عامّة  وبلورته . وهو ما  يرفعها إلى درجة  البطلة  مقابل النّزول به  إلى رتبة الشّخصيّة الثاّنويّة . يضاف إلى ذلك  أنّ الرّجل في هذا النصّ  ليس صورة للجنس الخشن  بوجه عامّ وإنّما هو    أنموذج لصنف معيّن من الرّجال هو صنف الشّعراء أو الفنّانين . وفي هذا الحصر اختزال لأبعاده  مقابل  وسم صورة المرأة المرافقة له بالإطلاق على اعتبارها  ممثّلة للجنس اللّيّن بأسره .

وممّا قوّى درجة المباغتة في الخاتمة نفسها  أنّ الحوار الذي دار بين الشّخصيّتين قد اتّسم منذ البدء بمواجهة حادّة بينهما كشفت عن قطيعة فكريّة تنبئ باستحالة التّلاقي والتّفاهم . لكن في لحظات وجيزة من انتهاء الفصل ارتمى كلّ منهما في أحضان الآخر  ربما للإيحاء بأنّ كلّ التناقضات الفكريّة والنّفسيّة التي يمكن أن تقوم بين المرأة والرّجل ليست كافية لإلغاء عاطفة الحبّ إذا نشأت بينهما .

وهكذا نرى أنّ الدّوعاجي جعل خاتمة هذا  النصّ مركزا للثّقل الفنّيّ بتضمينه ثلاث مفاجآت  في آن واحد .

شحن السّياق بالمفارقات  :

من التّقنيات القارّة في أدب الدّوعاجي السّرديّ ترصيع السّياق الحكائيّ بالدّلالات والأقوال المفارقة  مثلما هو الشّأن في مستوى البنية العامّة للنصّ .  ففي ” راعي النّجوم ” الذي اختزل بحكم طابعه المسرحيّ في حوار ، قد انحصرت المفارقات في القول دون الفعل  و تحقّق  معظمها بطريقة القلب .

أمّا المفارقات الدّلاليّة   فما هي ، في الحقيقة ، إلا ممهّدات تصبّ جميعها  في الموقف المفارق الختاميّ الذي أنشئ النصّ من أجل الإفصاح عنه . وهي تتوزّع على محورين :  صورة المرأة كما يتمثّلها الدّوعاجي وصورة الرّجل على النّحو الذي تتصوّره هي . وكلّ من الصّورتين تكمل  الأخرى .

فالمرأة  طبقا لهذا التصوّر تختصّ بالصفات التّالية :

  • كثرة الأسئلة ( يقول الرّجل لنفسه : ما أكثر أسئلة المرأة ) .
  • حبّ الضّحك ( تقول : إنّ الضّحك أطهر من الطّهارة نفسها ) .
  • حصر اهتمامها في الرّجل ( تقول : أنا لا أعتني إلا بك ) .
  • كثرة الكلام ( يقول لها ألا تسكتين ؟ فتجيبه : أو تسكت المرأة ؟ ).

5 – قلّة المحافظة والحرص : ( تقول : أنا لا أستطيع ألاّ أضيع ).

6- عدم التّفريق بين الغاية والوسيلة  ( تقول : الغاية عندنا هي الواسطة ).

7- التعلّق بالموجود لا بالمنشود ( تقول :  نحن لا نبحث عمّا يجب وإنّا نتّبع سنن البشر – و تقول :  أنا امرأة شريفة والشّرف هو أن تعمل أعمالا شريفة . والأعمال الشريفة هي التي تواطأ النّاس على تسميتها بذلك  ) .

8- حبّ المال حتى إن كان الحصول عليه من غير السّبل المشروعة ( تقول : الأوراق … هي التي تخوّل حامليها ملكيّة الأرض  وتعيننا على أكل الطيّبات  و مالكوها يسرقونها بعضهم من بعض  والسّرقة مجاملة ومجابرة  للمسروق  )

9-  ترادف  الكراهية والعشق  ( تقول : أنا أكرهك و أكره فيك نفسي لأنّي … أعبدك … لأنّي … امرأة ).

إن حصر هذه الصفات في المرأة عامّة دون تخصيص  يدخل  بلا شكّ في باب المفارق لأنّها كلّها بلا استثناء ممّا يتّصف به الرّجل والمرأة على حدّ السّواء .

أمّا الرّجل – وهو كما قلنا – يجسد صورة الشّاعر أو الفنّان –  فقد أسندت إليه الصفات التّالية التي تكرهها المرأة لأنّها تعدّها سلبيّة رغم كونها تتراوح من منظور نظام القيم السائد بين العاديّ والمثاليّ . وهو ما يجعل  رفضها موقفا مفارقا للسّائد    :

  • يعيش فراغا ( يقول : ” أتعبتني الرّاحة ” – ” إنّي لا أجد الوقت لئلاّ أصنع شيئا ” )
  • جِدّيٌّ في علاقته بالمرأة ( يقول لها حين سألته ألا يستطيع أن يخزها بغير الإبرة  : ” أستطيعه لو كنت على خبث الآخرين ” )  وكذلك في رفضه للضّحك واعتباره إيّاه قذارة ( يقول لها : ” طهّري فمك من الضّحك ” ).
  • عاجز. وهذا العجز يشترك فيه من منظور المرأة مع كلّ الرّجال ( تقول : ” أرى أنّك لا تستطيع شيئا مطلقا مثل الآخرين وخيبتك هذه دفعتك إلى التطلّ ” ).
  • رؤيته منجذبة نحو الفجر أي نحو المستقبل باعتباره أهمّ من المرأة في حدّ ذاتها ( تقول : هو ينظر إلى الفجر ولا يراني أنا ” ).
  • لا يحبّ الثّرثرة ( يقول : ما أكثر أسئلة المرأة ثم ناهرا : ألا تسكتين ؟ ) .
  • ذو ضمير ( تقول له : لِمَ أطلعتني على الحقيقة . فيجيب : لأنّي ذو ضمير ” ).
  • لا يُحسن الكذب ( يقول : لا أُحسن الكذب ” ).
  • يؤمن بأنّ الغاية غاية والوسيلة وسيلة ( يقول : الغاية هي الواسطة ؟ هل تعمل شيئا لا لشيء ؟’).
  • يرفض السّرقة ( تقول له :” اسرق من أجلي شيئا ” . فيجيبها : ” لا ” –  “أنا لا أسرق “).
  • يحبّ جسد المرأة ” ( يقول لها : ” ما ألطف جسمك … ألا تعيريني إيّه ساعة أو أقلّ من ساعة ؟ ” ).
  • يتعلّق بالمعرفة . و يهوى الحديث عنها دون مقابل  ( يقول :”  المعرفة هي السموّ ” – ” لي لذّة أخرى في المعرفة هي الحديث عنها مع النّاس ”  ويجيبها حين سألته إن كان يجني مالا مقابل حديثه عن المعرفة : ” أنا لست بتاجر . هذا ما لا أفعله مطلقا لأنّ المعرفة لا تنقص ” ) .

أمّا الصّفات المثاليّة التي تبحث عنها  بطلة النصّ في الرجل ولا تتوفّر في هذا الأنموذج  فأكثرها يتضارب مع نظام القيم السائد . وهو ما يجعلها تتّسم أيضا بطابع المفارقة :

  • أن يكون محبّا للغناء والضّحك ( تقول بعد أن تطلب منه أن يغنّي ويسألها إن كانت تريد منه أن يضحك : ” أودّ ذلك ككلّ امرأة ” ) .
  • أن يكون منشغلا بشؤون الحاضر والواقع اليوميّ دون المستقبل والقضايا الوجوديّة ( تقول له : ” أنت لا تعجبني إلاّ إذا تركت التطلّع لرؤية النّور ورعاية النّجوم ” ).
  • أن يكون وقحا قليل الحياء ( تقول له : ” أريدك صفيقا تتطلّع في جسدي بنظراتك الملتهبة  حتى تحمرّ وجنتاي غيظا منك وخجلا من نفسي  ” ) .
  • أن تكون هي محور اهتمامه ( تقول له : ” اِرْعَني أنا ” ).
  • أن يكون مستعدّا للسّرقة من أجلها ( تقول له : اسرق من أجلي شيئا …اسرق لي سوار أزيّن به معصمي ” ) .
  • أن يكون مستعدّا لاقتراف ذنوب معها ( تقول له : حتى لمشاركتي في جُرم ؟ حتّى لمشاركتي في اقتراف ذنب مشترك بيننا ؟ أنت لا تحبّني ” ).

وهكذا فقد ترتّب على  تجاور  هاتين الشّخصيّتين التي تجسم كلّ واحدة منهما  في عين الأخرى صورة سلبيّة  اجتماع متنافرين . وهو ما زاد في إذكاء طابع النصّ المفارق .

خصائص النصّ المسرحيّة :

إذا نظرنا الآن إلى نصّ ” راعي النّجوم ” باعتباره نصّا مسرحيّا وجدناه أيضا تامّ الشّروط . فشكليّا يتضمّن إشارات ركحيّة عدّة  أدرجها المؤلّف بين قوسين لعلّ أبرزها الإشارة الأخيرة التي يبدؤها بقوله ” ينزل السّتار وهما متعانقان ” . فالمشهد إذن  دون أدنى شكّ مشهد تمثيليّ) يضاف إلى ذلك أنّ  الحد ث الخارجيّ قابل عمليّا  للتّمثيل بكلّ سهولة فوق خشبة المسرح بحكم اختزاله في لقاء بين امرأة ورجل بمكان انعدمت الإشارة إلى طبيعته ومحتواه  . فلا يحتاج إلاّ إلى ممثّل وممثّلة يتحاوران   . ثم يضاء فجأة لتتعرّف كلّ من الشّخصيّتين على الأخرى.

أمّا طبيعة الحكاية فهي تستجيب لشرط الدّراما الأساس وهو الصّراع  ، إلاّ أنّه صراع أفكار و رؤى وأمزجة . وهو ما يقرّب النصّ من المسرح الذّهنيّ  ، لا سيّما أنّ الكاتب ألغى  كلّيّا ملامح  الشّخصيّتين الجسميّة وجرّدهما حتّى من الثّياب التي تربطهما وجوبا بعصر من العصور  أو بحضارة من الحضارات. فالموضوع إذن إنسانيّ بحت  مداره على العلاقة بين المرأة والرجل عامّة .  وهذا ما أوحى به الكاتب في آخر النصّ حين قال ” وهكذا عاشت البشريّة بين تعاليم الأمّ وفلسفة الأب ” – أو بينها وبين الشّاعر أو الفنّان . وهو ما يدفع إليه اختيار الكاتب أن بكون الرّجل ” راعيا للنّجوم ” وما كلّ الرّجال رعاة للنّجوم .

وقد تولّد هذا الصّراع عن تناقضين أحدهما بين رغبت المرأة  في أن يتملّكها الرّجل وفي أن يصير لها عبدا والآخر بين المثل العليا التي يتمسّك بها الرّجل والهموم الأرضيّة الآنيّة للمرأة.  وهو أدّى ما إلى  مواجهة حادّة  بينهما لم تحسم إلاّ في الخاتمة على نحو مفاجئ بانصياع الرّجل لمشيئة المرأة وقبوله لشروطها . وفي ذلك تصوير لرأي علي الدّوعاجي في طبيعة  العلاقة القائمة بين الجنسين منذ بدء الخليقة إلى اليوم .

ولقد استثمر المؤلّف هذين التّناقضين في إدارة الحوار بين الشّخصيّتين حول محاور شديدة التنوّع  اختارها بدقّة  . وهي : الضّحك – الاستطاعة – الفجر –  الأحجار الثّمينة –   النّور – الضّمير –  الغاية – الحبّ – السّرقة –  الشّهوة – الشّرف – الأوراق – العجز – المعرفة – الحساب – الحقيقة . وهي تشمل مختلف   مجالات الحياة  من قيم وسلوك  وغرائز وعواطف  ومعارف ومتاع . والغرض من هذه الشّمولية هو تقديم رؤيتين متقابلتين للوجود والواقع  احداهما الرؤية السّائدة والأخرى التي يتعلّق بها الدّوعاجي .

على أن الذي يلفت القارئ في هذه القائمة من المحاور هو أنّها لا تتوالى  وفقا للتسلسل  العاديّ  الذي تتلاحق في نطاقه العناصر المتتالية  داخل قائمة مّا . بل يتولّد بعضها عن بعض طبقا للطّريقة المعروفة ب”الحديث ذو شجون ” فلا يحسّ القارئ بوجود فواصل بينها . وذلك بمراوغة أو انزياح أو بملاحظة تبديها أحدى الشّخصيّتين المتحاورتين فيما قالته الأخرى . وهو ما أسهم  إلى حد بعيد في إحكام حبك النّسيج الدّراميّ .

الخاتمة :

لعلّ الإجابة  الأقرب إلى الصحّة عن الأسئلة الأجناسيّة التي ألقيناها في بداية المداخلة هي أنّ علي الدّوعاجي  كتب نصّ “راعي النّجوم ” للنشر لا للتمثيل ، تماما مثلما كتب محمود المسعدي ” السّدّ “. وهو ما لا يجعله نصّا مسرحياّ خالصا . لكنّ إلغاء السّرد منه مقابل الاكتفاء فيه  بالحوار ينفي كونه قصّة بالمفهوم الكلاسيكيّ لهذا الجنس السّرديّ . على أنّنا إذا تذكّرنا أنّ هذا المؤلّف كتب قصّتين تنطبق عليهما مواصفات القصّة التجريبيّة هما ” أمّ حوّاء ” و “أحلام حَدَِّي ” لم نستبعد أن يكون هذا النصّ قصّة تجريبيّة  كتبت في شكل مشهد مسرحيّ . وهو ممّا يسمح به منطق التّجريب السّرديّ .و في هذا تأييد لموقف عزالدّين المدني حين ضمّه إلى قصص الدوعاجي في مجموعته ” سهرت منه اللّيالي ” .

الهوامش :

  • علي الدّوعاجي ، راعي النّجوم ، دار الثّقافة ابن خلدون ، تونس 1969
  • علي الدّوعاجي ، سهرت منه اللّيالي ، الدّار التّونسيّة للنّشر ، تونس 1969
  • عزا لدّين المدني المصالحة مع أمجاد تونس: مسرح علي الدّوعاجي (4) ” ، الملحق الثّقافيّ ” ضاد الثّقافة ” لجريدة الصّحافة ، تونس 20 جانفي 2009

من هو علي الدوعاجي ؟

ولد بتونس سنة 1909. وتوفي سنة 1949. عاش يتيم الأب . عمل في التجارة. ثم انتقل إلى القطاع الصحفي،  مستثمرا مواهبه في الرسم والكتابة ونظم الأزجال. ألف للإذاعة أكثر من مائة وستين مسرحية. انتمى إلى جماعة ” تحت السور”. توفي بمستشفى الرابطة في 27 ماي 1949 بتونس . كان قصّاصا وصحفيا ورساما كاريكاتوريا. هو أول من كتب القصة القصيرة في تونس بالمفهوم الحديث. لذلك لقبه توفيق بكار بـ ” أبي القصة التونسية ” .

أعماله السردية:

ـ    رحلة بين حانات البحر المتوسط،  ط1 الشركة القومية للنشر والتوزيع،  تونس 1962 ثم طبعات أخرى

ـ سهرت منه الليالي،  ط1 جمع عزا لدين المدني وتقديمه،  الدار التونسية للنشر،  تونس   1969 ثم طبعات أخرى عدة

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*