خربشاتٌ :قصّة قصيرة: ريتا الحكيم – اللاّذقيّة- سورية

ريتا الحكيم

أزاحَ الكُرسيّ الوحيدَ في غرفتهِ الباردةِ، وبدأ يُخربشُ على جُدرانِها خطوطاً عشوائيّةً ومنحنياتٍ لا نهايةَ لها، إلى أنْ كلّت يُمناهُ وأصابَها الخدرُ؛ فما كان منهُ إلا أنْ يقفز على رِجلٍ واحدةٍ، بسرعةٍ تخطّتْ حدودَ المعقول، حتّى إنّهُ، هو نفسهُ دُهِشَ مِنْ نشاطهِ المُفاجئِ.

كلّ يومٍ يُمارسُ هذه الطقوسَ التي تُنهكهُ في نهايةِ المطاف؛ فيرتمي على فراشٍ مُهترئٍ في زاويةِ الغرفةِ، ليغطّ في نومٍ عميقٍ حتّى ساعةٍ مُتأخرةٍ من صباحِ اليوم التّالي.

كانوا يُلقبونهُ بالأبلهِ، في الحيّ القديمِ حيثُ يسكنُ. ولمْ يكُنْ يُزعجهُ هذا الأمرُ أبداً، حتّى إنّهُ نسيَ اسمهُ الحقيقيّ تماماً، والذي هو “سعيد”.

سلوكهُ غيرُ العاديّ في الليلِ كان يُثيرُ ريبتَهم ويجعلُهم يُخمّنونَ أشياءَ لا تخطرُ على بال؛ ففي جلساتِهم الصباحيّةِ في مقهى العمّ “أبو عبدو”، محورُ حديثِهم يتركّزُ عليهِ.

يبدأ الحوارَ كلّ يومٍ “أبو سالم” حلاقُ الحيّ العتيدِ، والذي هو في واقعِ الأمرِ يُمارسُ مهنتهُ في الشّارعِ حيثُ يضعُ كرسيّ الحلاقة الذي ورثهُ عن أبيهِ، ويسألُ المارّةَ بتطفّلٍ ممجوجٍ: ألن تَحلقَ ذقنكَ؟ إنّها خشنةٌ جداً وستزعجُ بها زوجتكَ هذه الليلةَ، ثمّ يُقهقهُ بصوتٍ تَرْتَجّ لهُ الأركانُ، ويعرفُ الجميعُ أنّهُ لَمْ يَصْطَدْ بعدُ أيّ زبونٍ عابرٍ.

“أبو منير” عاطلٌ عنِ العملِ منذُ أن شبّ عنِ الطّوقِ، تزوّجَ من “صفيّة” وهي عاهرةٌ مشهورةٌ جداً، تكفّلتْ بمصروفهِ شرطَ ألاّ يتدخّلَ في الحيثياتِ والتفاصيلِ، أنجبتْ “صفيّة” ولدينِ، والكلّ يعرفُ أنهما ليسا مِن صُلبهِ، وطبعاً هو أيضاً.

“أبو رشيد” مقامِرٌ أفنى عُمرَهُ على طاولاتِ القمارِ التي كانتْ تُديرُها سميرة إحدى أخواتِ “صفيّة” بِسِريّةٍ تامّةٍ بعيداً عن أنظارِ المُخبرينَ الفَضوليّينَ الذين يبيعونَها سكوتَهم ببضعِ ليراتٍ تَسًدّ بها جَشَعَهم في حالِ نجاحِهم في ضَبْطِها مُتَلَبّسَةً بالجُرْمِ.

“رشيد” ابنُهُ البكرُ، تركَ المنزلَ ولا أحدَ يعرِفُ عنهُ شيئاً، “منى” تزوّجتْ منْ أوّل طارِقٍ على بابِ قلبِها وهي في الرّابعة عشرة من عمرِها.

في الصّباحِ عندَ أوّلِ رشْفةِ قهوةٍ في المقهى، تبدو النميمةُ بأبهى حُلّةٍ لها، على لسانِ “أبو عبدو” و”أبو منير” و”أبو رشيد”، تتخلّلُها همساتٌ خافِتةٌ يتبعونَها بضحكاتٍ تجعلُ كروشَهم تتسابقُ في نزولٍ وصعودٍ إلى أن تتوقّفَ عندَ مرورِ أوّلِ أنثى تعبرُ الطريقَ أمامَهم؛ فيصيبُهم الوجومُ والاكتِئابُ في حالِ كانتْ فتيّةً بضّةً ويبدأُ كلٌ منهُم بمقارنَتِها مع زوجَتِه.

هذا الحيّ لا مثيلَ لهُ أبداً، وأعتقدُ أنّ كلّ مَنْ وُلِدَ فيه لا يَقْوى على مغادَرَتِهِ لِما لَهُ من خُصوصِيّةٍ قلّما نَراها في الأحياءِ الأخرى؛ فلا شيء مَخْفِيّ هُنا، الجميعُ يتصرّفونَ دونَ أيّ حَرَجٍ أو خوفٍ، ولا يخجلونَ من سوءِ سُمعَتِهِم، كلّ شيء هنا على المكشوفِ.

“سعيد” وحدهُ كان المُنزوي في كونٍ آخرَ، لا يتعاطى معهُم لا منْ قريبٍ، ولا منْ بعيدٍ، وهذا ما جعلَهُم يتضامَنونَ فيما بينَهم مُشكّلينَ بذلكَ حِلفاً قويّاً ضِدّهُ؛ فهم وحدهُم الغارقونَ في الوحلِ والطّين.

يبدو أنّ سعيد كان يُمْعِنُ في إغاظَتِهم عَمْداً، ويثيرُ فضولَهُم بأنْ يُكْثِر من ضَجيجِهِ ليلاً وهو يُؤدّي طقوسَه اليومِيّةَ.

تهامسَ المؤتمرونَ فيما بينهم، مُتّهمينَ إيّاهُ بأنّه يتنقلُ بينَ أحضانِ الغانيات اللواتي يملأن َالحيّ المُجاورَ، وبأنهُ يأتي من عندهن مخموراً لا يعي شيئا وهذه الأصوات التي يسمعونها، سببها ثمالتهُ الشديدة حين عودتهِ من عندهن.

كان يعرفُ تماماً ما يدور في خلدهم وهذا أمرٌ جعلَهُ فخوراً بنفسِهِ أمامَهم وبأنّه مَحَطّ أنظارِهِم، مما حَدا بهِ إلى أنْ يمشيَ مُنْتَصِبَ القامَةِ غيرَ هيّابٍ أو مُبالٍ بهِمْ.

حينَ غابَ “سعيد” ذات اقتحامٍ لرجالِ الأمنِ السّياسي لمنزلهِ، توقّفتِ الثرثرةُ، والحكايا عنهُ، وأصابَ الجميعُ وجومٌ واكتئابٌ.

بعدَ هذه الحادثةِ، تحوّلَ “سعيد” إلى ما هو عليهِ الآن من غرابةٍ في أطوارهِ، وعزوفهِ الدائمِ عنِ الاختلاطِ  والحركاتِ المُريبةِ التي يمارسِها في غرفتهِ باستمرار.

لم يجرؤ أحدٌ على سؤالهِ حولَ ما حدثَ لهُ هناك، مع أنّ الفضولَ أرّقَهُم وأقضّ مضاجِعَهُم؛ فاختلقوا قصصاً من بناتِ أفكارِهِم.

السِرّ الذي يُخْفيهِ “سعيد” في جُعْبَةِ روحِهِ، كانَ مِنَ الفظاعَةِ والقسوةِ بمكان ، وهذا ما دفعَهُ للتّهرُبِ مِنْ نظراتِهِم، مَحْنِيّ الرّأسِ والأكتافِ.

هذهِ الليلةُ بالذّات تفاقمَتْ حالتُهُ إلى حَدٍ كبيرٍ لدرجَةِ أنّ الدّماءَ أغرقتِ الجُدرانَ وهو يَحُكّها بأظافرِهِ، بَدَلَ تلكَ الخربشاتِ بالمسمارِ الّذي كان يحتفظُ بهِ دوماً لهذا الأمر بالذّاتِ.

علا صوتُ خطواتهِ؛ ليغدو كطرقاتِ الإزميلِ بتواترٍ شديدِ اللهجةِ، مما أجبرَني، وأنا المُقيمُ في الغرفةِ المُجاورةِ لهُ، أن أطرقَ بابهُ رغم تخوّفي منهُ.

بعد لحظاتٍ، لمْ أعُدْ أسمع شيئاً سوى حشرجةِ أنفاسِهِ الّلاهِثَةِ، تأتيني مُتَقَطّعَةً منْ خلفِ البابِ، وأنينٍ خافتٍ ينمّ عن ألمٍ فظيعٍ؛ فما كان منّي إلّا أن اقتحمتُ غرفتهُ غيرَ عابئٍ برَدّةِ فِعلِهِ، لأجدني وجهاً لوجهٍ أمامي، مُلطخاً بدمائي، وحولي أبو عبدو، وأبو منير، وأبو رشيد بأشداقهِم التي يسيلُ منها اللعابُ،  وعيونهِم التي خرجتْ من محاجرِها لتتفحّصَ جسدي، ورِجليَ المبتورةَ.

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*