ألوان الحبّ: قصّة: نور نديم عمران – اللاّذقيّة – سورية

نور ند يم عمران

“يليق بكَ اللون البني ومشتقاته ،إنه متناسقٌ مع شخصيتك الرزينة ،وروحك المتجذرة بتراب قريتك، لقد بدا متناغماً مع لون عينيك وابتسامتك الخجولة الحنونة. فكان لحضورك هذا الصباح رائحة قهوة شامية،ولذة شوكولا من النوع الفاخر……كنتَ مزيجاً من الأناقة المتقنة ببساطة ”

.  فجأةً ،وكما ينبثق الضوء بعد ليلةٍ مظلمةٍ مطيرة،برز طفلٌ صغيرٌ من أعماقي السحيقة، لاعباً ،عابثاً،يشعّ فرحاً كما وردة تتفتح في نيسان! فجأةً،أراه يقفز من قفصي صدري،متحرراً من كل الحواجز… قرأتُ رسالة غنوة عشرات المرات ،وهممت بالرد عشرات أخرى،لكنني كنت كل مرة أمحو الكلمات وأتراجع، ينتفض الطفل فيّ،ألهث وراء حلمة حياة. أعود وأقرأ الرسالة،أفك شيفرة كل حرف،ومابين السطور ،ومافوقها … يبكي الرضيع في داخلي،يبللني،يوقظني، فأعود لأكتب لغنوة: شكراً غنوة …قرأت ماكتبته ،إنه جميلٌ بالفعل. إرسال، وضغطة إصبعٍ أحمق. أخاطب نفسي هازئا “أهذا كل ما تمخضت عنه ليلتك السوداء أيها الأحمق،والله لو عرف أصدقاؤك لسخروا منك،وجعلوك أضحوكة شبكات التواصل الاجتماعي الافتراضي،والعالم الواقعي.” أنتظر ساعات وساعات أن يصلني ردٌ منها،أن أرى إشارة الواتس تتلون بالأزرق لأتأكد أنها قرأت رسالتي،لكن عبثاً،إنها متصلة الآن،ولكنها تأبى أن تفتح رسالتي،لقد قرأت ردي من خلال الإشعارات فأرادت أن تعاقبني لجحودي . ولكن ياغنوة كيف لقلب العجوز أن يرقص على دقات قلبك الشاب ….؟! *على الضفة الأخرى للحلم ،جلست صبية عشرينية ،تطرز الألم بخيطان الأمل ،تكتب قصائد قزحية اللون لرجل شاب قلبه . وضعت أمها شالاً حول كتفيها،احتوتها بكل مافي أمومتها من حب،اقتر بت من وجهها الأبيض الذي لوّحته الشمس بقليل من سمرة . دارت غنوة دمعة لمعت في سواد مقلتيها،وسارعت لتقول: شردت قليلاً مع خيوط المطر …ليت المطريغسل قلوبنا من الوجع كما يغسل وجه الأرض . وبأصابع متمرسة بدأت الأم تداعب قيثارة شعرٍأشقرٍ غطى نصف ظهر الصبية،غنت لفيروز: “بشتاقلك لابقدر شوفك ولابقدر أحكيك… بنده لك خلف الطرقات وخلف الشبابيك…” وتساقطت خيوط المطر بغزارة فوق وجنتي غنوة،التي اختنقت كلماتها وأبت الخروج. توقفت الأم عن الغناء وشبكت أصابعهابحركة متقنة،ثم وضعتها وراء رأسها …أسندت نفسها إلى النافذة ،فأصابهابعض البلل من شق صغير فيها… كان المطر لذيذاً،منعشاً، فأيقظ ذاكرتها،وعاد بها إلى يوم أحبت فيه ضيفاً شاباً وفد لزيارة أقربائه في القرية… إلى طعم القبلة الأولى …والغمرة الأولى…والكفوف والسياط التي تجاوزت المئة،عندماعلمت أمهابعشقها لشاب ينتمي لعشيرة أخرى. تذكرت كيف كان المطر يغسل أوجاعها وهي تتلقى ضربات أمها التي صعدت بها إلى سطح الدار حتى لا يسمعها أبوها ويذبحها … تذكرت كيف سمحوا لأخيها أن يتزوج حبيبة من طائفة أخرى ، بعد تزويجها من رجلٍ تكرهه … نسيت الألم وتذكرت الحقد….نعم…حقدت على أمها…أبيها..أخيها وزوجته …قريتها الغارقة في التقاليد ،وزوجها الذي ودت لو تموت كلما لمسها،إنه نسخة عن أبيها وجدها وخالها وعمها وكل الرجال الحمقى الذين ملؤوا حياتها . نظرت إلى ابنتها غنوة،همست في أذنها:أنا إلى جانبك ،تأكدي من مشاعرك وخياراتك … هل يمكن أن تكوني سعيدة مع رجل يكبرك بثلاثين عاماً….إنه أكبر من والدك. لملمت غنوة أشلاءها،وقالت بصوت متقطع: أمي ..الحب ليس مبرمجاً ليختار لنا علاقة على مقاسنا .. لقد جذبني د.سهيل منذ المرة الأولى التي حاضرنا فيها،لاتقولي إنه إعجاب الطالبة بأستاذها… ذلك كان مفتاح العلاقة،أقنعني بشخصه وأخلاقه وعلمه،احترمت فيه كل ما افتقدته في الشبان المحيطين بي. حتى وسامته…طريقته في الحديث…ثقافته… حتى مادياً يا أمي …أنا أحب الاستقرار المادي،لن أكذب في ذلك. إنه الأنموذج لكل طالبة أو أستاذة في الجامعة . إنه يحبني ،لكنه مازال يخشى ألا يكون حبي له حقيقياً. أشاحت الأم بنظرها شرقاً ،بحثاً عن وميض أمل: سيلومني الجميع إن ساعدتك في رمي نفسك للتهلكة، ستكونين ممرضته بعد سنوات قليلة،ستشعرين بفراغ عاطفي واجتماعي وحتى جنسي… قد تقعين في غرام غيره عندما تجدين نفسك بعد أعوام زهرة فاتنة ناضجة ،وهو عجوز يعاني من ارتفاع الضغط والسكر والسلس البولي. انتزعت غنوة نفسها من حضن أمها ،وأغلقت باب غرفتها بعنف لايليق برقتها. وقفت على الشرفة ،أمسكت جوالها ،فتحت رسالته الكئيبة ،وردت : أحببتك عندما انسكب الضوء عطراً في محيط القلب،فانتشت الكلمات على شواطئ المجهول ألقاً. أحببتك في كل اللحظات التي لم أدرك أني أفعل ،لم يكن حباً من نظرة أولى..لم يأت فجائياً ، ربما أدركت وجوده فجأة،لكنه كان فعلاً تراكمياً ونتيجةً حتميةً لكل الجمال والصدق اللذين عشناهما لوقت طويل….إنه حب عقل ولكنه ليس عقلانياً،إنه جنوني يليق بكل الأحداث التي تحيط بنا . قرأ سهيل الرسالة المنتظرة بشغف،نظر إلى صديق عمره د. صلاح وقال له: اصفعني على وجهي ..أرجوك ،افعل. رد صديقه: لله دركم أساتذة الفروع العلمية! والله، يعيش الواحد معكم كل العمر، ولايتمكن من فهم الطرق التي تفكرون بها. ماذا دهاك ؟ ..منذ سنوات وأنت أرمل تبحث عن امرأة ،تداوي جراحك ،وها أنت تحظى بأجمل النساء وترفض حبها. تلعثم سهيل وهو يجيب: نعم ..نعم..لكنها شابة في منتصف العشرين وأنا عجوز في الستينات …وعلى رأي شقيقي ،إنها أصغر من ابنتي الصغرى ،…..أنا جدٌّ يا صلاح ،هل نسيت؟ ضحك صلاح قائلا ً: ألم يخبرك شقيقك أنها تطمع في مالك،أو إنها تستغلك لتحقق طموحاتها العلمية ،وإن أردت مر على شقيقتك والدة صهرك …ستؤكد لك ذلك. ياااارجل ،لن يشجعك أحد من المحيطين على الارتباط بها،إنهم يريدون أن تتوقف حياتك عند حدودهم. هل تعرف معنى أن تتزوج شابة؟ ستحضر لهم شريكاً في الميراث والاهتمام، بل ربما تنجب لك ابناً يخرجهم من دائرة الأقوى. ألم تحلم دوماً أن ترزق بابن يحمل اسمك يا أبا البنات؟! اسمك الذي تعبت وكافحت كثيراً ليكبر . ابتسم سهيل براحة لكلام صديقه،لكنه استدرك قائلاً: أحبها ياصلاح…

…وأخشى عليها من بعدي،كم سأمكث معها،كم سأكون قادراً على مجاراة شبابها..! كانت جدتي رحمها الله تقول: من تتزوج رجلاً أكبر منها بكثير ستشقى وإياه كل العمر ، فهو سيهلك ليقنعها أنه شاب،وهي ستهلك لتقنعه أنها تصدقه. ضحك صلاح ضحكة كشفت عن حشرجة في صدره العجوز ،ثم قال بعد أن سعل مرات متقطعة: بلاشك جدتك تقدم خلاصة تجربتها المريرة، الزواج من امرأة شابة ياصديقي يعيد ضخ الدماء في عروقك،تجعلك شاباً بالفعل،ياليت شابة تقع في غرامي ،ماكنت لأتوانى عن الارتباط بها لحظة …الحياة مع أم مروان أشبه بحياة الثور المربوط إلى طاحونة يجرها وهو مغمض العينين،وأذناه تستمعان لنفس الأسطوانة: أصبح الوقت ملائماً لتزويج مروان ،ابنتك ميس متضايقة من حماتها الحرباء ،استعجلنا في تزويج لمى ….زيت الزيتون يوشك أن ينتهي، لاتنس المرور لدفع الفواتير…افعل..ادفع… يارجل …النساء لايتعبن. ضحك سهيل ضحكة ممزوجة بالعتب،وقال: حرام عليك يارجل …أم مروان سيدة رائعة ،وتتحمل كل هفواتك . أشار صلاح بيده إشارة تتلاءم مع قوله: يا رجل ….أنا الذي أتحمّل وحياتك.. ولو أن زوجتك حية حتى الآن لعشت معها الوجع نفسه،احمد ربك أنها ماتت وهي محافظة على رومانسيتهاقليلاً. لا تتردد واتكل على الله ،لولا خوفي من أن ينتجوا عني مسلسلاً كمسلسل( سوق الورق )،لعشقت نصف طالباتي ،يا رجل …باقة ورود ملونة …لكل واحدة سحرها. كاد سهيل يسقط على ظهره من الضحك ، وهو يصرخ : والله ، مئة حلقة من مسلسل (سوء ورق ) لايعطونك حقك يا صديقي. وخرج سهيل من مكتب صديقه ،مغادراً كلية الآداب في سيارة تجبر من يراها على مغازلتها ولو سراً. وصل مكتبه ،طلب من المستخدم أن يعد قهوته الخاصة بينما شرع يقرأ رسالة غنوة الأخيرة . ولم يكد ينتهي ،حتى وصلته أخرى : تنام في القلب وتستيقظ في الروح فكيف لروحك أن تشيب ؟ عشقتك امرأة باخضرار عمرها وبنفسج عالق في ثوبها وقرنفل أزهر نقياً في صدرها.. فكيف لصوتك أن يغيب؟ أتجحد صوت قلبك … وصوتها ينشدك نغماً فتياً في صباحاتها… أيها العجوز …ألم تستيقظ بعد؟! هيا انهض وأيقظ كل الدروب إلى الحنين واختصر من سنواتك عشراً…أو ربما عشرين وتعال أرض الجمال لتعرّشا معاً دالية نور و ياسمين.. وضع الرجل الستيني جواله جانباّ،بدأ يسترجع كلمات صديقه صلاح ، ….وصار صوتٌ يهتف في داخله :إنّه عمرٌ واحدنحياه …يكفيني أن أعيش معها قليلاً من الفرح لأعوّض سنوات حرماني من الحب. لن أنكر حبي لها ،سألتقيها ،ونتحاور في كل التفاصيل ونستعد لكل العقبات ،سأحصن حبها من كل اعتداء ..لن أفرط بآخر فرصة للسعادة ،ليغضب علي البشر جميعاً ، وليس عائلتي فقط…من يحبني حقاً سيفرح لأجلي. *حين ارتفع صوت الرنين من جوال غنوة ،لم تصدق أنه يتصل بها،فهو منذ مدة يتجنبها ،حتى عندما يجدها نشطة على صفحات التواصل الاجتماعي ،يغلق صفحته . هل اتخذ قراره فيما يتعلق بعلاقتهما ؟! أتراه سينهي كل شيء؟! لم تجرؤ على الرد على الرغم من أشواقها الحارقة ، خافت أن تخسر كل شيء في لحظة،فتسمرت في مكانها تراقب اسمه ينبض في الجوال كما في قلبها. لحظات مرت بشراسة،مزقتها ،تلاعبت بتفاصيل وجهها ،بانتظام تنفسها،ثم…إشعار بوصول رسالة منه: رفقاً بما تبقى مني …أنا بانتظارك،انظري من نافذتك. قفزت غنوة كقطة شاردة باتجاه نافذتها،فتحتها على مصراعيها، لترى تحت شجرة اللبلاب الوحيدة في الشارع ، أكثر من ستين عاماً من الرقي والثقافة والنضج والوسامة ،ترتدي طقماً بني اللون ،ينسجم مع التفاصيل الأخرى التي تعشقها… إنه اللون البني ذاته الذي أصرت أن يرتديه في ليلة زفافهما الخيالية، عندما كانت ترفرف حول شيخوخته المهيبة، فراشةً يغريها الضوء ولاتخشى الاقتراب.

 

 

 

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*