إلى أيِّ حدٍّ يمكنُ القولُ بوجودِ مدرسةٍ نقديّةٍ في تونسَ؟ : محمّد صالح بن عمر

تفضّل الأستاذ والشّاعر والإعلاميّ  التّونسيّ عامر بوعزّة  بتوجيه هذه الأسئلة إليّ بتاريخ 31 أوت/أغسطس 2017.وقد وافيته بجواب مفصّل إلاّ أنّه لضيق المجال حذف منه عدّة فقرات .وها هو  جوابي كاملا :

 

الأسئلة :

مرحبا أستاذ، نحن بصدد إعداد تحقيق ثقافيّ عن النّقد الأدبيّ في تونس سينشر في مجلّة “ليدرز” العربيّ. فهل يمكنكم المشاركة برأيكم؟ إذا كان ذلك ممكنا فالمرجوّ التّفضّل بالإجابة عن هذه الأسئلة بشكل موجز: إلى أي” مدى يمكن القول بوجود مدرسة تونسيّة في النّقد الأدبيّ، في ظلّ إنجازات معرفيّة عدّة تحسب للجامعة التّونسيّة مجالها اللّسانيات والمناهج الحديثة والنّحو والأدب المقار؟ و ما هي أهم مميّزات هذه المدرسة؟ أو ما هي العوائق التي تقف أمامها؟ وكيف نقيّم في ظلّ هذا التّصوّر الدّور الذي قام به الأستاذ توفيق بكّار في تطوير النّقد الأدبيّ في تونس؟

 

جوابي :

 

تثير أسئلتك حزمة من الإشكاليّات والمفاهيم المتداخلة .وهو ما يجعل الجواب المقتضب الذي تطلبه منّي متعذّرا .ف”المدرسة” تعني اصطلاحا وجود مجموعة من الأنصار المتحلّقين حول صاحب نظرية يأخذون بها ويطبّقونها ويعملون على نشرها. وقد ظهر هذا في الفلسفة(كالوجودية والذرائعيّة والتّفكيكيّة ) وفي علوم اللّغة ( مثل مدرسة البصرة ومدرسة الكوفة قديما  ومدرسة فردينان دي سوسير البنيويّة ومدرسة تشومسكي التّوليديّة التّحويليّة حديثا ).وفي الأدب( كالمدرسة الرّومنسيّة والمدرسة الواقعيّة والمدرسة السّرياليّة وحركة الرّواية الجديدة بفرنسا ).

لكن لم يظهر مثل هذا في النّقد الأدبيّ  .فما كتبه الشّكلانيّون الرّوس في العشرينات ورولان بارط في السّتينات وكذلك باختين وتودوروف وجيرار جينيت وقريماس قام على تطبيق المنهج البنيّوي الذي وضعه سوسير وقوامه دراسة اللّغة في ذاتها ولذاتها.وأدّى تطبيقه على الأدب إلى إقصاء المعلومات المستدعاة من حياة المؤلّف والظّروف التي عاش فيها وهو ما سمّاه بارط ” موت المؤلّف” .أمّا ّ النّصّانيّة  التي طبّقتها جوليا كريستيفا ونظريّة جماليّة التلقّي التي استعملها يوس الألمانيّ فما هما إلاّ تطبيقان من زاوتين متقابلتين  للنّظرية التّداوليّة التي نظرت إلى النّصّ على أنّه خطاب وربطت سياقاته بالمقام ووجّهت عنايتها إلى كيفية استعمال المتكلّم للّغة وكيفية تلقّيها من لدن السّامع .وهنا أيضا نرى أنّ المنهج يضعه عالم لغويّ (عبد القاهر الجرجاني قديما وفيرث الإنجليزيّ حديثا أو فيلسوف ( أوستين وسيرل ) .وكذلك شأن النّظريّة النّفسانيّة التي ابتدعها فرويد  وعمّقها يونق وطبّقها على الأدب شارل مورون والنّظريّة الاجتماعيّة التي وضعها الفيلسوف المجريّ لوكاتش  وطبّقها روبار أسكاربيت ولوسيان قولدمان على السّرد  والتّفكيكيّة التي وضعها فيلسوف لا ناقد أدبيّ وهو جاك داريدا والتّأويليّة في صورتها المتطوّرة التي أسّسها الفيلسوف بول ريكور وطبّقها نقّاد.وهكذ ترى أنّه لم توجد قطّ مدارس نقديّة وإنّما يتعلّق الأمر بمناهج لم يضعها نقّاد بل فلاسفة ولغويّون وعلماء في مجالات شتّى .

والمصطلح الثّاني الذي يلفت الانتباه في أسئلتك هو ” النّقد” .وهنا أجيبك بأنّ ما يمارس في الجامعة ليس نقدا وإنّما هو نوعان : أحدهما البحث العلميّ الأكاديميّ في الأدب وخاصّيته أنّ الذي يمارسه يتوجّه به إلى المتخصّصين دون غيرهم ،لا سيّما لجان المناقشة ولجان الانتداب والتّرقية واللّجان المشرفة على  المجلاّت العلميّة .والنوع الآخر هو ما يلقيه المدرّس الجامعيّ على الطلبة  في المدرج من محاضرات و ما يقوم به في قاعة الدرس من تطبيقات .فهذا ينتمي إلى تعليميّة الأدب لا إلى النّقد.والتّعليميّة  هي فنّ توصيل المعلومات والمفاهيم إلى  المتّعلّمين  .

أمّا النّقد الأدبي فيمارس في السّاحة الثّقافيّة لا في الجامعة ولا يشترط في ممارسه أن يكون جامعيّا مثلما هو حال  عبّاس محمود العقّاد وغالي شكري وأدوار الخرّاط في مصر وعيسى النّاعوري في الأردن ومحمّد الحليوي وبوزيّان السّعديّ وأحمد حاذق العرف في تونس .وخاصّيته أنّ ممارسه يتوجّه بخطابه إلى جمهور الأدب الذي لا يتألّف بالضّرورة من متخصّصين ومتعلّمين .ولا يخفى أنّ نوعيّة المتلقّي تؤثّر تأثيرا عميقا في الخطاب .فأنا مثلا حين ألقي محاضرة في دار ثقافة عن الأدب لا أستعمل من المصطلحات إلاّ ما شاع وأعوّض  ذكر المصطلح بشرح المفهوم الذي يدلّ عليه باللّغة العامّة أي غير العالمة حتّى أتواصل مع الجمهور.

وفي ما يتعلّق بسؤالك عن أستاذنا الكبير توفيق بكّار فهو أكبر من أن يختزل  في ناقد. فأنا أشبهه بلطفي السّيّد في مصر وهو أب من آباء الأدب التّونسيّ لحضوره المكثّف طيلة حياته في السّاحة الثّقافيّة واختلاطه بالأدباء والفنّانين ،تماما مثل زين العابدين السّنوسي ومنجي الشّملي وأبي القاسم محمّد كرّو ومحمّد العروسي المطوي رحمهم الله فهؤلاء خدموا الأدب التّونسيّ كلّ على طريقته وفي المجال الذي يتحرّك فيه وكان تأثيرهم في مسيرة هذا الأدب عظيما.

وأمّا ما كتبه أستاذنا فهو نوعان  : أحدهما النّصوص التي حلّلها مع طلبته في حصص التّطبيق فهذا  ينتمي إلى تعليميّة الأدب وأستاذنا كان بلا منازع أهمّ أستاذ درّس الأدب بالجامعة التّونسيّة والآخر هو المقدّمات  التي كتبها للرّوايات الصّادرة عن دار الجنوب فهذا نقد أدبيّ والمنهج الذي كان أميل إليه فيه هو المنهج البنيويّ  لأنّه ينطلق في معظم الأحيان من الثّنائيّات الرّئيسة التي يتأسّس عليه النّصّ وقد سمّى منهجه هذا المنهج الجدليّ.

وهكذا ترى أنّ المناهج الحديثة في النّقد الأدبيّ كلّها غربيّة لكنّها تصلح لأن  تطبّق على أيّ أثر أدبيّ مهما كانت اللّغة التي كتب بها. وهو ما يجعلها مناهج كونيّة .لذا لا معنى لمنهج نقديّ تونسيّ أو عربيّ .فما يطالب به النّاقد مهما كانت جنسيّته ليس وضع منهج أو تأسيس مدرسة بل حسن التّطبيق.

 

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*