مذكّرات ناقد: كيف جئتُ إلى النّقد الطّلائعيّ؟(2): الدّور الحاسم للهادي بوحوش (1950 – 2017) : محمّد صالح بن عمر

الهادي بوحوش

أحمد حاذق العرف

في القسم الأوّل من هذا المقال أشرتُ إلى الدّراسة المطوّلة التي نُشرت لي بملحق جريدة “العمل” الثّقافيّ يومي 10و17 من  سنة 1969  بعنوان”محاولة في تحديد مراحل تطوّر الشّعر التّونسيّ الحديث”والتي قدّمتُ فيها صورة جُمْليّة لهذا الشّعر من عشرينات القرن الماضي إلى تاريخ إعدادها، دون إقصاء أيّ اتّجاه وأيّ حساسية .وذلك لأبرهن على أنّي في تلك الفترة لم تكن لي أيّ صلة بحركة الطّليعة الأدبيّة التي أسّسها عزّ الدين المدنيّ في أواخر سنة   1968.              بعد بضعة أيّام من صدور هذه الدّراسة كنت أنا والهادي بوحوش وحسين الواد والشّاعر حمّادي التّهامي الكارجالسين بمقهى باريس  بالعاصمة حوالي السّاعة السّابعة مساء بعد خروجنا من المطعم الجامعيّ ،إذ قدم الشّاعر جعفر ماجد  وكان يكبرنا بما بين ثماني وعشر سنوات و كان في هيئته وحركاته                   يتصرّف تصرّف النّجوم   لأنّه كان ينتج  برنامجا أدبيّا للإذاعة ويقدّمه بنفسه  –  وكثيرا ما كان يهاجمنا فيه – ،كما كان عضوا في هيئة تحرير مجلّة”الفكر” التي كانت أهمّ مجلّة أدبيّة بالبلاد ، فضلا عن صدور مجموعته الأولى الموسومة ب”نجوم على الطّريق”.وكان صدور أيّ كتاب في ذلك الوقت حدثا وطنيّا .فسلّم عليه حمّادي التهامي الكار الذي كان ينشر قصائده بمجلّة “الفكر” منذ سنة .1968 فأخذ   يصافحنا  وكان حمّادي  يقدّم  له كلّ واحد منّا إلى أن جاء دوري فقدّمني. وما إن سمع جعفر اسمي حتّى تقاصر وجلس على عَقِبيه وقال لي “ما دخلُك أنت؟” فقلت له “دخلي في أيّ شيء؟”.قال” : “قرأت دراستك التي نشرت بملحق “العمل” الثّقافيّ وقد تحدّثت فيا عن “غير العموديّ والحرّ”.قلت: “ل كني تحدّثت فيها أيضا عن كلّ الاتّجاهات الشّعريّة في البلاد”. قال: ”  لكنّ “غير العمودي والحرّ” ليس شعرا.هل تعلم أنّي أنا الذي اقترحتُ على هيئة تحرير مجلّة “الفكر” هذه التّسمية؟(للتاريخ قال لي الشّاعر نور الدّين صمّود بعد ذلك بعدّة سنوات –  وقد كان أيضا عضوا بهيئة مجلّة “الفكر” –   إنّه هو الذي  وضع تلك التّسمية لا جعفر).وهل تدري لماذا أطلقتُ عليه هذا الاسم؟ لأخرجه من دائرة الشّعر”ثم أضاف ضاحكا : ” ولم يتفطّن ريس تحرير المجلّة  إلى  الخديعة فتبنّاها”.قلت : “هل قرأت ما كتبتُه عنك في  هذه الدّراسة؟ لقد نوّهت فيها بشعرك”. قال : تنويهك بي لا يشرّفني .فما دمت تعتبرُ “غير العموديّ والحرّ” شعرا فأنا أشكّ في معرفتك لفنّ الشّعر.وأكون شاكرا لفضلك لو أرحتني  من الكتابة عنّي في المستقبل ” .

وما إن انصرف جعفر ماجد  حتّى انفجر الهادي بوحوش عضبا ،مبد يا استغرابه ما سمع:” يا لها من عنجهيّة . هذا درسٌ بليغ لك. فهؤلاء النّاس لا يستحقّون أن يُكتب عنهم بل أن تُشنّ عليهم حرب .ما رأيك لو أعددنا معا دراسة عن “غير العموديّ والحرّ ؟”فوافقت في الحين. وكنت في ذلك الوقت بصدد كتابة دراسة عن مجموعة جعفر ماجد الشّعريّة فقرّرت التّخلّي عنها.وكان الشّاعر حمّادي التهامي الكار يكتب الشّعر الحرّ فأعلن أنّه لن يكتب مستقبلا إلاّ في “غير العموديّ والحرّ” وأنّه سينضمّ إلينا في مقاومتنا للكلاسيكيّين والكلاسيكيّين الجدد.

وهكذا في لحظات وجيزة  وُلدت حركة نقديّة جديدة حدّدتْ هدفها  في التّصدّي للكلاسيكيّين والكلاسيكيّين  الجدد.

في ما لا يزيد على الشّهرين جمعت أنا والهادي بوحوش كلّ القصائد التي نُشرت تحت تسمية “غير العموديّ والحرّ”وأخضعناها لتحليل صوتيّ استنبطناه من منهج علم الأصوات التّجريبيّ للأب روسّولوAbbé Rousselot  .ولمّا كان هذا الشّعر لا يخضع لقواعد إيقاعيّة  مضبوطة وانّما يقوم على ارتجال الإيقاع وتلقائيّة النغمة  حاولنا إجراء مقارنة بينه وبين موسيقى الجاز . وللمزيد من دعم جهازنا الحجاجيّ أقحمنا فيها رسوما كرسوم تخطيط  القلب لبيان حركة النّغمة من بداية القصيدة إلى نهايتها.ولمّا كان المنهج الذي اعتمدناه  مستلهما من علم الأصوات التّجريبيّ فقد سمّينا نقدنا الجديد هذا “نقدا تجريبيّا”.

هذه الدّراسة نُشرت متسلسلة في مجلّة “الفكر في أعداد أشهرجانفي وفيفري ومارس وماي 1970 .وما إن بدأت تصدر حتّى أثارت موجة عارمة من ردود الفعل السّلبيّة تتراوح بين الاتّهام والاستخفاف والسّخريّة …. وحتّى عزّ  الدّين المدنيّ نفسه الذي كان يحرّر ركنا بملحق “العمل”  الثّقافيّ   يخصّصه لعرض الكتب والمجلاّت الجديدة لم يستحسن التّسمبة التي أطلقناها على نقدنا أي “النّقد التّجريبيّ” ظنّا منه أنّنا نقلناها عن الاسم الذي اختاره لحركته الأدبيّة “الأدب التّجريبيّ” والحال أنّ التّجريب الذي كان يتبنّاه له دلالة مختلفة تماما.وهي الكتابة عن غير منوال الماثلةُ في استحداث الكاتب أو الشّاعر مبادئ أو قواعد جماليّة خاصّة به.

ولاجتناب هذا اللّبس المتأتّي من الاشتراك اللّفظيّ  قرّرنا باقتر اح منّي التّخلّي عن كلمة “التّجريبيّ” وتعويضها  بلفظ “الطّليعيّ” الذي كانت توصف به في ذلك الوقت بفرنسا  مجموعتان أدبيّتان هما ” كما هو “Tel quel  و”غَيِّرْ”Change. وهو ما أنتج التّسمية النّهائيّة “النّقد الطّليعيّّ”.

ولقد كان لهده التّسمية الجديدة تأثير قويّ في مجموعة الكتّاب والشّعراء الذين كانوا يُسمُّون أنفسهم حتّى ذلك الوقت ب”التّجريبيّين”فأغرتهم تسميتنا فصاروا يطلقون على حركتهم  حركة “الطّليعة”. ومنذ ذلك الحين حلّ لفظ “الطّليعة “نهائيّا محلّ لفظ “التّجريب”.

و إنّي أعترف بأنّي ارتكبتُ خطأ فادحا حين اقترحتُ تلك التّسمية .وذلك لأنّ تسمية “التّجريبيّ” لعزّ الدين المدنيّ تسمية معرفيّة ، في حين أنّ تسمية “الطّليعة “تسمية مدحيّة  تنطوي على الكثير من الغرور والادّعاء، فضلا عن المشكلات الكبرى التي تسبّبت فيها إذ لا يزال الكثير من  الأشخاص ممّن   لم تكن لهم في أيّ وقت من الأوقات علاقة بهذه الحركة ينسبون أنفسهم إليها.

هكذا إذن على الرّغم من أنّ الهادي بوحوش لم ينشر  الكثير من النّصوص النّقديّة ومن أن حضوره في السّاحة الأدبيّة كان  خاطفا فقد كان تأثيره حاسما ، إذ بمبادرة منه تأسّس “النّقد الطّلائعيّ” المناهض علنا للكلاسيكيّة والكلاسيكيّة الجديدة .وقد تواصل بعد انسحابه مع حسين الواد ثمّ مع أحمد حاذق العرف إلى أن توقّفت “الطّليعة” في شهر ديسمبر 1972.

أمّا أنا فقد عدت بعد ثلاث سنوات إلى العاصمة و إلى موقفي الأصليّ. وهو الكتابة عن كلّ الاتّجاهات والحساسيات دون أيّ  تمييز ما عدا القيمة الذّاتيّة للأثر.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*