عِنْدَما لايكتبُ الشّاعرُ تَرَفَاً، الشّاعر عبّاس ثائر- من العراق بقلم: غازي أحمد ابوطبيخ الموسويّ

عباس ثائر

ازي أحمد ابوطبيخ الموسويّ

 

الكاتب أو الشاعر الذي لا نرى في كتاباته عذابا بحسب فلوبير وأدونيس إنما يقول ما يقول بشكل إعلامي إخباري، ولا يكون كاتباً إنما مجرد ناقلٍ أو راوٍ. (1)
وهذا التصور يتصل عميقاً برؤية البير گامو التي تقول مافي معناه ( إن الرفض  والتمرد يمثلان أول بوادر الثورة)، بما ينطويان عليه من الشعور بالألم الممض الذي يشكل حافزاً بذات الإتجاه،يقول الشاعر:
انتظرنا الوطن
-الرفّ الذي علّمنا الصبر-
الرفّ الذي قصّرته الأيدي
وغضته العيون!
ولم يأتِ
تُرى أيضيف الوهم عمرًا
للآملين؟!)
ولاتغيب عن البال دعوة الكثير من الشعراء لأن تكون القصيدة الرافضة غير المستكينة إحدى وسائل هذه الثورة.
أما إسلوب الشاعر في هذا النص  فليس بعيداً عن أنفاس تيار الوعي ، حدّ الإحساس بهذا التوازن الجامع بين الوعي الداخلي والوعي الخارجي الذي رصده “وليم فوغنر” في رواياته، علماً إن شاعرنا كان يحسن إلى حد كبير هذا النوع من المونولوج الترحيلي المتبادل، بين الذاتي إلى الواقعي، أو العكس، فهو يمارس الآن نوعاً من الشهادة الوصفية التي تحكي حركة الحياة والواقع، لكن بعد تمثّلها وإجالتها في دخيلته ثم إطلاقها مُغَمّسة بأحاسيسه المتوترة الناقدة الساخرة المنحازة إلى المُثل الإنسانية الإتفاقية، بعيداً عن الرضوخ إلى المفاهيم والأطر المقررة سلفاً، بما فيها الأفهام ذات الصبغة الدينية الراكدة، ولا نعني المتنورة..
نبذة عن الشاعر:
عباس ثائر شاعر  عراقي، فائز بجائزة الاتحاد العام للأدباء والكتاب الشباب دون الخامسة والثلاثين من العمر، عن مجموعته “ولله أفكارٌ أخرى”.
تتميز شاعريته بسمات خاصة منحته فرادة وجاذبية في ذات الوقت، لأنه غادر السطوح المتداولة المتكاثرة المعبرة عن الوجدان العادي، إلى أعماق الشعرية المفكرة، سالكاً إلى غايته طريقاً وسطاً، يجمع بين موروث المعرّي الشعري المحمل بالأسئلة الكونية الفلسفية الكبرى، وبين آخر الحداثات الشعرية ذات الأنفاس الساخرة، إنما وفق مرحلته الإبداعية المتوثبة التي هو في حومانتها الآن.
نص الشاعر، غودو على طاولة الإحتمالات:

عادَ خجولًا
قتلته الفطنة
زرادشت…
يعرف أن غودو يفقه
أن الإنتظارَ
تمرين الأمل!
كان فظًا غليظ القلب؛
فانفضضنا من حوله،
مسكين ابن آدم
قال حكيم وهو يبيع
حكمته!
انتظرنا غودو و زرادشتَ،
انتظرنا من غابوا لحكمة،
ومن غابوا لخوف،
إنتظرنا الوطن
-الرفّ الذي علّمنا الصبر-
الرفّ الذي قصّرته الأيدي
وغضته العيون!
ولم يأتِ
تُرى أيضيف الوهم عمرًا
للآملين؟!
أينصف المرء نفسه
كلما لاحَ ضوءٌ
قليلٌ أو بعيد؟
عند الإنتظار
تموت النبوءات
وتُصادَر الأحداس
غودو لم يأتِ،
زرادشت لم يأتِ،
ترى ما الذي يريده الإنسان من الانتظار؟

إنها ذات الأسئلة الكونية الكبرى التي تتكرر كل حين على ألسنة الخليقة الناطقة،لكن،بأشكال متنوعة، ومستويات مختلفة.هذه التساؤلات من أيام جلجامش والإلياذة  وأوديب سوفوكليس مثالاً  تعبر عن حيرة الإنسان وربما وحشته وربما خيبته احياناً،إلا أن البعض لاينتظر الإجابة، والآخر محفوز بالقلق الميتافيزيقي المعتاد، وآخر لايرضى بإجابات الحقل الديني ذات الصبغة التسليمية، باحثاً عن نوع آخر من الأجوبة، وإنها بالنتيجة طبيعة الإنسان ،فكيف إذا كان موهوباً ، مرهفاً، مسكوناً أصلاً بالدوافع والتساؤلات..
إنّ جلّ المبدعين الوعاة يعرفون الإجابات الجاهزة، ولكنهم لايكتفون بها، ورب باحثٍ لا يريد التوقف عن أسفاره ، وكأنها نوع من الحياة، وأكبر من ذلك يحاور البعض ذاته، وفي سياق البحث يحاور الآخرين مذهولاً ياترى:
-(ما الذي يريدُه الإنسان من الإنتظار؟!).
فهل أن عباس ثائر مسكون هو الآخر بفكرة (العود الأبدي النيتشوية الشهيرة، تلك التي يوكد خلالها نيتشه  أن الحياة سوف تتكرر في كل مرة وبنفس الطريقة )2،
فيمارس عليها من داخلها نوعاً من الثورة المضادة.

أما من ناحية المنهج الشعري الذي يتبناه الشاعر ،فعباس ثائر كما يبدو عليه من خلال نصوصه متحرراً من أشراط الحبكة ذات السمات الواقعية، باعتباره شاعراً، يعي أيضاً الفاصلة الضرورية بين السرد القصصي وبين السرد الشعري.
إنه يفسح المجال واسعاً من ذات المنطلق الشعري لشتى أنواع الترميز، وتبادل الأقنعة، بل وحتى الإسقاط الفلسفي والاجتماعي والسياسي، وهو بعد ذلك كله لم ينس تبيان قدراته التقنية أو المهارية سواء في سلامة السياقات التعبيرية،أو في نضجها أيضاً، بعيداً عن أي نوع من أنواع التكلف الاستعراضي.
ومع أنه يستلهم من بعيد جملة من شعراء النثر والتفعيلة والعمود فكراً وهدفاً وميلاً للفضح والإدانة والإحتجاج والتمرّد، وإعلان غربته عن المحيط الضاغط بحرية وبسالة أمثال دنقل وألامبو وحسين مردان والنواب وأحمد مطر والحصيري ونزار قباني، مع الاختلاف الواضح جداً في الأساليب والمناهج وطرائق التعبير، وبغض النظر عن انتهاجه للأسلوبية السردية الّلاذعة، بعيداً عن الموسقة بكافة أحوالها متميزاً بعدة سمات، أهمها:

*الوعي المتحول تلقائياً إلى مفردات شعرية مختزنة سلفاً، نتأمل أن تأخذ مستقبلاً، عمقها الغائر في الأقاصي الرؤيوية الدفينة.
* الحماسة الصادقة الموقنة بما يقول، كونه لا يكتب ترفاً، وإنما تراصفاً شرعياً مع الحقائق المعرفية والإنسانية.
إنّ شاعراً يلج عوالم الشعرية من هذه المنطلقات المعمقة، لنأمل واثقين بتحققاته المتسارعة على مسرح الإبداع العميق..
……………………
1- شعرية الحدث النثري، محمد العباس، دار الانتشار العربي، بيروت، 2007، ص11.
2-نيتشه، فؤاد زكريا، ص 43.

غازي أحمد ابوطبيخ الموسوي
شاعر وناقد من العراق.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*