تجربتي في ترجمة الشّعرالعالميّ: محمّد صالح بن عمر

 

سلسلة “وجوه شعريّة من العالم”

مجموعات شعريّة مترحمة من العربيّة إلى الفرنسيّة

 

 

 

ملفّات عن شعراء عرب وأجانب في مجلاّت أدبيّة فرنسيّة وعربية

مختارات من الشّعر العالميّ

 

كانت طبيعةُ التّرجمة ولا تزالُ محفوفة بالألغاز ومَحُوطة بالأسرار.ولعلّ السّؤال الأشدّ إلحاحا الذي يُثار دائما في شأنها هو : أ هي علمٌ أم فنٌّ؟  . وذلك لأنّها من جهة مرتهنة بالمعرفة، إذ لا يقدر على مارستها عمليّا على نحو مَرْضيّ  إلاّ من حذق لغتين معجما وتعبيرا وصيغا وتراكيبَ حذقا تامّا ومن جهة أخرى  نادرا ما يطمئنُّ المترجم مهما علا كعبه وترسّخت تجربته إلى ما يترجمه فتراه يعود إليه مرارا وتكرارا بغية تحسينه وتجويده. وهو ما يدلّ على أنّ المسألة تتجاوز المعرفة إلى ضرب من الإحساس بأنّ ما يُتَرْجمُ  يبقى دائما قابلا للمراجعة والتّنقيح والتّدقيق. ولعل مردّ ذلك  إلى أنّ  للذّوق في عمليّة الترجمة دورا بالغ الأهمّيّة أيضا.

ولمّا كانت للترجمة مثل هذه الطّبيعة المزدوجة تعيّن ألاّ يخوض في قضاياها المتخصّصون الأكاديميّون وحدهم، أولئك الذين تلقّوا تكوينا  جامعيّا نظريّا فيها تُوِّجَ بحصولهم على شهادات عالية – وما كلّ هؤلاء في الحقيقة بقادرين على مراسها بإتقان وكفاية  إذ شتّان بين النّظريّ والتّطبيقيّ – بل أن يسهم في هذا الجدل أيضا المترجمون الإجرائيّون الذين خبروا شعابها وتمرّسوا بصعابها وماحكوا مشكلاتها.وفي هذا الإطار بالذّات تتنزّل الشّهادة التي سندلي بها في هذا الفصل .ومدارها على تجربتنا في ترجمة الشّعر .وهي تناهز اليوم الخمسة والأربعين عاما (بدءا من سنة 1971).وقد تجسّدت في قصائد كثيرة نقلناها من الفرنسيّة إلى العربيّة والعكس ونشرناها في عدّة صحف ومجلاّت عربية وأجنبيّة(1) ، كما صدر بعضها في كتب داخل تونس وخارجها(2).

ونظرا إلى طول هذه التّجربة واستحالة الإحاطة بها في فصل مفرد كهذا نكتفي بآخر عمل قمنا به ولا نزال في نطاقها .وهو مشروعنا في ترجمة الشّعر العالميّ .

I – مشروع الشّعر العالميّ: أهدافه – أسسه – مكوّناته:

نبعت فكرة إنجاز هذا المشروع من حضورنا في شبكة التّواصل الاجتماعيّ فايسبوك حيث افتتحنا سنة 2009 حسابا خصّصناه لنقد الشّعر وترجمته من العربيّة إلى الفرنسيّة والعكس.وقد التزمنا في هذا النّشاط كعادتنا بتوخّي منتهى الصّرامة في انتقاء القصائد التي ننقدها ونترجمها.فمنذُ الأيّامِ الأولى من إحداثنا ذلك الحسابً تيقّننا بحكم ممارستنا الطّويلة للنّقدً الأدبيّ التي انطلقت سنة 1967 أنّ هذا الفضاء الافتراضيّ، إذا لم يكن ،من جرّاء ما يتّسم به من استعجال وسيولة، موضعًا ملائمًا لدراسة ما ينشرُه فيه الكتّابُ والشّعراءُ دراسة علميّة معمّقة فإنّ الطّريقة الشّائعة فيه والماثلة في إمطار النّصوص المنشورةِ بوابل من عباراتِ المجاملةِ و الاستحسانِ والمديحِ لا يمكنُ قبولُها ، لأنّها لا تساعد البتّة أصحاب تلك النّصوص على الارتقاءِ بأساليبِهم في الكتابةِ و تعميقِ تجاربِهم الأدبيّةِ.
وبدلاً من هاتينِ الطّريقتينِ اللّتينِ تقفانِ على طرفيْ نقيضٍ، تراءى لنا أنّ الأفضلَ هو أن يبديَ قارئُ النّصِّ وجهةَ نظرٍ عقليّةٌ يبرهنُ عليها بحججٍ يسعى إلى أن تكونَ مقنعةً في مقالة قصيرة خاطفة لا تأخذ من وقت قارئها على الأكثرِ سوى أربعِ أو خمسِ دقائقَ.
وهكذا برزَ إلى الوجودِ على نحوٍ تلقائيٍّ جنسٌ نقديٌّ لم يخطرْ ببالنا  من قبل البتّةَ .وهو الخاطرةُ النّقديّة الفايسبوكيّة التي ترمي إلى الوقوف على نواة النّصِّ الدّلاليّةِ وما ولّدَهُ المؤلّفُ منها من أفكارٍ فرعيّةٍ وعلى أهمِّ خصائصِهِ المضمونيّةِ والأسلوبيّةِ، قصدَ تهيئةِ الظّرفِ الملائمِ لإثارة جدل معرفيّ في شأنِهِ، بدلاً من إرضاءِ مؤلّفهِ أو مؤلّفتهِ ب”لايكات” غالبا ما تكونُ شبهَ آليّةٍ وغيرَ نابعةٍ من قناعةٍ حقيقيّة.

ولمّا كان الشّعراء الذين انتخبناهم صنفين : أحدهما يكتب بلغة الضّاد والآخر بلغة موليار فقد حرصنا على ترجمة كلّ قصيدة ننقدها إلى اللّغة الأخرى وعلى نقل النّصّ النّقديّ الذي نكتبه عنها إلى تلك اللّغة .وهو ما مكّن  الشّعراء المنتمين إلى هذين الصّنفين من التّعرّف إلى كتابات بعضهم بعضا وأتاح  في الوقت نفسه إلى كلّ شاعر منهم  فرصة تحقيق شيء من الانتشار لنصوصه خارج محيطه اللّغويّ والثّقافيّ، لا سيّما أننا ننشر نصوصنا النّقديّة وترجماتنا في مائة موقع شعريّ فرنسيّ وعربيّ .وهي مواقع يشرف عليها شعراء أو كتّاب معروفون يُخْضِعون ما يصلهم من نصوص لتقويم صارم.

وبعدَ سبعِ سنواتٍ من إدخالِ هذه الفكرةِ حيّزَ التّنفيذِ، تجمّعتْ لدينا  قراءاتٌ وترجمات لأكثرَ من 1600 قصيدةٍ ل120 شاعرًا وشاعرةً من 26 بلدا  موزّعة على القّارّاتِ الخمسِ.

وقد أوحى إلينا هذا الرّصيد  الضّخم من المقالات النّقديّة  والتّرجمات بثلاثة أنواع من المنشورات هي التّالية:

1 – سلسلة من الكتب المزدوجة اللّسان: عربيّة- فرنسيّة، عنوانها وجوه شعريّة من العالم، نخصّص كلّ جزء منها لشاعر أو شاعرة ونودع فيه  ترجمة نقديّة للمؤلَّف عنه (ها) ودراسة لتجربته (ها) الشّعريّة وقراءات في نماذج من قصائده (ها) و ترجمات لنماذج من شعره ( ها )إلى العربيّة أو إلى الفرنسيّة حسب الحال  وألبوم يصوّر مسيرته (ها) .وقد صدرت فيها حتى الآن  ثمانية كتب خٌصّصت على التّوالي للشّاعرة الفرنسيّة مونيك ماري إهري(3) والشّاعرة التّونسيّة إيمان عمارة(4) والشّاعرة السّوريّة سوزان إبراهيم(5) والشّاعر الفرنسّي باتريك برتا فورقاس(6) والشّاعرة السّورية فرات إسبر (7)و الشّاعرة اللّبنانيّة راشيل الشّدياق(8) والشّاعر التونسي محمد بوحوش (9) والشّاعرة الأوروغوائيّة جانيس مونتوليو(10) .
2-  سلسلة من الدّواوين الفرديّة  ترجمناها إلى اللّغة الفرنسيّة  وصدرت عن دار “أديلفر” الفرنسيّة بباريس . وهي تشتمل على ديوان للشّاعرة السّورية سوزان إبراهيم بعنوان قلبي الطّائر(11) وديوان للشّاعر العراقيّ عدنان الصّائغ عنوانه القّمة بئرمقلوب (12) وديوان للشّاعرة السّورية ليندا عبد الباقي بعنوان ضفاف الحنين (13)وديوان للشّاعر التّونسيّ محمّد عمّار شعابنيّة عنوانه ذئب الوقت قد مرّ(14) .وهناك ديوانان آخران هما حاليا قيد الطبع لدى دار النّشر نفسها : أحدهما بعنوان قبل موتك بقليل للشّاعر العراقيّ حمدان  طاهر المالكي والآخر عنوانه صرتُ الآنَ غابةً للشّاعرة السّوريّة سوزان إبراهيم.وسنعود إلى هذه الدّواوين في القسم الثّاني من هذا الفصل بالتّفصيل.

3- مختارات من الشّعر العالميّ (15):

أدرجنا في هذه المختارات ثمانية وثمانين شاعرًا وشاعرةً من اثنين وعشرين بلدًا ينتمون إلى القّارّاتِ الخمسِ وصدّرناها بالكلمة التّالية :” يلتئم في هذه المختاراتِ شملُ نخبة من الشّعراء ليبلّغوا رسالةُ رمزيّةً :هي الأملُ في أن يروْا ذات يوم ميلادَ عالَمٍ موحّدٍ في تنوّعِهِ، عالَمٍ متعدّدِ الثّقافاتِ والأعراقِ والأديانِ، يسودُ فيه التّفاهمُ والصّداقةُ والتّضامنُ وتُطرَدُ منه شرَّ طِردةٍ الحربُ والإرهابُ والعنصريّةُ والتّعصّبُ والهيمنةُ والاستغلالُ والمجاعةُ … كلُّ الأعمالِ العظيمةِ التي أنجزتها البشريّةُ بدأتْ بأحلامٍ صغيرةٍ.لذلك لا مانع البتّة من ألاَّ يتحقّقَ حلمُ هذه النّخبة من شعراءِ العالمِ في يوم مّا.”

وفي ما يلي قائمة الشّعراء المختارين موزّعين حسب بلدانهم :

ألينا لوز مارتيناز(إسبانيا ) – جانيس مونتوليو (الأورغواي )-قايتن باريسي ( إيطاليا )  – كلود دونّي – آن فولب  ( بلجيكا) – مونيكا دال ريو – كارولينا فرانسيس- موكشيشياك (بولندا) – فاطمة بن فضيلة  – محمّد بوحوش – محمّد الهادي الجزيري – يوسف رزوقة – رياض الشّرايطي – محمّد عمّار شعابنيّة – سعيف عليّ الظّريف – نعيم صميدة   – فطّوم العبيديّ – إيمان عمارة – منصف المزغنيّ   – فطيمة معاوية  – البشير موسى- ليلى هاجر الهيلة (تونس) حاتم أرزقي – المايسة بوطيش – حكيمة مهدي (الجزائر) أزو ديانق (السينغال) أميمة إبراهيم   – سوزان إبراهيم – فرات إسبر- إسماعيل البركات   – لينا تقلا –  قمر صبري الجاسم – مايا الصَّباح – محمّد ياسين صُبيح – ليندا عبد الباقي – انتصار سليمان – نجد القصير (سورية) أفياء الأسدي – صفاء ذياب  – ميثاق كريم الرّكابيّ – عدنان الصّائغ – علي غازي -نوال الغانم  – حمدان طاهر المالكي (العراق)مونيك ماري إهري – بسكال برّو – أريال بوشي  – فانسون بوطال – ماريجو كاسّوندر دانتون – ليديا شابار داليكس – باتريسيا روايي   – باتريك برتا فورقاس – برنار فوشي  – فرانس بورجال راي- ماري جان فونك – سنية قرسيا – فيليب كورك – باترسيا لارنكو – فيليب لوموان   – باتريس مارال – جان بيار ليزيور – جوزي لو موانيي   – لورون مارو فارو –  جودت  ماسينيون  – دومينيك مونتولار  – تياري مونقيار – ألان مينود (فرنسا) منى العاصي   – همسة يونس (فلسطين) ديديي هيبون (الغوادلوب ) بول نويسلا بيونق(الكامرون) فرانسين فورتيي ألبرتون – رولاند برجيرون – روبار ر.ل.لوباج – كارول فريشيت – نيكودام كامردا(الكندا) راشيل الشّدياق (لبنان) جوسلين مورياس  (المارتينيك) تقى المرسي(مصر)عبد اللّطيف البحيري –– نجيب بنداود– محمّد الدّرقاوي – وفاء عبيد  – نوال قرمونة  – انتصار دوليب– محمّد القوش (المغرب) كرموندا ماغي (موناكو) كولينكس موندزير(هايتي) انتصار دوليب – إيمان عمر(الولايات المتّحدة الأمريكيّة ) .

4- سلسلة من المجموعات الشّعريّة النّقديّة :

يشتمل كلّ كتاب من كتب هذه السّلسلة  على مختارات شعريّة لشاعر واحد أو شاعرة واحدة وتتبعُ كلَّ قصيدة من القصائد  المختارة قراءةٌ نقديّة.وقد صدرت فيها إلى حدّ الآن مجموعتان :الأولى بعنوان نامستي ( تحيّة الاحترام عند الهنود)للشّاعرة الفرنسيّة دومينيك مونولار، تعاليق نقديّة لمحمّد صالح بن عمر(16)  والثانية عنوانها ابتسامة ، قُبْلة، دمعة للشّاعر الإيطاليّ البلجيكيّ قايتن باريسي ، تعاليق نقديّة لمحمّد صالح بن عمر(17).

5 -موقع ألكترونيّ مزدوج اللّسان : عربيّ / فرنسيّ عنوانه “الأقوال”(alaqwal.com:

هذا الموقع ٌ موجود على الشّابكة (الأنترنات). وهو مخصّص لأفضل الأقوال الموحية لأعضاء منتخبنا الشّعريّ الذين يبلغ عددهم ، كما قلنا، 120 شاعرا وشاعرة من 126 بلدا.وفيه  يُوضع على ذمّة كلّ شاعر أو شاعرة فضاءٌ فرديّ لا حصر لعدد صفحاته تُدرج فيه أفضل الأقوال الواردة في قصائده ، فضلا عن صورته الشّخصيّة وترجمته وصور أغلفة مجموعاته الشّعريّة .وتكون المعطيات  الواردة في القسم العربيّ هي نفسها مترجمة في القسم الفرنسيّ والعكس بالعكس.

وهذه الأقوال يقترحها الشّعراء أنفسهم بعد أن يستخرجوها من قصائدهم ويُتبِعوا كلَّ قول منها بالمصدر الذي اقتُطفوه منه ( المجموعة الشّعريّة إن وُجدت أو القصيدة ).وتخضع هذه الأقوال قبل نشرها لتقويم  لجنة محكَّمة.

وقد بلغ عدد الشّعراء الذين نُشِرت أقوالهم في هذا الموقع 55 شاعرا وشاعرة وعدد الأقوال المنشورة 1107 قولا.

6 -مجلّة  ثقافيّة ألكترونيّة محكَّمة مزدوجة اللّسان عنوانها ” مشارف”(Culminances ) (18):

هذه المجلّة التي أحدثناها منذ سنة ونصف تقريبا مفتوحة أمام كلّ أدباء العالم النّاطقين باللّغة العربيّة أو اللّغة الفرنسيّة .وقد حدّدنا هدفها في “رفع الحواجز ومدّ الجسور بين المبدعين العرب ومبدعي العالم.”وقد تحقّق لهذا المجلّة انتشار واسع، إذ فاق عدد زائريها في سنتها الأولى مائة ألف زائر من القَارّات الخمس و أضحت عمليّا المجال الذي يُنتخَبُ فيه الشّعراءُ الجدد ليُضَمّوا إلى فريقنا الشّعريّ.وذلك بفضل التّقويم العلميّ والأدبيّ الموضوعيّ الذي يُجرَى على كلّ ما يصل المجلّة من نصوص.وهكذا فبعد أن كنّا ننتخب الشعراء بأنفسنا صارت تنتخبهم معنا لجان مكوّنة من نقّاد وشعراء هرب وأجانب اخترناهم من بين أصحاب التّجارب الواسعة وذوي الباع في مجالهم .

هذا وتستعدّ المجلّة لإضافة قسم ثالث فيها سيكون مخصّصا للأدب الإيطاليّ ويشرف عليه فريق من الأدباء الإيطاليّين المتميّزين وسيتركّز النّشاط الرّئيس فيه على ترجمة الشّعر من الإيطاليّة إلى العربيّة والفرنسيّة والعكس .وهو ما سيمكّن الشّعراء العرب المنتمين إلى منتخبنا من الانتشار في فضاء آخر زيادة على الفضاء الفرنكفونيّ .

II  – الدّروس المستخلصة من هذا المشروع في ترجمة الشّعر :

هذه التّجربة المكثّفة في ترجمة الشّعر ضمن مشروعنا و إن كنّا لا ندّعي  أنّها أفرزت ما يمكن أن نعدّه “نظريّة” شخصيّة في هذا المجال فإنّها قد ولّدت لدينا أفكارا وانطباعاتٍ لعلّنا نلتقي فيها مع بعض مترجمي الشّعر  كلّيّا أو جزئيّا ، كما لا نستبعد أن يخالفنا فيها الرّأي كلّيّا أو جزئيّا أيضا آخرون .وهو ما قد يجعل عرضها في  مجلّة ” الثّقافة العربيّة”إلى جانب شهادات أخرى مفيدا، بما يتيحه من فرص لمقابلة الآراء بعضها ببعض وبلورة  ما هو مشترك بينها ومختلف .

إنّ أوّل ما يقرّ به أيّ مترجم للشّعر هو الصّعوبة الفائقة في نقل قول شعريّ من لغة إلى أخرى وما يتطلّبه من جهود مضنية و رشح جبين. ومرّد ذلك إلى كون الشّعر سقفَ الكلام البشريّ. فلا يفوقه في اللّغة العربيّة مثلا من جهتي   الدّقة والعمق إلاّ القرآن الكريــم.  و هو يستمدّ هذه  النّفاسة  من الكثَافة العالية للغته  التي يجتمع فيها على صعيد كلّ عبارة  ثالوث الإيقـــاع و الصّورة والإيحاء ذلك لذي يسمّيه الإنشائيّون” الشّعري”‘( le poétique). و بفضل هذا الثّالوث تكون العبارة الشّعريّة بمنزلة قطعة مصوغ تدخل في تركيبها ثلاث موادّ نفيسة متنوّعة لكن متكاملة . لذلك إذا نُزعت إحداها أو  شُوِّهتْ عند عمليّة النّقل انحطّت قيمة المجموع برمّته و خبا بريقه و ضعُف وقعه في نفس المتلقّي.

ولمّا كانت الصّعوبات التي يصطدم بها مترجم الشّعر كثيرة جدًا لا يتّسع هذا الفصل للإتيان عليها فلنكتف بالإشارة إلى أهمّ الشّروط التي ينبغي أن تتوفّر، من وجهة نظرنا،  في مترجم الشّعر :

1 – الشّرط الأوّل :توخّي منتهى الموضوعيّة والصّرامة في اختيار النّصوص المزمع ترجمتها :

إنّ الالتزام بهذا الشّرط ضروريّ ،احتراما لفنّ الشّعر وإنصافا للشّعراء الموهوبين الجيّدين.وهو ما يستدعي استبعاد المترجمين الانتفاعيّين الذين يترجمون بطلب وبمقابل ولا تعنينهم من ثمّة قيمة ما يترجمونه ، كما يتعيّن الاحتراز من الدّول والأحزاب والمنظّمات التي تروم فرض أسماء شعراء تابعين لها إيديولوجيّا أو فئويّا ونشرها في الخارج على الرّغم من أنّها لم تحظ باعتراف النّقّاد والباحثين المحايدين.

ولهذه الأسباب من الأفضل أن يكون مترجم الشّعر ناقدا نزيها محايدا، حتّى لا يختار إلاّ ما هو جدير بالتّرجمة ولا يقع في ما يقع فيه غيره من اللّهاث وراء المقابل الماليّ أو التّقرّب إلى بعض الأطراف السّياسيّة أو الثّقافيّة الفاعلة أو خدمة الأصدقاء والأحباب أو أبناء الجهة أو البلد وما إلى ذلك ممّا لا صلة له بفنّ الشّعر.

ولعل أحسن معيار يعتمده المترجم النّاقد في اختيار النّصوص هو مراعاة الذّائقة الشّعرية للمتلقّي العِرّيف النّاطق الأصليّ باللّغة الهدف.وهو ما يقتضي أن تكون له ثقافة شعريّة معاصرة تتّصل بتلك اللّغة

ومن أقوالي المنشورة في هذا الشّأن (19) :” ليستْ كلُّ نصوصِ المؤلّفِ الواحدِ صالحةً للتّرجمةِ .فالوحيدةً الصّالحةُ منها للنّقلٍ إلى لغاتٍ أخرى هي التي تُبْهِرُ القرّاءَ العِرّيفينَ من النّاطقينِ الأصليّينِ باللّغة -الهدفِ وتأخذُ بألبابِهمْ . ومسؤوليّةُ حُسْنِ التّقديرِ، في هذا الشّأنِ، تقعُ على عاتقِ المترجمِ قبل أن يُقبِلَ على عملِهِ. .

2 – الشّرط الثّاني : القدرة على تقمّص شخصيّة الشّاعر في لحظة الانخطاف الشّعريّ:

ممّا يعرفه مترجمو الشّعر معرفة يقينيّة أن لا أعسر من وفاء مترجم الشّعر للنّصّ الأصليّ. وذلك لأنّ هذا الوفاء ليس مرتهنا ،خلافا لما هو شائع،بحذق المترجم اللّسان المصدر واللّسان الهدف و بتحصيله ثقافة شعريّة واسعة. إنّما يقتضي  الأمر، فضلا عن ذلك، أن يعيش  عند مراس كلّ عبارة شعريّة يروم نقلها الحالة التي عاشها الشّاعر عند إنشائها  ثمّ أن يعبّر باللّغة الهدف على وجه الدّقة والضّبط أو، إذا تعذّر عليه ذلك، على وجه منتهى التّقريب ما  عبّر عنه الشّاعر باللّغة المصدر أي أن يؤدّي  باللّغة المنقول إليها  الدّور نفسه الذي أدّاه  صاحب النّصّ باللّغة المنقول منها  فيكون كما لو أنّه هو ،بأن يتقمّص مشاعره و همومه و رؤيته  للذّات و الآخروالواقع و الكون.

على أنّه ينبغي ألاّ يُفهم من كلامنا هذا أنّنا نتقدّم  هنا بنصائح إلى مترجمي الشّعر  تمكّنهم  من النّجاح في مهامّهم إذا ما أخذوا بها. فمثلما أنّ النصائح لا تجعل من الشّخص شاعرا إذا لم يكن موهوبا فإنّ مترجم الشّعر لا يقدر على النّجاح في هذه المهمّة العسيرة إذا لم يكن متمتّعا بملكات ذهنيّة وشعوريّة مناسبة، لعلّ أوكدها الحساسية الجماليّة المرهفة و الخيال الخصب الخلاّق و الطّبع الحالم و الذّائقة الرّفيعة.

واستنادا إلى هذا الشّرط يمكن القول إنّ ثمّة أولويّات تراتبيّة ينبغي أن يُصنَّف وفقها مترجمو الشّعر، حتّى لا يختلط الحابل بالنّابل و يصبح هذا الميدان مرتعا لكلّ من يريد أن يجرّب حظّه في مراس هذا الفنّ  العسير. ولعلّ المترجم الحقيق باحتلال صدارة  السُّلّم فيه هو الشّاعر الذي يحذق لسانين  بالدّرجة نفسها ويكتب الشّعر بهما معا ، لأنّه عندما  يقبل على ترجمة شعره  يقدر على استحضار اللّحظات الشّعريّة التي عاشها.فيكون تعبيره عنها باللّغة الثّانية قريبا من تعبيره عنها باللّغة الأولى من حيث العمق و الصّدق ،مع تنزيل التّجربة نفسها في قوالب لغويّة مختلفة أصواتا و معجما وتراكيب و تعابير والحرص على ألاّ يُنْقِص منها شيئا والانصياع التّام  لخواصّ اللّغة الهدف.و لكنّ الشّعراء من هذا الصّنف كانوا دائما عند كلّ أمّة وفي كلّ فترة قلّة نادرة و المتميّزون منهم أقلّ وأندر.

أمّا الدّرجة الثّانية من السّلّم  فجدير باحتلالها  الشّعراء الذين يكتبون بغير لغتهم الأصليّة ويترجمون إليها نصوصا  مكتوبة بلغتهم كأن يقبل شاعر عربيّ يكتب الشّعر باللّغة الفرنسيّة على ترجمة قصيدة لشاعر عربيّ من لغة الضّاد إلى لغة موليار .فهؤلاء  يكفيهم أن يفهموا على وجه الدّقّة معنى العبارة الشّعريّة في اللّغة المصدر سواء بأنفسهم أو بمعونة غيرهم حتّى يتمثّلوا اللّحظة الشّعريّة التي أنتجتها و يحسنوا نقلها باللّغة الهدف.

أمّا المترجم غير الشّاعر كحالنا نحن  فلا يمكن في تقديرنا أن يُرتَّب إلاّ بعد هذين الصّنفين.و ذلك لأنّ عدم تجربته حالة الانخطاف التي تُولَدُ فيها العبارة الشّعريّة  يشكّل عائقا حقيقيّا  أمامه للنّفاذ إلى روح تلك العبارة  . وهو ، كما ذكرنا ، الشّرط الضّروريّ لامتلاك القدرة على إعادة صياغتها باللّغة الهدف دون التّفريط في أيّ مكوّن من مكوّناتها و أدنى عنصر من عناصر توهّجها .

على أنّ ثمّة أصنافا مختلفة من مترجمي الشّعر غير الشّعراء يمكن ترتيبهم أيضا ترتيبا تفاضليّا. و يتصدّر هؤلاء بلا ريب المترجم القريب من الشّاعر، حين يقبل على نقل شعره إلى لغة أخرى . ففي حالة كهذه يكون تمثّل اللّحظة الشّعريّة متيسّرا لاسيّما إذا تعاون على ذلك مع الشّاعر نفسه. و هذا عامل آخر في غاية الأهمّيّة .فليس ثمّة أنجع  من سماع شهادة الشّاعر على التّجربة التي عاشها عند إنشائه لهذه العبارة أو تلك من العبارات الواردة في نصّه ثمّ من  معرفة رأيه في النّص المنقول إلى اللّغة  المقابلة إذا كان يجيد التّواصل بها. لكن على شرط ألاّ يقع المترجم  -والحالة هذه – تحت سيطرة الشّاعر بأن يوجّهه الوجهة التي يشاء. وذلك بدفعه إلى ترجمة مقاصده .، لأنّ المتكلّم مهما كان وحتّى إن كانت اللّغة التي يستخدمها هي لغته الأمّ  لا يقدر على إخضاعها كلّيّا لمقاصده، إذ هي تسلّط عليه بأبنيتها الصّوتيّة والصّرفيّة والتّركيبيّة ضغوطا جمّة تجبره على أداء معان جانبيّة طفيفة لم يردها وقد يتسبّب بعضها في منح الخطاب برمّته معنى غير الذي قصده .ومن ثمّة فعلى المترجم ،مع استئناسه بشهادة الشّاعر لاستحضار ظروف التّلفّظ التي قال فيها كلّ بيت من أبيات قصيدته،  ألاّ ينسى أنّ المترجم النّاجح هو الذي يترجم ما يقوله النّصّ لا ما يقصده مؤلّفه  وأنّ ما يقصده مؤلّفه ليس سوى ثمرة قراءة واحدة ممكنة من عدّة قراءات  ربّما لم يخامر معظمها ذهنه البتّة وأنّ صفة التّعدّد الدّلاليّ التي يتّصف بها القول الشّعريّ إنّما هي مظهر من مظاهر ثرائه.

ويلي هذا الصّنفَ في المنزلة  المترجمُ الملمُّ بتجربة الشّاعر الذي يترجم نصوصه دون أن تكون له به معرفة شخصيّة. فيكون اعتماده على المكتوب وحده. وهذا الصّنف هو في الحقيقة صنفان : الأوّل يجيء إلى التّرجمة من باب الإعجاب بشعر من يترجم له  و غالبا ما يفعل ذلك تطوّعا. و لمثل هذا الموقف تأثير إيجابيّ في عمليّة النّقل ،لأنّه يدفع إلى التّأنّي في العمل ،حرصا على بلوغ أعلى درجة ممكنة من درجات الإتقان . وهو الأنسب  إلى الاختيار  حين يكون الشّاعر المراد ترجمة نصوصه من الأموات. أمّا الآخر – وقد أشرنا إليه آنفا – فهو الذي يترجم بمقابل فيعامل القصيدة ، من جرّاء ذلك،معاملته لنصّ إداريّ تجاريّ أي بعدد الصّفحات و الأسطر والآلة الحاسبة . و هذا الصّنف من المترجمين هو أخطرهم  وأشدّهم إضرارا بفنّ القريض .لذلك فموقعه الطّبيعيّ هو أسفل السّلّـــم . و ليس ثمّة أفضل من عدم توفير الفرصة له لتّرجمة الشّعر حتّى لا يسيء إليه، لأنّنا إن لم نوفّرها له تأكّدنا من أنّه لن يسعى إلى اهتبالها بنفسه لغياب الدّافعية الفنّيّة لديه.

و لمّا كان للشّعر مثل هذه الخصوصيّة فإنّ من حقّ الشّاعر حين يكون على قيد الحياة إبداء رأيه في اختيار من يترجم شعره و المشاركة في عمليّة التّرجمة من بدايتها إلى نهايتها حتّى تكون بصماته في النّص المنقول إلى اللّغة الثّانية موجودة دون أن يهيمن طبعاعلى المترجم هيمنة كلّيّة . أمّا إذا كان من الأموات فمن واجب الجهة المشرفة على ترجمة شعره أن تحسن اختيار المترجم طبقا للمقاييس التي بيّنا. على أنّه في كلتا الحالتين يُفضَّل أن يبادر المترجم بعرض خدماته على أن يُكلَّف بها. و ذلك لأنّ دافع المتعة  في ترجمة الشّعر لا يختلف كثيرا عن الدّافع الإبداعيّ، ذلك الذي يجعل الشّاعر  يتحمّل  أتعاب الحمل و آلام الوضع لأجل  رؤية مولوده في  صحّــــة جيّدة و عافية.أمّا التّكليف فمن شأنه اختزال عمليّة التّرجمة في مهمّة إداريّة تحكمها شروط مفصّلة في عقد لعلّ أخطرها الشّرط الزّمنيّ أي أجل الإتمام و الشّرط الماليّ  وهو المبلغ المتّفق عليه  و  طريقة احتسابه، لتضاربهما مع منطق الإبداع الفنّيّ الذي لا يتقيّد بوقت معيّن و لا  يُعيَّر  تعييرا مصرفيّا.

أمّا موقعنا شخصيّا في هذا السّلّم – وهو معروف لدى كلّ الشّعراء العرب والأجانب الذين ترجمنا بعض نصوصهم ولدى الكثيرين ممّن عرضوا علينا ترجمة شعرهم فاعتذرنا لهم  – فهو ، كما أسلفنا، المرتبة الثّالثة ، بحكم كوننا لا نقول الشّعر، إلاّ أنّ لنا شعارا لم ننفكّ نرفعه منذ عدّة سنوات ولم نحد عنه ولو مرّة واحدة .وهو أنّنا لا نترجم الشّعر أبدا بطلب.

وفي هذا نقول (20): لستُ مترجمًا بمعنى أنّي قادرٌ على ترجمةِ كلِّ ما يُعرُضُ عليَّ ترجمتُهُ.فأنا بكلِّ صدقٍ عاجزٌ عن ترجمةِ جٌملةٍ واحدةٍ لم أخترْها بنفسي. . 

وقد استتبع التزامنا بهذا المبدإ أن تنازلنا عن جميع الحقوق الماليّة الراجعة إلينا من الدّواوين التي ترجمناها لصالح الشّعراء الذين ترجمنا لهم .وذلك لكي تبقى علاقتنا بالشّعر علاقة عشق لهذا الفنّ لا تلوّثها المطامع و المصالح و المآرب الشّخصيّة .

ولمّا كنا في الوقت نفسه نمارس النّقد الأدبيّ فنحن مستعدّون إن لزم الأمر لتبرير اختيارنا كلَّ بيت ترجمناه.و ذلك لأنّنا نبني اختيارنا للنّصوص الشّعريّة التي نترجمها على موقف تقويميّ صارم وإن كنّا نعترف بأنّ هذا الموقف ليس معرفيّا خالصا وإنّما للذّوق دخلا كبيرا فيه، لكون الشّعر فنّا في المقام الأوّل ولأنّ المناهج النّقديّة التي يرفع أنصارها شعارات الموضوعيّة والعقلانيّة ومقاومة النّزعات الذّاتيّة كالشّكلانيّة والبنيويّة و مشتقّاتهما تخلط  خلطا فظيعا بين النّظم والشّعر وبين التّقنية  والفنّ  والحال أنّ أيّ تقنية من تقنيات الكتابة الأدبيّة  تُتَعلّم باستيعاب النّظريّات وبالمحاكاة والتّدرّب  على حين أنّ دعامة الفنّ الموهبة.والموهبة التي هي استعداد فطريّ جِبِلّيّ ولاديّ يتجسّد في التّمتّع بحساسية جماليّة مرهفة وخيال خصب خلاّق .نعم شتّان بين المهارة الصّناعيّة والإبداع الماثل في الاختراع والابتكار.

و قبل اختيارنا للنّصوص التي نترجمها نختار الشّعراء الذين نترجم لهم .وذلك بمتابعة ما ينشرونه فترة طويلة تمكّننا من الاقتناع بصِحّة مواهبهم وجدارتهم بالانتشار خارج بلدانهم ومحيطهم اللّغويّ والثّقافيّ الأصليّ. ولقد مكّنتنا  هذه المتابعة من أن نختار في سبع سنوات مائة وعشرين شاعرا  من ستّة وعشرين بلدا، منهم من يكتب باللّغة العربيّة ومنهم من يكتب باللّغة الفرنسيّة ثمّ أجرينا في وقت لاحق على هذا العدد عمليّة انتقاء ثانية أفرزت ثمانية وثمانين شاعرا وشاعرة من اثنين وعشرين بلدا .فجمعناهم في مختارات ضخمة صدرت في طبعتين : أحداهما  فرنسيّة والأخرى عربية واشتملت كلّ منهما على  ترجمات نقديّة تقويميّة لتجاربهم الشّعريّة ومنتقيات من قصائدهم بلغت في الجملة 396 قصيدة .

ولمّا كنّا ، كما أسلفنا ، نترجم الشّعر ولا نقوله فقد سعينا إلى تلافي هذا النّقص بجمع كلّ ما يمكننا جمعه من معلومات عن مسيرة كلّ شاعر أو شاعرة من الذين انتخبناهم والمتابعة المستمرّة لمنشوراتهم والاتّصال المباشر بهم عند الحاجة لاستفسارهم عن الجوانب التي تبدو لنا  محلّ لبس في نصوصهم ،لمجرّد الاستئناس بأقوالهم ، كما ذكرنا، لا للتّعويل عليها كلّيّا عند قيامنا بعمليّة التّرجمة .وكلّ هذا لأجل الاقتراب إلى أقصى حدّ ممكن من الأمانة مع تسليمنا باستحالة  بلوغها في التّرجمة.

 

3 – الشّرط الثّالث : المعرفة المعمّقة  للّغة المصدر :

إنّ من أكثر الأخطاء شيوعا في ترجمة الشّعر بل في التّرجمة عامّة تكليف متخصّصين في اللّغة المراد التّرجمة  إليها بترجمة الشّعر،  ظنّا من المكلّفين أنّ الأساس في التّرجمة هو حذق اللّغة الهدف .

فلمّا كنّا على سبيل المثال متخصّصين أكاديميّا في علوم اللّغة العربيّة معجما ونحوا – وقد ألّفنا فيها أكثر من خمسة آلاف صفحة فإنّنا نعلم علم اليقين أنّ لا أحد قادر على فهم اللّغة العربية فهما صحيحا إذا لم يكن ملمّا بمعاني أدواتها – وعددها يفوق المائة أداة  – وصيغها الصّرفيّة – وقد جمعت منها الباحثة العراقيّة خديجة الحديثي أكثر من 500 صيغة (21) – وتراكيبها  التي تزيد على الألف تركيب باعتبار ما يدخل على التّراكيب الأصليّة من تقديم وتأخير وزيادة وحذف .فأنّى لمتخصّص في لغة أجنبيّة خالي الذّهن أو يكاد من جلّ هذه المعارف أن يهتدي إلى مظانّها في كتب التّراث النّحويّ العربيّ حتّى يدرك الدّلالات الحقيقيّة للعبارات التي يروم ترجمتها ؟ مع الإشارة إلى أنّ معظم هؤلاء يكتفون باعتماد القواميس المزدوجة .

ألاَ إنّ فهم النّص الأصليّ هو الشّرط الأساس لنقل معانيه نقلا صحيحا إلى لغة أخرى .ولعلّه لهذا السّبب يكون من الأفضل اضطلاع مترجمين لا مترجم واحد بترجمة النّص الواحد  يكون أحدهما متخصّصا في اللّغة المصدر والآخر في اللّغة الهدف شريطة أن تكون لهما ميول شعريّة واحدة .وهو أمر إن وجد فلا يكون إلاّ نادر الوجود.

4 -الشّرط الرّابع : توجيه التّرجمة رأسا إلى النّاطقين الأصليّين باللّغة الهدف :

حين يلقي المرء ، على سبيل المثال،  نظرة على قائمة الدّواوين العربيّة التي ترجمها التّونسيّون إلى اللّغات الأجنبيّة وفي مقدّمتها اللّغة الفرنسيّة يلفته أنّ معظمها الأغلب قد صدر  في تونس سواء نشرها أصحابها على نفقتهم الخاصّة أو نشرت لهم عن مؤسّسات. ولمّا كنّا كثيري التّردّد على فرنسا وبلجيكا خاصّة ومن الرّواد المنتظمين لمكتباتهما الكبرى فلا نذكر أنّنا رأينا ولو مرّة ديوانا واحدا من تلك الدّواوين معروضا فيها .بل إنّ ناشريها يكتفون بعرضها على لجنة المقتنيات بإدارة الآداب  التّابعة لوزارة الثّقافة التّونسيّة .ومعنى ذلك أنّ تلك الوزارة تتكبّد تكاليف  طباعة الكثير من الكتب المترجمة إلى لعات أجنبيّة زيادة على دفع أجور المترجمين وحقوق المؤلّفين ثمّ تقتنيها بمالها الخاصّ لتودعها في المكتبات العموميّة  الرّاجعة إليها بالنّظر حيث لا تقرأ إلاّ نادرا وعلى سبيل الفضول ،لأنّ التّونسيّين يفضّلون قراءتها في  لغتخا الأصليّة أي العربيّة .

واطّلاعنا المباشر  على هذا الخلل الفادح، بحكم تعاملنا أكثر من عشرين عاما  مع مؤسّسة ” بيت الحكمة ” وقرابة الخمس سنوات مع إدارة الآداب وتنبيهنا عليه مرارا وتكرارا دون جدوى جعلنا نحرص كلّ الحرص في مشروعنا الخاصّ بترجمة الشّعر العالميّ  على تفاديه إلى أقصى حدّ ممكن .وذلك باتّباع الإجراءين التّاليين :

3 – 1 :   الإجراء الأوّل هو نشر ترجماتنا  للشّعر العربيّ بمجلاّت ورقيّة وألكترونيّة غربيّة ناطقة بالفرنسيّة  .من ذلك :

3 – 1 – 1 : :ملفّ عن  الشّاعرة السّوريّة المهاجرة المقيمة بزيلاندا الجديدة فرات إسبر نشرناه بالمجلّة البلجيكية ” أزرق حِبْريّ ”  التي يديرها الشّاعر كلود دوناي.وقد اشتمل على تقديم موجز لمسيرتها ومختارات من شعرها ترجمناها إلى اللّغة الفرنسيّة .(22)

3 – 1 – 2: :ملفّ عن  الشّاعرة التّونسيّة ايمان عمارة بالمجلّة الفرنسيّة “مشاهد مدوّنة” اشتمل أيضا على تقديم موجز لمسيرتها ومختارات من شعرها ترجمناها إلى لغة موليار.(23)

3 – 1 – 3 :ملفّ عن  الشّاعرة اللّبنانيّة راشيل الشّدياق بالمجلّة المجريّة ” رياح صابيات ” اشتمل على تقديم موجز لمسيرتها ومختارات من شعرها ترجمناها إلى اللّغة الفرنسيّة.(24)

3 – 1 -4: ملفّ عن  الشّاعر التّونسيّ محمّد بوحوش  بالمجلّة الورقيّة الفرنسيّة ” فُصْحَيات” المتخصّصة في الشّعر اشتمل على تعريف بالشّاعر و مجموعة من قصائده ترجمناها  الى اللّغة الفرنسيّة .(25)

وفي نطاق هذا الإجراء نفسه نشرنا ترجمات لقصائد من اللّغة الفرنسيّة إلى اللّغة العربية بمجلاّت عربيّة منها:

3 – 1 – 5: ملفّ عن الشّاعر الفرنسيّ فيليب لوموان بالمجلّة الألكترونيّة العراقيّة المهجريّة ” الثّقافيّ”  اشتمل على تعريف به وقصائد ترجمناها له إلى  اللّغة العربيّة.  (26)

3 – 1 – 6: :ملفّ عن الشّاعرة الفرنسيّة مونيك ماري إهري بالمجلّة الألكترونيّة إنتلجنسيا الثّقافة اشتمل على تعريف بها وقصائد ترجمناها لها إلى اللّغة   العربيّة .(27)

3  – 1 – 7 : قصائد كثيرة  لشعراء ناطقين بالفرنسيّة من فرنسا وخارجها ترجمناها إلى اللّغة العربيّة ونشرناها بالمجلّة الأمريكيّة “توليبس ماغازين ” المتخصّصة في ترجمة الشّعر.(28)

3 – 2 : الإجراء الثّاني هو ترجمة دواوين عربيّة ونشرها بفرنسا. وقد تكفّلت دار أديلفر للنّشر الباريسيّة إلى حدّ الآن بإصدار أربعة دواوين أشرنا إليها أعلاه .وفي ما يلي فكرة مفصّلة عن كل ديوان منها :

3 -2 – 1: قلبي الطّائر للشّاعرة السّوريّة سوزان إبراهيم :

يشتمل هذا الدّيوان على 52 ومضة ومقطوعة شعريّة قصيرة تعالج موضوعات شتّى ويمكن لقارئها أن يستعذب طرافة الأفكار التي تتأسّس عليها والطّابع المباغت لما تنطوي عليه من صور.ومن ثمّة فهذه المجموعة تقدّم للقارئ النّاطق بالفرنسيّة أنموذجا جيّدا من نماذج الشّعر العربيّ المعاصر.

3 – 2 – 2:  القمّة بئر مقلوب للشّاعر العراقيّ عدنان الصّائغ :

يضمّ هذا الدّيوان مختارات من الومضات والمقطوعات الشّعرية القصار للشّاعر العراقيّ المعاصر عدنان الصّائغ فيها يدخل القارئ في جوّ عجائبيّ مستوحى من الأوضاع العربيّة الرّاهنة ، مع الارتقاء في تصويره إلى مستوى وجوديّ يختلط فيه الذّاتيّ بالموضوعيّ ويثير في نطاقه أسئلة الهويّة والمصير بنبرة ساخرة حادّة .

3 – 2 -4 : على ضفاف الحنين للشّاعرة السّوريّة ليندا عبد الباقي  :

يضمّ  هذا الدّيوان عددا من الومضات والمقطوعات القصار تزخر بالمعاني الحافّة والعدول المستحدَث وتتميّز ببحث لا يني عن الصّور الرّمزية التي تأخذ بالألباب.من زاوية الأغراض المطروقة تضع صاحبتها في صلب شواغل الإنسان المعاصر الوجوديّة وتشي في الوقت نفسه بمزيج من الحزن الكظيم والتّشاؤم الدّفين الكامن في الأعماق.

3 – 2 – 5: :ذئب الوقت قد مرّ للشّاعر التّونسيّ محمّد عمّار شعابنيّة 

يحتوي  هذا الدّيوان على مختارات من  القصائد النّضالية الملتزمة تعالج موضوعات شتّى تضيق وتتّسع حسب المقام ،من أوضاع العمّال على النّطاق المحليّ إلى أحوال الطّبقة الشّغيلة  على الصّعيد العالميّ ،من  القضايا الاجتماعية إلى الأسئلة الوجوديّة  حول منزلة الإنسان  في هذا العصر.أسلوبيّا لا تسقط هذه النّصوص في الخطاب التّحريضيّ التّعبويّ الذي يحتلّ الصّدارة في هذا النّوع من الشّعر بل تتميّز بلغة رشيقة أخّاذة ،عالية الشّعريّة.

3 – 2 – 6 : قبل موتك بقليل للشّاعر العراقيّ حمدان  طاهر المالكي:

ينتمي حمدان طاهر المالكي إلى الجيل الجديد من الشّعراء العراقيّين الذين نشؤوا في ظلّ الحرب وفظائعها والأزمات السّياسيّة وأضرارها الوخيمة .للقصيدة عنده كلُّ مواصفات الحلم ،لا سيّما القدرة على اختراق حدود المكان والزّمان وهدم كلّ الحواجز القائمة  بين الواقع والخيال طردًا و عكسًا ،لكون الواقع بما أضحى عليه من لامعقول قد تجاوز الخيال نفسه.وقد ترتّب على هذه التّجربة  اتّسام لغة الشّاعر بإشراقات فنّيّة مدهشة .

و الديوان الآخر عنوانه :

3 – 2 – 7 : صرتُ الآنَ غابةً للشّاعرة السّوريّة سوزان إبراهيم :

تمضي الشّاعرة السّوريّة سوزان إبراهيم المقيمة بدمشق – وقد زعزعتْ كيانَها الحربُ المدمّرة التي تدور رحاها ببلادها – في هذه المجموعة التي تتألّف من 53 ومضة ومقطوعة صغيرة  في مساءلة  أليمة بالغة التّأثير، مدارها على لامعقوليّة الحياة وانهيار القيم الإنسانيّة في عالمنا اليوم ، متسلّحة في ذلك بحساسيتها الوجوديّة المرهفة وخيالها الخصب.

ومعظم هذه الكتب معروضة للبيع بمكتبة فناك الفرنسيّة التي لها فروع في كلّ أنحاء فرنسا منها ستّة فروع بباريس وحدها.

وكلّ هذا لاعتقادنا أنّ الغرض الأوّل من التّرجمة إلى اللّغات الأجنبيّة هو إيصال ما يترجم إلى النّاطقين بتلك اللّغات، لما يسهم فيه من تحقيق التّثاقف مع الآخر الحضاريّ ،فضلا عن تمكين الأدب القوميّ من ارتياد آفاق أخرى خارج فضائه الأصليّ .

خاتمة :

تلك هي الخطوط العامّة لمشروعنا في ترجمة الشّعر العالميّ اعتمادا على المدوّنة التي انتخبناها.وخصيصتُهُ الأولى البارزة هي أنّه  مشروع نقديّ ترجميّ .وقد حرصنا على هذا التّلازم فيه بين النّقد والتّرجمة لإيماننا الرّاسخ بأن مترجم الشّعر لا يمكن أن ينجح في مهمّته إلاّ إذا كان شاعرا مجيدا أو ناقد ذا تجربة واسعة في نقد الشّعر.

لكن على الرّغم من النتائج المشجّعة الملموسة التي تمخّض عنها اشتغالنا بهذا المشروع حتّى الآن،  إذ هي تتجسّد في صدور سبعة عشر كتابا بتونس وفرنسا – وقد تضاف إليها  مستقبلا كتب أخرى – فإنّ هذا لا يحجب محدوديّته ، أوّلا من حيث صغر المدوّنة المختارة التي تتألّف من نصوص لشعراء اهتدينا إليهم مصادفة بفضل إحدى شبكات التّواصل الاجتماعيّ ، ثانيا من جهة الطّابع الفرديّ لهذا العمل الذي لن يكتب له على الأرجح الاستمرار بعدنا والذي من حيث أهدافه وتكاليف إنجازه  حقيق بأن تتبنّاه مؤسّسة ثقافيّة كبرى عربيّة أو أجنبيّة وأن تكلّف بالإشراف عليه لجنةً من النّقّاد والمترجمين .

ولعلّ ما يريحنا نفسيّا على الأقلّ هو أنّنا بجهودنا الفرديّة قد تمكّنّا من تقديم أنموذج لترجمة الشّعر العالميّ يمكن الانطلاق منه في يوم من الأيّام لإنجاز مشروع أكبر وأوسع نطاقا.

 

الهوامش :

1 – من هذه الصّحف والمجلاّت على سبيل المثال لا الحصر : الصّحف  التّونسيّة :” الأيّام” و”المسيرة”والصّدى” والرأي” و”الصّحافة” والصّحف العربيّة : “أخبار الأدب” المصريّة” و”الأسبوع الأدبيّ” السّوريّة”  و”العرب” الليبيّة والمجلاّت العربيّة :” نوافذ” السّعوديّة ” و” الثّقافة العربيّة ” اللّيبيّة والمجلات الأجنبيّة : “أزرق حِبْريّ” البلجيكيّة و”مشاهد مدوّنة” و”فُصْحَيات” الفرنسيّتان و “رياح صابيات “المجريّة و”توليبس” الأمريكيّة….

2 – صدرت ثمانية كتب عن دار إشراق للنّشر بتونس وأربعة كتب عن دار أديليفر بباريس سيأتي تفصيل الحديث عنها  في  هذا الفصل .

  3Mohamed Salah Ben Amor,Figures poétiques du monde (1) : La poète Monique-Marie Ihry, Ichraq Éditions, Tunis2014

4Mohamed Salah Ben Amor,Figures poétiques du monde (2) : La poète Imène Amara, Ichraq Édition

5Mohamed Salah Ben Amor,Figures poétiques du monde (3) : La poète Suzanne Ibrahim, Ichraq Éditions, Tunis 2015

6Mohamed Salah Ben Amor, Figures poétiques du monde (4) : Le poète Patrick Berta Forgas, Ichraq Éditions, Tunis 2015

7Mohamed Salah Ben Amor,Figures poétiques du monde (5) : La poète Furat Esbir, Ichraq Éditions, Tunis 2015

8Mohamed Salah Ben Amor,Figures poétiques du monde (6) : La poète Rachel Chidiac, Ichraq Éditions, Tunis 2016

9Mohamed Salah Ben Amor,Figures poétiques du monde (7) : Le poète Mohamed Bouhouch , Ichraq Éditions, Tunis 2016

10Mohamed Salah Ben Amor,Figures poétiques du monde (8) : La poète Janice Montouliu,Ichraq Éditions, Tunis 2017

11Suzanne Ibrahim, Mon cœur l’oiseau, Poèmes traduits de l’arabe par Mohamed Salah Ben Amor, Edilivre,Paris 2015

12Adnan Al-Sayegh, Le sommet est un puits renversé, Poèmes traduits de l’arabe par Mohamed Salah Ben Amor, Edilivre, Paris 2015

13Linda Abedalbaki, Les rivages de la nostalgie, Poèmes traduits de l’arabe par Mohamed Salah Ben Amor, Edilivre, Paris 2016

14Mohamed Ammar Chaabnia, Le loup du temps a passé, Poèmes traduits de l’arabe par Mohamed Salah Ben Amor, Edilivre, Paris 2016

15Mohamed Salah Ben Amor, Analectes de poésie mondiale (anthologie comportant  89  poètes de 22 pays et 396 poèmes choisis dont 185 traduits de l’arabe vers le français), Ichraq Editions ,Tunis 2015.

16Dominique Montaulard, Namasté, poèmes commentés par Mohamed Salah Ben Amor, Edilivre, Paris 2016

17Gaëtan Parisi, Un sourire, un baiser, poèmes commentés par Mohamed Salah Ben Amor, Edilivre, Paris 2016

http://masharif.com/

18 – محمّد صالح بن عمر، “ليست كلّ نصوص المؤلّف الواحد صالحة للنّشر” ، مجلّة “مشارف” الألكترونيّة ، ركن “أجادل” 3 أغسطس 2015.

19 –  محمّد صالح بن عمر، “لستُ مترجمًا بمعنى أنّي قادرٌ على ترجمةِ كلِّ ما يُعرُضُ عليَّ ترجمتُهُ” مجلّة “مشارف” الألكترونيّة ، ركن”مصافحة” 15 يونيو 2016.
20 – خديجة الحديثي،أبنية الصّرف  في كتاب سيبويه، منشورات مكتبة النّهضة ، بغداد 1965.
20Revue « Bleu d’encre » no 30,Ciney, Belgique,Hiver 2012
21Revue « Paysages écrits » no 11,Paris Janvier 2013
22Revue « Vents alizés »no 1,Budapest, Hongrie Février 2013
23Revue « Littérales »no 12,Brest,Bretagne septembre 2015
24 -مجلّة الثّقافيّ الألكترونيّة ، ماي 2015.
http://up2all.net/do.php?id=3160   -25 

26 -مجلّة إنتلجنسيا الثّقافة الألكترونيّة ، يناير 2017.

http://www.intelligentsia.tn 27 – /

Tulips Magazine, The first specialized magazine in the translation of poetry and literary texts to different languages,USA 28

http://www.tulipsmagz.com – 29 /

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*