بين وجدانيّة الأنثى وجماليّة القصيدة النثريّة: قراءة تحليليّة لقصيدة “حينَ ألقاكَ” الشّاعرة اللّبنانيّة لبنى شرارة بزّي بقلم: فاطمة عبد الله- القدس – فلسطين

لبنى شرارة بزي

فاطمة عبد الله

لقصيدة النثر حضور قوي في الساحة الشعرية العربية، وهي وجه من وجوه هذا العصر، وأحسن تمثيلا للحياة اليومية، بتفصيلاتها وتنوع موضوعاتها. فهذا النوع من السرد المتسارع تركض فيه اللحظة مشحونة بالأحداث والصور والتعبيرات، تبوح وترمز، تقابل وتفارق، حرّة وصارمة، منظمة وفوضوية مدمرة. لذا تحتاج النثر قارئا، كونها لا تكشف صوتا ولا تفضح دلالة، بل تراهن على من يقرأ سطورها في تحد موقظا ذخائر قراراته.

ووفق ذلك تلوح قصيدة النثر ملائمة للكتابة النسوية، لأن عوالمها الأثيرية وأشياءها الثمينة، وأحلامها كبيرها وصغيرها، وخيالاتها وتشظياتها ورؤاها الرومانسية شجّعت  المرأة الشاعرة على  الكتابة فيها.
لدينا هنا قصيدة للشاعرة اللبنانية المغتربة (لبنى شرارة بزّي)  المقيمة بالولايات المتّحدة الأمريكيّة بعنوان “حين ألقاك” تخفي بين جنباتها ذخيرة فنية غائرة، سأتناولها بالتحليل والقراءة، راجية أن أوفّق في قراءتي لها  والانقياد لما يرمي إليه النص والكشف عن جمالياته الفنية ومراميه.

حين ألقاك

دعْنِي
أرهقُ قلبي
بالشوقِ إليك..
أحطّمُ أسوارَ المستحيل..
أهجرُ مدنَ الصمتِ الطويل
وحينَ ألقاك..
أعلنُ بدايةَ عهدٍ جديد
أصافحُ فيه قدري العنيد
أما آن الاوان
أن يحنوَ علينا الزمان؟
أحلم بأنشودةٍ
تُنغِّمُها الطيور
تُلبس النهارَ ثوبَ عرسِه
وتزفّ البشرى إلى عنان السماء
فيُبدّل الليلُ ثوبَه القاتم
تستلُّ نجمةُ الغروب
من عينيك بريقَها..
ويميسُ الفضاءُ باسمك
تعالَ يا مليك الروح..
تعال..
نتقاسمُ أفراحَنا وأحزانَنا وخبز الحنان
نبتسمُ للقمر
فيتمثّلُ ابتساماتِنا
نحفرُ على جبينِ الشّمسِ..أمنياتنا
نذوبُ بوهجها
جسدين..بروحٍ واحدة
هكذا خُلقنا
قبلَ آدمَ وحوّاء
وليس
كلاًّ على حِدة !!

يعتبر العنوان مفتاح النص، وقد جاء في صياغة  إستراتيجية استباقية لمحمول النص، فيخمّن القارئ ما تدور حوله مفاصل القصيدة، ومثل تشظي الذات الشاعرة، فظرف الزمن حين يكون غير نهائي، مبهم طال أو قصر، وعندما يستند إلى الفعل نجد الزمن المفارق الحاضر /المستقبل،وكما أن الزمن لا يدل على مفهومه هنا فإن الفعل لا يؤدي دلالته المعجمية فحسب، وينسب الفعل إلى ضمير مفرد مذكر.ولعل الملاحظة الأولى التي تستفز القارئ هي زخم الضمائر من عنوان القصيدة حتى نهايتها،  حيث تعبّر الشاعرة عن ذاتها من خلال توارد (الأنا) بشكل لافت من خلال الأفعال المضارعة المتوالية الكامن فيها ضمير (الأنا) بصيغة أفعل. أرهق/ أحطم/أهجر/أعلق/أحلم، وهي أفعال لها دلالة ميتافيزيقية ذات محرّك شعوري لا لساني فحسب بل تعمل على رفع سقف الخيال ليتناسب مع هيمنة مشاعر الشوق والشجن والغربة، وليتعمق التوتر ويغرق في الغنائية الذاتية، فحرف الهمزة يضاهي نتوءا في الطبيعة ويأخذ هذا الحرف موقعه بصورة البروز فيكون كنت يقف فوق مكان مرتفع يلفت الانتباه إليه.
في المقطع الثاني من القصيدة يحضر الآخر من خلال ضمير المخاطب في عينيك/باسمك، وفي الثلث الأخير تصبح الشاعرة هي والآخر إيقاعا واحدا بضمير المتكلم الجماعي، أفراحنا/أحزاننا/ابتساماتنا/أمنياتنا/خلقنا.
في مشهد للإيحاء الإنساني العشقي فيه جمالية تنعش الروح وفيه التوق والحرارة والتوهج.
في ذات التقسيم تبدأ الشاعرة منجزها الشعري بفعل الأمر (دعني) فتسطو على القارئ مقربة إياه من خطابها بأسلوب ديناميكي يستجيب القارئ لطرب الأنا منتظرا لحظة الحسم.
تنهض القصيدة بعد ذلك في استفهام يشاركها وجدانها وحزنها ويشعر بضراوة الشوق الذي عض بأنيابه قلبها، فتأتي أداة الاستفهام ك إثبات لواقع مرير، يشترك القارئ في إعادة إنتاجه على سبيل الاستجابة.
أما آن الآوان أن يحنو علينا الزمان؟

يغرق القارئ بعدها في مفردات وصور ورمزية تتداخل فيها الحواس بطريقة المجاز الاستعاري، فالنهار أنثى تلبس ثوب عرس، وثوب العرس أبيض، ينبثق منه الفرح والسرور والبشائر، فيتحقق الأثر لدى القارئ بربط المحسوس بغير المحسوس والمادي بالمعنوي، ومن ثم تستفيد الشاعرة من تضاد الألوان وفلسفتها، مصوبة سهامها إلى عمق التخيل، فالليل إنسان يبدل ثوبه القاتم، والصمت قاتم والبكاء قاتم والحزن قاتم والبعد قاتم.
تستمر الشاعرة بإنتاج المعاني من خلال السياق في صور جمالية، ومن خلال الاستعارة،وتنتج الإيقاع بما تملكه الكلمة من موسيقى باطنية عفوية فطرية، بلا تصنع ومن  بين خصائص أحرفها وبين ما تدل عليه، فتبرع في اختيار مفردة (تستل) دون غيرها من المفردات التي تؤدي نفس المعنى، فصوت التاء بما به من مرونة وليونة وملمس ناعم، يندمج بحرف السين الصفيري ليكمل بذات الإحساس من الملامسة الناعمة والامتداد والتاء مجددا تلتصق باللام تمسك به ويتملكها بلين صوته، فكانت الكلمة كمن استلقى على وسادة ناعمة من الريش ينعم بجمال الصورة وشاعريتها.
تستل نجمة الغروب/ من عينيك بريقها/ ويميس الفضاء باسمك.
يستفيق القارئ على جملة النداء، تعال يا مليك الروح/ تعال، جملة طاغية بالرجاء والنداء فالفراق هلاك ولله ما في الخواطر من شجون.
حالة من العشق والصبابة والوجد والاشتياق تعتري الذات الشاعرة التي تبحث عن الطمأنينة وهدأة الروح، فينتظم الإيقاع في نهاية القصيدة في أسطر شعرية تطول لتصل خمسة كلمات وتقصر لتحتوي على كلمة أو اثنتين.وفي قفلة مدهشة جسدين ..بروح واحدة/هكذا خلقنا/ قبل آدم وحواء/وليس/كلا على حدة!!
تستلهم الشاعرة التراث الديني من بداية الخلق حيث كانت تشترك مع الآخر في ذات الجسد والروح قبل أن تنسلخ منه.وهنا نستشف أن الرغبة بالالتحام الذي ينسجه الحب والوئام إنما هو لحاجة المساندة والتخلص من محنة أو خوف أو غربة واغتراب.
النهاية تأتي أيضا مدهشة وتضارب العنوان الذي أوحى بالبداية عن حجم المسافة والبعد واحتمالية الالتقاء، وبين عاشقة وعاشق ومدى التحام أرواحهما وتوقهما لبعضهما البعض.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*