أمومةُ طفلةٍ :قصّة قصيرة لنور نديم عمران – اللاّذقيّة – سورية

نور نديم عمران

 

لا شك في أن تحطم الطبق الأول كان دون قصد منها ؛ لكن الأمر لم يسر على ذلك النحو لاحقاً مع الثاني والرابع والسابع.. تكوّمت على نفسها في زاوية المطبخ المهترئ كروحها وغرقت في دوامة بكاء،مضى زمن طويل قبل أن تجمع بقايا المرأة المنكسرة مع الأطباق وتنهض لتكمل عملها ، كآلة للتنظيف أوقفها انقطاع التيار الكهربائي فعادت مع عودته..نعم هي تشعر بذلك آلة للتنظيف ،لتحضير الطعام ،للترتيب،لل…ل…ل… كل شيء يسير بشكل أوتوماتيكي، لقد نسيت أنها أنثى …أنها زوجة لرجل وحيد لأهله فكان لزاماًعليها أن تنجب أولاداً كثرا لتعوض ذلك عليه. لقد نسيت كيف تهتم بشعرها أو تستخدم مستحضرات التجميل…وهل تملك شيئاً منها…؟! حاجات الأولاد تستهلك راتبيهما معا”. كانت قد نسيت قصص كثيرة وماعادت تهمها لكن تلك الزيارة المقيتة لصديقة قديمة أثارت الفوضى في حياتها. إنها ندى العائدة بعد سفر وغياب ،لم تعد كما سافرت بل عادت بأجمل مما كانت عليه قبل خمس عشرة سنة،تفيض بالشباب والأنوثة واللياقة،تمتلك جسد شابة في العشرين …ترتدي ملابسها،زينتها، تملك روحها. وكيف لا وهي لم تنجب سوى ولد وحيد لزوجها الثري ،فتنعمت بالوقت والمال والجمال. لم تضطر إلى العمل .كانت حياتها أمامها لتعيشها كما ترغب. تألمت علياء لأنها حسدت رفيقتها …نعم حسدتها ولم تغبطها،فلطالما كانت ندى الفتاة الأقل ذكاء وجمالاًوعلماً واجتهاداً، ولكن كما يبدو فهي الأوفر حظا في النهاية. كانت الأمور لتسير بشكل مقبول لولا نظرات الإعجاب التي لم يقدر زوج علياء على إخفائها أمام كل ذلك السحر الذي كان يشع من صديقتها، بل وتابع تمزيق روحها بالحديث عنها حتى بعد رحيل المرأة الشابة. أجل إنها فاتنة …عمليات تجميل وغير ذلك ..لا يهم فهي فاتنة. استفاقت علياء من غيبوبتها على صوت طفلتها الصغيرة ذات السنوات الخمس: ماما…ماما…انظري ماذا رسمت ؟ تأملت لوحة ابنتها الصغيرة وقد تسلل النور إلى قلبها فجأةً وهي تخبرها: إنها صديقتي . فسألتها: وهل أعرفها؟ ردت الفتاة دون تردد : لا ليس بعد،إنها تعيش في أميركا وستأتي لزيارتي كما فعلت السيدة ندى. انظري يا أمي إلى كل الأحجار الملونة التي لديها، لقد كانت تجمعها في كيس كبير مع كل مجوهراتها. كم هي جميلة ..ليتني أملك مثلها! سقطت الكلمات كوابل من رصاص في قلب الأم فاستنفرت قواها الخائرة:أنت أجمل منها بكل تأكيد انظري إليها وحيدة لا تملك إلا أحجارها أما انت فلديك خمسة أخوة وأخوات ، وأصدقاء كثر وترسمين وتغنين. ترددت الصغيرة قبل أن تسأل أمها: فلم ظهر عليك الحزن عندما زارتك صديقتك الثرية بالأمس إذاً ؛ كنت تنظرين إليها دون أن تتكلمي ،لقد شاهدك إخوتي وأنت تبكين بعد رحيلها ؟ لم تضعف علياء هذه المرة ،لم تبك،ضمت صغيرتها وقد أدركت أن لا مجال إلا للنهوض بثبات. لا يا صغيرتي كان ثمة أمر يضايقني قبل قدومها ولم أتمكن من تجاوزه فوراً،إنها صديقتي وقد فرحت بقدومها. هيا نحضر حلوى لذيذة سيعود أخوتك ووالدك قريباً وسنحتفل بلوحتك الجميلة. نهضت الأم من حزنها وهي تكتب على صفحة الهواء أمامها: أنا امرأة تزينت يداها بذكرى حرق من وعاء ساخن وجرح صغير من سكين مطبخ واصطبغتا بحنة سوداء من حفر الباذنجان ،و علامة قديمة من حرق مكواة.. هذه آثار تعبي في سبيلي أسرتي…هذه آثار شقائي وسعادتي.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*