في بيت الشّاعر الرّومنسيّ شاتوبريان (1768 – 1848 )في قرية شاتناي مالابري بفرنسا(مارس/آذار) : محمّد صالح بن عمر

 

يختلف روني فرنسوا شاتوبريان الذي زرت بيته أيضا في أثناء رحلتي الأخيرة إلى فرنسا اختلافا شديدا عن الشّخصيّتين السّابقتين: جان جاك روسّو وستيفان مالاّرميه.بل أكثر من ذلك فهو يثير من زاوية نظر النّقد إشكاليّة بالغة التّعقّد.وذلك لئن اعتُرِف له عالميّا بأنّه من عباقرة الأدب فإنّه من حيث أفكاره ومواقفه السّياسيّة والاجتماعيّة كان معاديا للثّورة ومترفّعا عن الشّعب .وهو ما قد يفسّر بانتمائه الاجتماعيّ ، إذ كان من عائلة إقطاعيّة بل كان يحمل لقب فيكونت.وبفضل ذلك الانتماء الطّبقيّ قضّى طفولته وشبابه في قصر. وربّما لهذا السّبب لم يرحّب بثورة 1789 بل تصدّى لها ، إذ التحق سنة 1992 – وهو النّقيب العسكريّ- بجيش الملكيّين الذين هاجروا بعيد قيام الثّورة إلى منطقة كوبلونس بألمانيا لمحاربة جيش الجمهوريّ.فنحن إذن إزاء شخصيّة متعلّقة بالنّظام الإقطاعيّ ،رافضة لأيّ تغيير يمسّ بنية المجتمع ولا تعاطف لديها مع الشّعب.
وفي سنة 1800حين قلب نابليون بونابرت نظام الحكم وتربّع على عرش السّلطة ولقّب نفسه بالإمبراطور عاد شاتوبريان إلى فرنسا بعد ثماني سنوات من النّفي ثمّ بعد سقوط إمبراطوريّة نابليون وعودة المَلّكيّين إلى الحكم سنة 1815 عُيّن الشّاعر وزيرا للشّؤون الخارجيّة.
لكن من النّاحية الأدبيّة عُدّ شاتوبريان شاعرًا مجدّدا فذّا ،إذ حقن الأدبَ بدم جديد بعد أن تجمّد على أيدي الكلاسيكيّين و حرّره من القواعد التّقليديّة المجحفة ،منشئا لغة حيّة متوثّبة تنضح رقّة وعاطفة وظّفها في تصوير الأحاسيس المشبوبة وفاسحا بذلك المجال لظهور تيّار جديد ساحق هو الذي عُرفَ بالرّومنسيّة.
وقد ألّف في هذا اللّون المستحدث بين سنتي 1800و1850 قرابة العشرين كتابا لعلّ أهمّها أتالا(1801) ورُوني(1802 ) وعبقريّة المسيحيّة (1802)أظهر فيها براعة فائقة في تصوير الطّبيعة وتحليل المشاعر الإنسانيّة .وهو ما جعل منه علما من أعلام المذهب الرّومنسيّ في فرنسا وفي العالم.
هذه المفارقة الماثلة في أن يكونَ الكاتبُ أو الشّاعر أو الفنّان في آن واحد مبدعا في الأدب أو الفنّ ورجعيّا في السّياسة والمجتمع تثير ،كما قلنا، إشكاليّة كبرى في النّقد. فهل امتلاك موهبة أدبيّة أو فنّيّة كاف لنيل الاعتراف النّقديّ ؟ أم هل ينبغي أن يكون أيضا مناضلا في سبيل القضايا النّبيلة؟
أمّا البيت الذي تحوّل إلى متحف يحمل اسمه فلم يرثه بل اشتراه بماله الخاصّ بفضل رواج كتابيْه أتالا وعبقريّة المسيحيّة وقد عاش فيه رفقة زوجته سيليست عشر سنوات لكنّه اضطرّ إلى بيعه بسبب ضائقة ماليّة.
هذا البيت يقع في موضع يسمّى سهل الذّئاب بقرية شاتوناي مالابري التي تبعد عن باريس 18 كيلومترا .وللوصول إليها من باريس سنبغي استعمال المترو ثمّ قطار الضّواحي ثمّ السّير قرابة العشرين دقيقة على القدمين.

في حديقة الشّاعر شاتوبريان شحرةٌ نُحِتت على هيئة مكتبةٍ أودعت فيها كتبُهُ. وقد حُفرت رفوفُها في الجذع تغطّيها نوافذُ بلوّريّة صغيرةٌ تحميها من الحرّ والقرّ.وما عليك إلاّ أن تفتح إحدى النّوافذ وتتناول الكتابَ الذي يروق لك ثمّ تقرؤهُ في ظلّ الشّجرة حيث نُصب مقعدٌ لهذا الغرض ثمّ ترجع الكتاب إلى موضعه قبل أن تنصرف..


هذا الممشى السّاحرُ يوجدُ في حديقةِ الشّاعرِ شاتوبريان.وأيٌّ كانَ يسيرُ فيه تستولي عليهِ رؤًى ضاربةٌ في الخيالِ ويدركُ على وجهِ الدّقّةِ ما كان يعنيهُ لفظُ”الرّومنسيّةِ”

“تابعتُ بعينيَّ في أكثرِ الأحيانِ الطّيورَ العابرةَ التي كانتْ تخلّقُ فوقَ رأسي.وكنتُ أتمثّلُ الحافاتِ المجهولةَ والمناخاتِ البعيدةَ التي تذهبُ إليها وكنتُ أودُّ لو كنتُ فوقَ أجنحتِها.كانتْ غريزةٌ سرّيّةٌ تقضُّ مضجعي: كنتُ أحسُّ بأنّي أنا أيضا لستُ سوى عابرِ سبيلٍ .لكنْ كان يُخيّلُ إليَّ أنّ صوتًا من السّماءِ يقولُ لي : “أيّها الرّجلُ إنّ فصلَ النّزوحِ لم يحنْ بعدُ !انتظرْ حتّى تهبَّ ريحُ الموتِ !عندَ ذاكَ افتحْ جناحيْكَ وطرْ نحو تلكَ المناطقِ المجهولةِ التي يهفو إليها قلبُكَ”

فرانسوا روني دي شاتوبريان من كتاب ” عبقريّة المسيحيّة”(1802)

 

روى فكتور هيقو أنّ الشّاعر شاتوبريان كان في بداية سنة 1847 مشلولا .وذكر الكاتب الشّخصيّ سابقا لشاتوبريان أنّ الشّاعر في أيّامه الأخيرة عاد إلى طفولته وأنّه لا يبقى واعيا إلاّ ساعتين أو ثلاثا في اليوم..
في اليوم الرّابع من جويلية/يوليو من سنة 1848 توفّي شاتوبريان ونقل جثمانه إلى مسقط رأسه سان مالو في شمال فرنسا حيث دفن في موضع مرتفع على ساحل البحر وفقا لوصيّته .

 

 

 

.

 

 

 

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*