قراءة في قصيدة: ” كان والدي يحدّثُني عن الوفاء” للشّاعر العراقيّ عبّاس ثائر بقلم: داود سلمان الشويلي

عبّاس ثائر

داود سلمان الشويلي

القصيدة :
” كان والدي يحدّثُني عن الوفاء، والسّاق
التي تقطعُ فيُصبحُ صاحبُها كلقلقٍ
لا يسخرُ من الماءِ
لا يخجلُ من الوقفِ بتلك الهيئةِ !
عن الصّدّقاتِ الممنهجةِ
وكيفَ يكون المرءُ فيضاً لأرض ماتتْ
وعن الالتزاِم بالموعدِ الذي لا يُضمنُ فيه بقاءُ الرّؤوس،
عن أُوَيس القَرنيّ مثلًاً
أنبأني : حسبَ موعدهِ ضبطتْ المروءةُ وقتَها
وعن الأصابعِ التي لا تأخذُها بالإشارة للصّدق
رجفةٌ أو ارتعاشةٌ، طالما ذكّرته الحقائقُ بأبي ذر
أخبرني مرّةً : ان ابنَ السّويداء شتيمة
نعم،
بعض الشّتائمِ خطوة تختزل الطّريق
تمنحك وعيًا بمِقياس ارتفاعِ الضَّلال
وانخفاضِ الحقِّ وندرتهِ
ثم يخترقني سؤال ساخرٌ لجدّيته:
لو أن سركون بولص لوَّحَ ” بعظمة أخرى لكلب القبيلة”
” لكلب من الجحيم ” هل يسعى كلب بوكوفسكي – المدنيّ –
ليصبح كلباً قبليّاً؟
هل يخضع لعاداتِ القبيلة؟” . ص39
***
في مقال لي نشر عن ” الفائدة من الشعر ” ذكرت فيه أن من  فوائده ” الحصول على المعرفة”، لأن : ((الشعر بحدّ ذاته يعد نظاماً معرفياً يحصل عليه المبدع والمتلقي على السواء. والمعرفة ، وتفعيل العقل والفكر، هي كسب للمعلومات ، و تحصيل للثقافة . )). و لمّا كان ذلك من وظيفة الشعر ، فقصيدة ” سجالٌ آخر يعرفه – أُوَيس القَرني ” ، التي ضمتها المجموعة الشعرية المعنونة ب”ولله أفكارٌ أخرى ” ، للشاعر عباس ثائر ، تمدُ الشاعر والمتلقي على السواء بالمعرفة، و الثقافة، من خلال ما ذكرته من صفة الوفاء عند الإنسان والحيوان ، و خاصة الكلب. وكذلك ما ذكرته من شخصيات تاريخية، أو معاصرة، مثل: أُوَيس القرني، وأبي ذر الغفّاري، وسركون بولص، و تشارلز بوكوفسكي .
فمن هؤلاء؟ و ما علاقتهم بالقصيدة؟  و ما الذي أضافوه إليها؟
***
تتحرك القصيدة هذه في أجواء الوفاء، الصفة الإنسانية الموجودة أو الغائبة، لسبب أو آخر، في حاملها الإنسان. إلّا إننا نجدها في بعض الحيوانات، وخاصة الكلب المشهور بها . و الوفاء: ((في اللُغة من الفِعل وَفَى يفي وفاءً، ويُطلق على من يتصف بهذا الخُلق اسم الوفيّ، وهو الإخلاص والصدق في المعاملة دون خيانةٍ أو غدرٍ، أما الوفاء في الاصطلاح هو الخُلق الكامل الذي يدُل على تمام مكارم الأخلاق عند المرء، وهو أيضًا الثبات والالتزام بما تم التعاهد عليه بين أي طرفين أو أكثر حتى الموت وفي أوقات السَعادة والشَقاء والفرح والترح)).
لغة القصيدة فخمة، و تتصف بالنثرية/ الشعرية، وهي من السهل الممتنع، و تتبع قاموساً خاصاً بها ، فتجري على الألسِن كشرب ماء بارد، فتعطي للقصيدة بعض رونقها. إذ هي لغة قاموسية وعندما تبنى شعرياً تتحول إلى لغة شعرية. هذه اللغة تحمل فيما تحمله أسماء عَلَم معروفة تاريخياً بالوفاء.
أُوَيس القرني، أبو ذر الغفّاري، و “ابن السويداء”. أما اسم الحيوان الذي شارك الإنسان بصفة الوفاء فهو الكلب. وقد ذكّر المتلقي بشخصيّتين أنسيّتين هما: الشاعر سركون بولص، و الشاعر  تشارلز بوكوفسكي.
***
وأُوَيس القرني هو أُوَيس بن عامر بن جَزء بن مالك بن عمرو بن سعد بن عَصوان ابن قَرَن بن ردمان بن ناجية بن مُراد. ” توفي عام 658م ، وقد استشهد في واقعة صفين”. ولد وعاش مع قومه بني مراد في اليمن، وانتقل إلى الكوفة. كان بارّاً بأمه. قال عن برّه لأمه النبي محمد(ص) “هو بها بر لو أقسم على الله لأبره”.
كان برّه لأمه هو الوفاء المعروف صفة على الإنسان أن يتصف بها، وهذا ما كان مشهوراً به. أما أبو ذر الغفاري، فهو : أبو ذر جندب بن جنادة الغفاري “المتوفى سنة 32 هـ” صحابي ، قال عنه النبي محمد:  “ما أقلت الغبراء، ولا أظلت الخضراء من رجل أصدق لهجة من أبي ذر”. وقال عنه الذهبي في “سير أعلام النبلاء” : “كان رأسًا في الزُهد، والصدق، والعلم والعمل، قوّالاً بالحق، لا تأخذه في الله لومة لائم، على حِدّةٍ فيه”. و يعرف بوفائه للاسلام، و لصحابته المسلمين، إلّا أن الحدة التي فيه قد ظهرت مع بلال الحبشي، المسمى ” ابن السويداء”. و “ابن السويداء ” هو بلال مؤذن النبي، إذ عيّره مرة أبو ذر الغفاري بسواد أمه، فاشتكاه بلال للنبي، فقال النبي: ((يا أبا ذر أعيّرته بأمه؟ إنك امرؤ فيك جاهلية، إخوانكم خولكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده، فليطعمه مما يأكل، وَلْيُلْبِسْهُ مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم)).
***
أما ذكر الشاعر سركون بولص فلأنه أصدر مجموعة شعرية بعنوان ” عظمة أخرى لكلب القبيلة”، وقد استخدم الشاعر عباس ثائر اسم المجموعة الشعرية في قصيدته. و ذكر –كذلك – الشاعر هنري تشارلز بوكوفسكي لأنه أصدر مجموعة شعرية بإسم ” الحب كلب من الجحيم ” التي صدرت عام 1977 ، وترجمت الى العربية عام 2009 . وقد استخدم الشاعر إسم المجموعة في قصيدته . و في كلا المجموعتين ذكر للكلب المعروف بالوفاء . وسركون بولص(1944 – 2007) شاعر عراقي ولد عام1944 في بلدة الحبانية، غادر الى كركوك، و كتب الشعر، و قصيدة النثر خاصة. وهو من “جماعة كركوك”. غادر العراق عام 1966 الى بيروت سيراً على الأقدام، و بعدها الى أمريكا. إن كلب القبيلة المذكور في عنوان مجموعة بولص الشعرية، معروف ميزاته للجميع، فهو أكثر وفاءً من أي شيء، لأنه الحارس الأمين للقبيلة، أهلها ومالها و حيواناتها. فيما كلب الجحيم، “سيربيروس”، الذي ذُكر في الأساطير اليونانية، فهو كلب متوحش، ذو رؤوس ثلاثة، ويتألف شعر عنقه أو ذنبه من الأفاعي، يقوم بحراسة العالم السفلي، و رمز للشر، و هو وفيٌ لهذا العالم . إستخدمه الشاعر بوكوفسكي ليصف الحب الذي يعرفه هو، و الذي كتب عنه قصيدة “أنت” التي جاء فيها:
((ايها الوحش الوحش الوحش
قبّلَتني ، ثم قالت :
” ماذا ترغب أن تأكل
على الافطار ؟ )). ص106
وهنري تشارلز بوكوفسكي (1920-1994) شاعر وروائي وكاتب قصة قصيرة أمريكي من أصل ألماني . له مجاميع شعرية أهمها “الحب كلب من الجحيم”، و رواية ومجموعة قصصية، و مؤلفات أخرى.
***
الخلاصة : إنّ ورود هذه الأسماء قد أضاف للقصيدة عمقاً إبداعيا في الفكرة التي تطرحها حول الوفاء ، و جاء طرح هذه الفكرة في القصيدة كقالب شعري متميز. إن هذه الأسماء مثلت دور الراوي للحكايات عن الوفاء ، فأحدثت هذا العمق الإبداعي المطلوب في فكر المتلقي. الكلب بما هو معروف عنه الوفاء. و أُوَس القرني، و أبو ذر الغفاري، و ابن السويداء بما معروف عنهم الوفاء. أما الشاعران، سركون و بوكوفسكي فقد رويا في دواوينهما ما يعرفانه من سيرة الكلاب.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*