اليوميّ والإبداعي ّ في ” ديوان اليوميّ ” (1) للشّاعر التّونسيّ مجدي بن عيسى : محمّد صالح بن عمر

مجدي بن عيسى

 

إذا سلّمنا بأنّ جوهر الفنّ عامّة  عدول عن الواقع إلى الخيال  فإنّ  هذا العدول  لا يكون عملياّ انقطاعا تامّا عنه . وذلك بحكم كون الجهاز العرفانيّ للكائن البشريّ  – وهو مرتبط بالتّركيب العصبيّ للدماغ  – مكيّفا مع طبيعة هذا الواقع  ( 2 )،   إذ المعرفة عند العرفانيّين  هي عمليّة تمثُّلٍ * أشبه ما يكون بالترجمة الرّمزية . فلمّا كان العالم الخارجيّ يتألف من أشياء وحالات تكون عليها الأشياء فإنّ المعارف  ليست سوى تمثّلات رمزيّة لتلك الأشياء وتلك الحالات ( 3 ) .

ومن ثمّة فإنّ عمليّة التخيّل التي بمقتضاها يتحقّق العدول تكون إمّا بنقله  كما هو نقلا تسجيليّا عدسيّا – وهو أمر يكاد يكون متعذّرا (4) – أو كما يمكن أن يكون  – وهو الذي يسمّى محتملا للوقوع * (5) – وإمّا بالتصّرف فيه  ، بتفكيكه إلى مكوّناته وتوظيفها في تصوّر شيء أو حدث خارق .ولهذا السّبب يتألف كلّ خارق من عناصر واقعيّة . من ذلك  مثلا  عروس البحر والفرس المجنّح والسّماء التي تمطر ذهبا والطّائر الذي له رأس أفعى وهلمّ جرّا .

ولقد تباينت مواقف الشّعراء  التّونسيين  من هذين اللّونين من الكتابة منذ  خمسينات القرن الماضي . فمنهم من تمسّك   بالنزعة الواقعيّة الخالصة  في فترات مختلفة  لعلّ أبرزهم منوّر صمادح و الميداني بن صالح والطاهر الهمّامي . ومنهم  من  تصدّى لها منكرا استجابتها لشروط الفنّ الشّعريّ  . ومن هؤلاء خاصّة   محمد الغزّي ومنصف الوهايبي   . وهناك  طائفة ثالثة قالت بإمكان التّوفيق بينها وبين شعرية  القصيدة منها آدم فتحي ومنصف المزغنّي وسوف عبيد  ( 6 ) .

وبحلول السّنوات التّسعين ظهر جيل تجاوز هذه الثّنائيّة تماما بتحويل الواقعيّ إلى معيش داخليّ . وذلك بالغوص في أعماق الذّات لا باعتبارها مفرّا  يُلجأ إليه من للتخلّص من ضغوط الواقع  بل من حيث هي مرآة ينعكس فيها  ذلك الواقع  لكن مع اختلاطه ثمّة  بالخيال والحلم واللاّوعي .وهو ما أدّى إلى ظهور خطاب لا يخضع للهيكلة الأغراضيّة القائمة على البناء الشّجريّ للموضوع المطروق وإنّما يصوّر مناخا غَبَشيّا تتكثّف فيه الدّلالات الإيحائيّة والرمزيّة .

ومن هنا يبدو لنا من غير المتوّقّع  تماما أن يحتفي شاعر يعدّ من أهمّ رموز هذه الموجة –  وقد برهن على ذلك في أربع  مجموعات منشورة –  بالواقعيّ خالصا أو يكاد  إلى حدّ أن أفرد له مجموعة على الأقلّ حسب ما تفيده صيغة العنوان الذي اختاره لها.وهو ” ديوان اليوميّ ”  . و إن كان محتواها يكشف عن خلاف ذلك  .

فكيف جاء تعبير الشّاعر عن هذا اليوميّ ؟ وبأيّ أسلوب عالجه  ؟ وهل في هذه المحاولة ردّة أو حياد و إنْ مؤقّتا  عن الخطّ التّسعينيّ ؟

حين  نطّلع على محتوى هذه المجموعة نكتشف من القراءة الأولى أنّ  لفظ ” اليوميّ ” وإن أثبت في العنوان فإنّه  لا يطابق إلاّ ما يزيد بقليل على ثلث  القصائد الواردة فيها ( 33 قصيدة ) وقد وزّع  الشاعر هذه القصائد على بابين : الأوّل بعنوان ” شؤون عائليّة ” والآخر عنوانه ” الحرب على الإرهاب ” . أمّا باقي القصائد –  وعددها 57 قصيدة   –  فلم يحد فيها عن الأسلوب الذي اعتمده في مجاميعه السابقة . وقد أودعها في ثلاثة أبواب وضع لها العناوين التاّلية : ” أمتعة الكتابة ” ، ” أعمال الشّاعر ” ، ” ألحان مصاحِبة ” .

ولقد ترتّبت على هذه الطّبيعة المزدوجة لمحتوى المجموعة أن بدت الذّات الشّاعرة متحوّلة بضرب من التناوب المستمرّ بين حالتين متقابلتين تتقمّص في إحداهما شخصيّة الكائن الاجتماعيّ المستقرّ في الهنا الآن وفي الأخرى شخصيّة الفنّان المبدع .وهاتان الحالتان تحتلّ الأولى منهما بديهياّ السّطح والثّانية الأعماق . فما هي ملامح كلّ شخصيّة  منهما  ، كما  يشفّ عنها خطاب الشّاعر ؟

1-اليوميّ بنيةً سطحيّةٌ :

على الرغم من أنّ الشّاعر أبرز ” اليوميّ ” بإثباته في العنوان  فسيكون حديثنا عنه مختصرا  لسببين : الأوّل  ضيق الحيّز الذي يحتلّه داخل المجموعة مقارنة بالحيّز الذي خُصّص” للإبداعيّ ”  والآخر لخلوّه أو يكاد في حدّ ذاته من الإشكال .

فالقصائد التي تنتمي إلى هذا المحور تتوزّع على محورين فرعيّين : أحدهما هو الجوّ العائليّ السّائد داخل بيت الشّاعر والآخر هو الواقع السّياسيّ الراهن عربيّا وعالمياّ .

فعائلياّ يلوح الشّاعر شخصيّة  مستقرّة متوازنة شديدة التعلّق بالبيت والزّوجة والبنت. وقد أدّى غياب التوتّر وسط هذا المناخ الأسريّ إلى طغيان النّبرة التّمجيديّة الاستحسانيّة في وصفه إلى حدّ أن مثّله بالجنّة .

يقول في هذا الصّدد  :

إنّها الأبديّة في لحظة

إنّها جنّتي الوارفة

( ديوان اليوميّ ص 29 )

أمّا سياسيّا فلا يختلف عن رجل الشّارع العربيّ العاديّ من حيث التّحمّس للقضايا العربية وإدانة سياسة الولايات المتّحدة الأمريكيّة تجاه العرب والجرائم التي ارتكبتها باسم مكافحة الإرهاب و التذّمر من غياب الدّيمقراطية وحرّيّة الإعلام في الوطن العربيّ .

ولئن كانت  هذه القصائد ذات الطّبيعة التّرجذاتية تقرّب من القارئ صورة صاحب المجموعة   كائنا اجتماعيّا  فإنّ نوعيّة الموضوعات التي طرقها  فيها قد أدّت إلى غلبة التّصريح على التّلميح والدّلالات المرجعيّة على الدّلالات الإيحائيّة . ولم تفلت من ذلك إلا بعض المقاطع التي تضمّنت إشراقات لطيفة  نحو قول الشّاعر:

سأسمّي

ولدي البكر عُكاشة

وسأرجوه بأن يكبر كي ينتقم منهم .

هؤلاء المفسدون القتلة

أفسدوا الشّعر عليّ

وأماتوا الكلمات النّزِقة

( المصدر نفسه ص 35 )

ومن أمثلة اللّون الذي يرتبط ب” اليوميّ ” هذه المقطوعة التي جاءت بعنوان ” الحرب على لبنان ‘  :

سيكون من الناّدر

أن أتخيّل نفسي

في الصّيف بعيدا عن بيتي هنا

حيث البحر الهادئ والنّسمات

لكنّي اللّيلةَ في أرض أخرى

حيث النّار وحيث البارود وحيث دماء القتلى

ها إنّي

أتنسّم في “عَيْنا الشّعْب”(7) نسيم النصر وريح الحرّيّة

( المصدر نفسه ص 40 )

2- الإبداعيّ بنيةً عميقةً :

للإبداعي عامّة صورتان متباينتان لكنْ متقابلتان :  الأولى تلوح من جهة الإنشاء . وهي التي يبعثها الفناّن إلى الوجود – والشّعر في الأصل فنّ والفنّ موهبة وليس كلّ النّاس  فناّنين موهوبين وهو ما ينساه الكثيرون من المتطفّلين عليه مع الأسف الشديد –  بتوظيف قدراته التّخيّلية والحَدْسيّة وحساسيّته المرهفة والصّورة الأخرى تتبدّى من موقع  التّقّبل . وهي التي يتلقّاها الرّائي أو السّامع أو القارئ حسب طبيعة الفنّ الذي ينتمي إليه العمل  الإبداعيّ المنجز . والشّاعر يؤدّي في حقيقة الأمر هاتين الوظيفتين معا لأنّه حين يكتب يعرض ما يكتبه في كلّ مراحل إنشائه على ذائقته فيشذّب منه ما يراه محتاجا إلى تشذيب ولا يفرغ منه نهائيّا  إلا حين يُرضِي مهجةَ القارئ الذي في ذاته قبل أن يعرضه على القارئ الآخر الموضوعيّ .

ولمّا كان الفنّ في الأصل واحدا فمن الطبيعيّ أن تقود ممارسَه  إذا كان صحيح الموهبة أصيل التّجربة مهجةُ المتقبّل فيه إلى التّفاعل مع  الأعمال المنتمية إلى كلّ الفنون بلا استثناء . وهو ما لمحناه  مثلا في كثير من القصائد التي حاور فيها عبد الله مالك القاسميّ وشمس الدين العونيّ  لوحات  ومنحوتات وقطعا موسيقيّة .

و لقد نحا مجدي بن عيسى هذا المنحى نفسه . فأورد في مجموعته هذه ضمن القسم الكبير الذي يتعلّق بالإبداعيّ صنفين  فرعييّن مختلفين من القصائد يدور الأوّل حول صورته الأولى  –  وقد  أودعه في بابين وسمهما ب ” أدوات الكتابة ” و” أعمال الشاعر ” – والآخر حول الصّورة الثانية وقد أدرجه في باب واحد عنوانه ” ألحان مُصاحِبة ” .

وإنّ المتأمّل في  هذه القصائد بنوعيها ليقف دون عناء على مفهوم صاحب المجموعة للشّعر وتصوّره لعمليّة الإبداع الشّعريّ من جهتي الإنشاء والتّقبّل .

2 -1 : الإبداعيّ إنشاءَ  :

2 -1-1: مفهوم الشّعر وطبيعة  عمليّة إنشائه :

ينتمي مجدي بن عيسى تاريخيّا إلى جيل من الشّعراء  لم يجدوا في الشّعر السّائد ما يستجيب لذائقتهم وهمومهم الإبداعيّة  لفقدانه كلّ ألْق وتوهّج من جرّاء  طغيان النّمطيّة واستفحال  التّكرار والاجترار وطغيان الخطاب المباشر الفجّ . وفي هذا يقول :

على سعة الأغاني

لم أجد في البال أغنية تروي

صاديات الرّوح للكلمات ملأى بالحنين وبالبكاء

( المصدر نفسه ص 15  )

وفي مقابل هذا الرّكام اللّفظي الذي كان يغمر السّاحة الشّعريّة كانت روح العصر التي تحدو الشّاعر بقوّة توجّه رؤيته نحو مناطق  قصيّة لا  يدركها إلاّ المسكون بأسئلة الإبداع الحارقة . ومن هذه النّاحية يلوح الشّعر سؤالا أكثر منه جوهرا ثابتا . وهذا السّؤال  يتجسّد في أشكال غبشيّة ، غائمة  ، مبثوثة  في الكون  ، شبيهة بأطياف الأحلام   تتخلّلها إشراقات  آسرة لا يهتدي إلى مظانّها ولا يقدر على التقاطها إلا ذو الحساسيّة الجماليّة المرهفة .

يقول في هذا المعنى :

ليس للأشعار من معنى

عواء الذّئب في الصّحراء أو تغريد طير

في سكون اللّيل نوح حمامة

ودموع طفل

وهو يذكر جدَّهُ الصّيّادَ أبلغُ في الحنين من الغناء

( المصدر نفسه ص 15 )

وليس المقصود  هنا بكون الشّعر خاليا من المعنى أنْ لا دلالةَ له البتّةّ  ، لأنّ هذا يتضارب وطبيعة العلامة اللّغويّة التي يحيل فيها الدّالّ ضرورة على معنى  وإنّما كون لغة الشّعر الجديد تتألّف من علامات معتّمة * لا شفّافة * بحيث لا  تفيد دلالات واضحة محدّدة بل تسهم مجتمعة في إنشاء مناخ دلاليّ عامّ  تؤدّي فيه هي نفسها وظيفة الدّوال بالإحالة على معانٍ أُخَر  تختلف من متلقّ إلى آخر .والحاصل من كلّ هذا أنّ الشّعر الجديد إنّما  يُكتب لقارئ مؤوِّل لا لقارئ مستهلك .

وهكذا يمكن القول إنّ الفرق بين الشّعر السائد والشّعر الجديد  البديل  هو أنّ مدار الأوّل على المعنى  على حين ينشد الثاني  روح المعنى (8 )  . وهو ما يفصح عنه الشّاعر في قوله مخاطبا الشّعر :

سأقول للشّعر إذن :

يا سيّد الكلمات اطرُدْ

كلّ روح غيّرّها إيقاعها

واستسلمتْ

لرنين أحرفها وتَجَلَّ في الإيقاع فنّاصا بدائيّا

لأرواح المعاني

( المصدر نفسه ص 18 )

على أنّ مفهوم القنص عنده لا يطابق مفهوم البحث .ذلك أنّ الشّاعر الحقّ لليس ذاك  يسعى وراء الكلمات وإنّما هي  التي تتوافد على صفحة ذهنه  فيلتقط من أرواحها ما يستجيب لشروط الأَلْق الفنّيّ و ينسجم مع مناخ القصيدة المخصوص التي يكتبها . وهو ما كان قد أشار إليه أبو الطيب المتنبي في قوله :

أنام ملءَ جفوني عن شواردها         ويسهر الخلقُ جرّاها ويختصمُ

يقول مجدي بن عيسى في هذا السّياق :

يا إبرة الصّمت  قودي خيوط الكلام

وشُدّي المعاني إلى بعضها

كي يكون لنا ما نريد

( المصدر نفسه ص 12 )

و قوله ” شدّي المعاني إلى بعضها ”  هو كناية عن كون  عمليّة الكتابة الشّعرية الإبداعيّة لا الصّناعيّة المتكلّفة  دوافعها  عفويّة لا إراديّة . وهو ما يسميّه العرفانيّون النّفسيّون  اليوم اتّصالا دماغيّا *. والمقصود به أنّ الفنان يعيش في أثناء عمليّة الإبداع حالة انخطاف تتوافد على ذهنه في أثنائها  صور مباغتة .  وهذا الضرب من  الصور لا يزال إلى اليوم مجهول  المصدر .

 2 -1 – 2 : قوادح الكتابة الشّعريّة وأبعادها :

لا يصدر مجدي بن عيسى عن مجرّد هواية لكتابة الشّعر – وهو ديدنُ الكثيرين ممّن يكتبون الشّعر وينشرونه في تونس  وهؤلاء كتّاب شعر لا شعراء – وآية ذلك أن قصائده تكشف عن  وجود خلفيّة صلبة هي بنية  مزدوجة نفسيّة  ذهنيّة عميقة متّسقة .  فلنتوقّف عند بعض ملامحها في كلّ مستوى من هذين المستويين :

2 – 1 -2 – 1: الملامح النّفسيّة للذّات الشاّعرة :

إنّ الإشارات الواردة في المجموعة إلى  بنية الذّات الشّاعرة النّفسيّة قليلة نسبياّ  مقارنة بمثيلاتها المحيلة على بنيتها الذّهنيّة  ، مع الملاحظ أنّ قلّة الحضور  في حدّ ذاتها لا تعني  بالضّرورة  محدوديّة التأثّير لأنّ الخلفيّات الكامنة وراء كتابة النّصوص الأدبيّة تكون في الأغلب الأعمّ  ضمنيّة .

وتنقسم هذه الملامح إلى قسمين متقابلين أحدهما إيجابيّ والآخر سلبيّ . فالايجابيّ هو الحساسيّة الفنّيّة  الشّديدة الرّهافة . وهي تتجسّد في نزعة الذّات الشّاعرة القويّة إلى الاندماج في لغة القصيدة فتكون جزءا  من أجزائها . وفي هذا يقول الشّاعر :

الفراشة

 تلك الملوّنةُ النّزِقَة

آهٍ لو أنّني

كنت شاعر هايكو

لانْكَتبَْتُ أنا وهي في القصيدة

 حرفين في كلمة

( المصدر نفسه ص 65 )

ويقول :

قد يلسعني النّحل السّارح في حقل الكلمات الحلوة

قد بجرح حلقي حرف

أو أتعثّر في حَجَر المعنى

( المصدر نفسه ص 7 )

وأقوى ما يكون اندماج الذّات الشّاعرة في الإيقاع . وذلك بحكم كونه العنصر المميّز لفنّ الشّعر على اعتبار أنّ الصّورة والإيحاء ممّا هو مشترك بين الشّعر والنثر  ، إضافة إلى أنّ الإيقاع ليس مجرّد أنغام تُطْرِبُ وإنّما يحمل هو نفسه دلالات .

يقول الشّاعر :

كلّما ضاقت بي الكلمات وسّعتُ انتشاري

في مدى الإيقاع . أشرعةٌ هو الإيقاع ، موسيقى ورقصٌ خارج الأنساق ، معنى

لا تؤدّيه اللّغات

( المصدر نفسه ص 10 )

والمحور الآخر هو الشّعور بالذّنب  . لكنّه وإن  أفرد له الشّاعر  قصيدة كاملة عنوانها ” أُحْصِي ذنوبي ” (ص ص 56 – 58 ) فلا أثر صريح له في باقي القصائد  . ومن غير المستبعد أن يكون  في حالة كمون وأن تكون تجربة الشّاعر برمّتها نابعة منه ،  إلاّ أنّه ظلّ مدفونا في أعماق اللاّوعي ولم يطفُ على سطح الخطاب إلاّ في هذه القصيدة اليتيمة  وبعض المقاطع من قصائد متفرّقة . و لعلّه ممّا تشكّل في عهد الطّفولة  لاسيّما أن صاحب المجموعة يشير إلى إمكان أن تكون طفولته مستمرّة في كهولته  إذ يقول :

من وعود النّسغ للأشجار بالثّمر النّضير

أ حلّ بعدُ خريفُ أيّامي ولم تبرح

طفولتَها الكتابةُ ولم تزل وعدا أؤمّله ؟

( المصدر نفسه ص 63 )

وقد يكون هذا مُحْوِجا إلى المزيد من تقليب النّظر في المعاني الحافّة  ومن القراءات  المتأنّية بين السّطور.

ومن هذه القصيدة قول الشّاعر :

والعمر بَيْتٌ عامرٌ

بهواجسي ومواجعي الحرّى وبالأحلام وبالهوى

والحنين

أحصي ذنوبي

فأرى ضلالاتي وهَدْي

يتآخيان على غدٍ جَهْم وأمس موحش ودم حلال

( المصدر نفسه ص 57 )

2 – 1 – 2 -2: الملامح الذّهنيّة للذّات الشّاعرة :

إنّ الملامح الذّهنيّة للذّات الشّاعرة أقوى حضورا و أشدّ كثافة في مجموع القصائد. وهي تلتقي كلّها في إفادة الطّابع الوجوديّ لرؤية الشّاعر وشواغله . فشعره يكشف في مواضع كثيرة عن حيرة وجوديّة عميقة  متأتّية من عجزه عن إدراك الحقيقة الموضوعيّة المؤدّية إلى برد اليقين :

أستفسر الحكماء عن معنى الحقيقة . قيل نورانيّة

في أصل عنصرها القديم .وقيل شيطانيّة مُزِجتْ

من نار ذنب أو خطيئةِ مُخطئ

فأغوص في ذاتي إلى أعماقها

فأرى نظائر للحقيقة لا أسمّيها ولكنّي أراها

أرنو إليها ثم أشحذ عزمها : ” اقتربي ”

فإذا بها  ترتدُّ  . هل كانت سرابا ؟

لأنّنا في رقصة عشقيّة

وطِراد معنىً لا يُقيم

( المصدر نفسه ص 59 )

ويقول :

أستفسر الحكماء عن معنى شرودي

خلف معنىً غامض وعن اليقين

إذ يؤاخي الشكَّ حين يلوح في الآفاق معنى لا يَبين

( المصدر نفسه ص 61 )

وحالة الشّرود الذّهنيّ هذه هي التي تفسّر التشظّي الغالب على قصائد الشّاعر غير المتّصلة اتّصالا مباشرا  بالواقع  على حين أنّ القصائد المرتبطة باليوميّ لا يمكن  أن تكون إلاّ صادرة عن حالة صفاء لوضوح معانيها وبنيتها العامة وأقسامها  وفروع كلّ قسم . وهو ما يدلّ على أنّ الشّاعر يعيش في أثناء الكتابة حالتين مختلفتين تتمخّض كلّ منهما عن لون معيّن من القول الشّعريّ .

وتستبدّ به هذه الحيرة نفسها حين ينكبّ على نفسه متسائلا عن هويّتها . فيتراءى له أنّه غير موجود إنسانا وأن وجوده ينحصر في كونه شاعرا  بمعنى أنّه يستمدّ وجوده من الشّعر لا من كونه كائنا بيولوجيّا .

يقول في هذا :

أتأمّل العمر الذي ولّى . كأنّي لم أكن

عَدَمًا أرانِي

فمنْ رآني

في القصيد فقد رآني

لغتي يقينٌ حاسمٌ

( المصدر نفسه ص 64 )

وفي هذا السّياق نفسه يتنزّل توقه إلى الانعتاق من رِبْقة الهنا- الآن  والانطلاق في رحلة تقوده إلى أطراف الكون   حيث يمكنه  احتضان المطلق .

يقول :

ها إنّني أمشي

و بي ظمأ إلى التّحليق فوق الغيم

بي ظمأ إلى نجم بعيد في المجرّة

حيث لا لغة

ولا إيماء

معنى محض أدركه

فيأتي بعده النسيان موصولا

( المصدر نفسه ص 66 )

2 –  2:الإبداعيّ تلقّيا :

يحسن التّفريق بدءا هنا بين الحساسيّة الفنية * التي يوظفها الفنّان عامّة  – والشّاعر خلافا لما ينساه الكثيرون عندنا اليوم فنّان  –  في الإنشاء والحساسيّة الجماليّة * التي يحتاجها متلقّي العمل الفنّيّ لإدراك نواحي التميّز فيه إن وجدت . ومن الناّدر ألا تجتمع هاتان الحساسيّتان عند الفنّان الواحد لأنّه أوّل متلقّ لعمله الفنّيّ قبل أن يعرضه على الناّس .

ولمّا كان مجدي بن عيسى ،  كما أسلفنا ، من الشّعراء الذين آمنوا بأنّ الشّعريّ مبثوث في الكون قبل أن يتجسّد في اللّغة   وبأنّ كلّ الفنون بلا استثناء  يمكن أن تستوعبه  لتصوغه طبقا لطبائع الأدوات الخاصّة بها  فمن الطبيعيّ أن يلفته ما يلتقطه منه المبدعون في فنون أخرى وخاصّة الموسيقيّة والإيقاعيّة منها  ربّما لأنّه  يعدّ الإيقاع  ، مثلما  مرّ بنا ،  أخصّ ما يتميّز به الفنّ الشّعريّ .

ففي القسم الأخير من المجموعة أودع الشاّعر  عشر قصائد تدور جميعها حول فنون  موسيقيّة  وإيقاعيّة شتّى   (  أغانٍ لشارل أزنافور ، إنشاد صوفيّ ،  قرع طبول إفريقيّة ، جاز ،  موسيقى روسيّة ، موسيقى تركيّة  ، فلامنكو )  من بلدان مختلفة  ( فرنسا ، باكستان ، بورندي ، الولايات المتّحدة  ، روسيا ،  تركيا ، إسبانيا  ) .و ممّا لا شكّ فيه  أنّ الانفتاح على كلّ هذه الفنون التي  تنتمي إلى ثقافات شديدة التنوّع  يفصح عن كونيّة الفنّ عنده ومن ثمّة كونية الشّعري بمفهومه المطلق .

أمّا النّصوص التي أنشأها في حدّ ذاتها  فإنّها تكشف عن أسلوب واحد تقريبا تتّبعه  الذّات الشّاعرة في تقبّل الأنغام والإيقاعات التي تنطوي عليها تلك الأعمال الفنّيّة وهو التناصّ معها باعتبارها خطابات سمعيّة تحمل رسائل مشفّرة تتألّف من دلالات إيحائيّة  فتلتقط تلك الإيحاءات وتسرح في عوالمها محوّلة إياّها إلى نصوص شعريّة .

فأغنية للمطرب الفرنسيّ شارل أزنافور أوحت إليه بفراشة عملاقة ذات طيران مَهِيب  تحلّق في سماء صافية ( ص ص 72 – 73 )  . و عند سماعه إنشادا صوفياّ للباكستاني نصْرتْ علي خان خيًّل إليه أنّ ملائكة لطيفة تجالسه  ( ص 74 ) . ودقُّ فرقةٍ من بورندي طبولَها الإفريقيّة أثارت في ذهنه صور المشاهد نفسها التي سبق أن أثارتها فيه  نصوص الأديبين وول سويتكا وليوبولد  سيدار سانقور . و ألحان الموسيقار الروسي تشيكوفسكي ذكّرته بصفاء الثلّج الناصع ربّما لارتباط اسم روسيا بجليد سيبيريا ( ص ص 78 – 79 ) وقطعة من موسيقى الجاز للعازف الأمريكيّ أرمسترونق  ولّدت في مخيّلته صور التفّاح الأحمر وأجداده وهم يعيشون  تحت الشّمس الدّافئة  في سهوب إفريقيا ( ص ص 79  80 ).

وهكذا دواليك في باقي قصائد هذا القسم حيث لا يتوقّف الشّاعر عند البناء الخارجيّ للأعمال الموسيقيّة والإيقاعيّة التي يتلقّاها  فيتفاعل معها تفاعلا جسميّا أو نفسياّ سطحياّ مثلما يفعل  المتقبّل العاديّ بل تتيح إليه حساسيّته الجماليّة  المرهفة إمكان النّفاذ إلى دلالاتها الإيحائيّة العميقة فيعيد صياغتها لغويّا  على هيئة قصائد . ومن ثمّة فإنّ تمشّيه في التقاط الشّعريّ هو نفسه سواء أكان ذلك من الطّبيعة أم ممّا استثمره  منه غيره في  فنون أخرى .

خاتمة

يمكن القول في خاتمة هذه القراءة المتعجّلة  لمجموعة مجدي بن عيسى الخامسة  الموسومة ب” ديوان اليوميّ ” إنّها تصوّر بوجه عامّ   تردّد الذّات الشّاعرة بين اليقظة والحلم ، بين الوعي واللاّوعي ، بين الواقع والخيال . وقد انبثق عن هذه الثنائية لونان متباينان من الكتابة الشّعرية بدا أحدهما  – وهو ذو طبيعة ترجذاتيّة  – خافت النّبرة الإيحائيّة كثيف الدّلالات المرجعيّة  لارتباطه باليوميّ  العابر وانصرف الآخر إلى  تصوير أحوال  الذّات المبدعة في سعيها المضني إلى الكشف عن مظانّ الدّلالات الموحية والتقاطها وإعادة استثمارها في إنشاء نصوص عالية الشّعريّة .

ولعلّ السّؤال الذي يتبادر إلى الذّهن في الختام هو : هل ستستمرّ هذه الازدواجية في أعمال الشّاعر اللاّحقة أم هل هي  مجرّد محاولة عابرة في مسيرته ؟

الهوامش :

1 – مجدي بن عيسى ، ديوان اليومي ، دار إشراق للنشر ، تونس 2010

2- انظر في ذلك :

SCIENCES COGNITIVES & NEUROSCIENCES

www.neur-one.fr/LES%20SCIENCES%20COGNITIVES.pdf

3- انظر :

François Rastier, Sémantique et sciences cognitives, Puf  , Paris  p 38

4 – يؤكّد شونفلوري مثلا استحالة نقل الواقع كما هو  .وذلك لتدخّل ذات الإنسان وجوبا في عمليّة النقل  . فتكون عمليّة نسخ الإنسان للطّبيعة  وجوبا ضربا من التّأويل . انظر في ذلك :

 Champfleury, Le réalisme, Genève, Slatkine Reprints , Paris  1967 [ 1ère édition ,Paris, Michel Lévy frères, 1857]  p 281

5 -انظر :

 Communication,  numéro 11  , Le vraisemble  , recherches sémiologiques , Paris 1968

6 – تاريخ الأدب التّونسيّ الحديث والمعاصر ، ” بيت الحكمة ”  ( تأليف جماعيّ ) ، قسم الشّعر التّونسيّ المعاصر ، إعداد   : محمّد صالح بن عمر ، قرطاج  1993 ص ص 84 – 116 و ص ص 181 – 206

7-  قرية من قرى جنوب لبنان  ، مجدي بن عيسى ، ديوان اليومي ص 40

8 – يذهب هيامسلاف إلى أنّ للمعنى شكلا وجوهرا أو محتوى . انظر في ذلك  :

Hjelmslev , Prolégomènes  à une théorie du langage  , Editions du Minuit

Paris  1971 p 68

المصطلحات :

  • التمثّل ( La représentation )
  • علامة معتّمة (Signe opaque )
  • علامة شفّافة ( Signe transparent )
  • اتّصال دماغيّ ( Connexion cérébrale   )
  • الحساسيّة الفنّيّة ( Sensibilité artistique )
  • الحساسيّة الجماليّة ( Sensibilité esthétique )

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*