أصداءٌ : قصّة قصيرة لريتا الحكيم – اللاّذقيّة – سورية

ريتا الحكيم

ريتا الحكيم

رقعة الشّطرنج تلك، المركونة في زاوية المكتبة والتي تخصّ أبي، لم أجرؤ يوماً على لمسها حفاظاً على بصماته المطبوعة عليها. خططه في اللّعب كانت محكمة جداً؛ فهو لم يخسر أبداً، وأنا خاسر دوماً، وتلميذ ضعيف في تلقّي تعليماته. بعد رحيله وضعت مقتنياته في غرفتي وأخذت عهداً على نفسي ألاّ ألمسها مهما حدث، مع أنّ نفسي راودتني أكثر من مرّة أن أبحث فيها، إلاّ أنّني كنت أتذّكر العهد الذي قطعته على نفسي؛ فالشّيطان له في نفوسنا حيّز لا بأس به يختلف من شخص لآخر، وأنا أوصد الباب في وجهه كلّما حاول اقتحامي. لكنّ الغريب في الأمر أنّني في كلّ ليلة أستيقظ على أصوات آتية من تلك الزّاوية القصيّة وكأنّه صوت عراك يستمرّ إلى أن يبزغ الفجر، ومن ثمّ هدوء وسكون وكأنّ شيئاً لم يكن. ألفت تلك الضّجّة اللّيليّة، ولم يعد بإمكاني النّوم دونها، لقد أصبحت بديلاً عن حكايات جدّتي قبل النّوم. عزفت عن تناول المهدّئات، لم أعد بحاجة إليها أبداً، والقرقعة التي أسمعها كانت كافية لأغرق في النّوم حتّى ساعة متأخّرة.

أفقت اليوم على صوت خربشة صادرة عن تلك الخزانة، أصابني رعب شديد، تردّدت في التّوجّه إليها لأتقصّى الأمر، وعقدت العزم أخيراً على خوض هذه التّجربة المخيفة، ها أنا أقف قيد خربشتين أو أكثر، اقتحمتها لأجد نفسي محاصراً بين بيادق رقعة الشّطرنج، والملك يقهقه ضاحكاً. بين الأبيض والأسود حرب لا هوادة فيها، وأنا بينهما أتلقّى الضّربات، والملك، وجنوده يمعنون في ضحكهم، ويصفّقون متلذّذين بمشاهد العنف تلك. أنا الآن وحدي بين فريقين متناحرين، لم تروِ ظمأهما كلّ الدّماء المُراقة.

طرْقات متكرّرة على باب الغرفة، وصوت أخي الضّرير جاءني هادئاً على غير العادة: أين أنت؟ صرخت مستغيثاً به، يا إلهي! ما العمل؟ إنّه لا يسمعني؛ فأنا في وسط معركة لا ناقة لي فيها ولا جمل.

غرق المكان بدمي، وأنا أجهد للوصول إلى مكان آمن بعيداً عن نزاعاتهم، لم أجد سوى المالح أمامي ملاذاً. في هذه اللحظة فقط، فطنت لماذا لم يسمعني أخي، كنت في الطّرف القصيّ من الكرة الأرضية وهو بسبب إعاقته لم يغادر  محيط تلك ّ النازفة لا برّاً ولا بحراً.

 

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*