محمد صالح بن عمر : الحبّ والموت في مِخيال* مونيك ماري إهري الشّعريّ

monique 2pg

الشّاعرة الفرنسيّة مونيك ماري إهري

 

مونيك ماري إهري ( Monique-Marie Ihry ) شاعرة فرنسيّة معاصرة صدرت لها مؤخّرا بتونس مجموعة شعريّة عنوانها مواعيد ضائعة قد تكون هي الأولى التي تخصّصها شاعرة من بلادها أو حتّى من أوربّا بلْهَ من الغرب كلّه لرثاء الحبيب . ولمّا كان لنا شرف المتابعة على نحو شبه منتظم لتجربة هذه الشّاعرة و إبداء ملاحظاتنا في نصوصها نصّا نصّا فور فراغها من كتابتها ثمّ إعداد مجموعتها تلك للنشر فإننا سنحاول في هذه القراءة المتواضعة الاقتراب قدر الإمكان من عالمها الشّعري و الوقوف على أهمّ العناصر المفيدة في تجربتها غرضيّا وإنشائيّا .
تطغى على قصائد المجموعة بحكم الغرض الذي تدور حوله – وهو رثاء الحبيب – ثنائيّة الحبّ والموت اللّذين هما في الظّاهر متعارضان، إذ الحبّ – وأصله عند سيقمون فرويد الرغبة الجنسيّة – يدفع إلى التعلّق بالوجود الحيّ و تعزيزه بالإخصاب و الإنجاب ، على حين يدمّر الموت ذلك الوجود ويحوّله إلى عدم . لذلك تنجرّ عن اجتماعهما في الوعي الإنسانيّ حتما أزمة حادّة يكون لها في الغالب بعدان أساسَان أحدهما نفسيّ والآخر ميتافيزيقيّ .
هذه الأزمة هي التي نبعت منها تجربة مونيك ماري إهري الشّعريّة ، إذ منها جاءت إلى كتابة الشعر بعد أن كانت نائرة ليس غير . فكيف تشكّلت هذه التّجربة الشعريّة لديها إذن ؟ وما هي النّتائج الإبداعية التي تمخّضت عنها ؟ هذان هما السّؤالان اللذّان تهمّ الناّقد الأدبيّ الإجابة عنهما لأنّ الحالة الإنسانيّة التي تجسّدها مونيك هي من الحالات الشّائعة لدى أفراد الجنس البشريّ في كلّ عصر ومصر لكن دون أن تفضي ضرورة إلى تشكّل تجارب فنّيّة . ذلك أنّ ما يختصّ به المبدع دون الشّخص العاديّ ليس تحويل الواقعيّ إلى متخيَّل – فهذا متاح لجلّ الناّس بحكم كون المخيّلة ملكة بشريّة مشتركة بينهم – وإنّما بقدرته على إنشاء عالم متخيّل راقٍ يستجيب لشرطي الابتكار و التّماسك . وهذا العالم المتخيّل المتميّز هو الذي يسمّيه علماء النّفس ” مِخيالا ” *. وهو – إن شئنا – نظام محكم من التصوّرات يكون على هيئة حُلم قارّ ينشئه الفنّان و يلوذ إليه وإن في لحظات متفرّقة خاطفة للتّخفيف من حدّة الضّغوط التي يسلّطها عليه الواقع فينغمس فيه و منه يستوحي لبّ أعماله الإبداعيّة .
فكيف يلوح لنا مخيال مونيك ماري إهري ( Monique-Marie Ihry ) في هذه المجموعة الرثائيّة ؟ ما هي مقوّماته ؟ وما مدى تميّزه ؟
يتألّف عالم مونيك ماري إهري ( Monique-Marie Ihry ) الشعريّ ، كما يتبدّى لقارئ هذه المجموعة ، من منطقتين متراكبتين متقابلتين : السّفلى منهما على هيئة بؤرة أرضيّة بشعة أشبه ما يكون بالجحيم والعليا سماويّة غاية في الرّوعة والجلال والإشراق . في الأولى تقبع الذّات الشّاعرة . وفي الأخرى تستقرّ روح الحبيب الفقيد .
لكن قبل أن نحاول الكشف عن مكوّنات هذا المخيال لنتوقّف قليلا عند الأرضيّة المرجعيّة التي انبثق منها . وهي قصّة حبّ صاعق من النّظرة الأولى عاشتها الشّاعرة في الأيام الأخيرة من حياة رجل لقيته مصادفة فبادلها الشّعور نفسه لكنّ القدر لم يمهله إذ سرعان ما حكم بنقلته إلى جوار ربّه .
I– الأرضيّة الواقعيّة لتجربة الشّاعرة : قصّة حبّ صاعق تُختتم بفاجعة :
لقد وردت في المجموعة ثلاث روايات مختلفة عن منطلق قصّة الحبّ الصّاعق التي عاشتها الشّاعرة . فهل بعضها واقعيّ وبعضها الآخر خياليّ ؟ أم هل بينها رابط خفيّ لم نتبيّنه ؟
في إمكاننا أن نسأل الشّاعرة عن حقيقة هذا الأمر لكننا نحجم عن ذلك لقيد منهجيّ نلتزم به في كلّ قراءاتنا النقديّة . وهو التعويل على النّصوص التي ندرس وحدها.
وفي ما يلي تلك الروايات الثلاث :
1 – الرواية الأولى :
لقد صدّرت الشّاعرة مجموعتها بمقدّمة نثريّة بيّنت فيها الملابسات التي حفّت بمعرفتها الأولى لمعشوقها وانطلاق علاقة الحبّ التي ربطت بينهما فيما بعد . ومحصّلها أنّ شخصا مجهولا اتّصل بها ذات مرّة هاتفيّا – وهي بمكتب عملها – مسمّيا إيّاها باسمها فسحرها صوته لكنّه سرعان ما قطع المكالمة . وبعد سنة كاملة يوما بيوم من تلك الحادثة دقّ جرس بيتها . فهبّت لفتح بالباب . فإذا ” رجل طويل القامة ، باسم الثّغر ، يشعّ وسامة وبشاشة وتصميما ، يحمل بين يديه طاقة من الورود ذات رائحة مسكرة “ ( المصدر نفسه ص 12 ) . ودون أدنى مقدّمات ارتمى كلّ منهما بين ذراعي الآخر وكأنّ بينهما علاقة متينة سابقة. وتنهي مونيك ماري مقدّمتها قائلة : ” كان بإزائي رجل انبعث فجأة من سرٍّ افتراضيٍّ خالص سأقضي معه الأشهر القليلة التي بقيت من حياته ” . ( المصدر نفسه ص 13 )
2 – الرواية الثانية :
في قصيدة بعنوان ” لقاء ” تذكر الشّاعرة أنّها أبصرت معشوقها لأوّل مرة في محطّة قطار :
كنتَ وسيما سيّدي
وأنتَ تطأُ عتبة محطّة القطار
كنت وسيما سيّدي
حين رأيتُكَ ذات يوم تطأ عتبة قلبي
( المصدر نفسه ص 17 )
وهنا ، كما نرى ، تناصّ خفيف مع قول بول فرلان ( Paul Verlaine ) :
يعلو العويل في قلبي
كما يتهاطل المطر على المدينة
Il pleure dans mon cœur
Comme il pleut sur la ville
3 – الرواية الثالثة :
في قصيدة عنوانها ” شونزيليزي ” ) ( Champs Elysées – وهو هنا اسم مقهى لا اسم الحيّ الباريسيّ الشّهير – تروي الشّاعرة أنّها لقيت معشوقها بهذا المقهى فخفق قلبه لها ما إن رآها :
لقد رأيتكَ أخيرا ذات مساء بالشونزيليزي
من تلك المساءات التي تلتمع فيه آمال القلوب العاشقة المعشوقة
وفيها تنتابنا الرغبة في رؤية ما لم يسمع به من أروع الشعر يتحقّق
كنتَ منغمسا في أفكارك ساهما
فأجلس أنا في شرفة ذلك المقهى
وأطلب شايا بذلك الصّوت الموقّع
الذي جعلك تنتفضُ وتنظرُ إليّ
( المصدر نفسه ص 103 )
أمّا بقيّة أطوار الحكاية فواحدة . وهي أنّها عاشت وإياه قصّة حبّ عنيفة انتهت بموته بعد بضعة أشهر نتيجة مرض عضال ألمّ به .ولعلّه كان مصابا به قبل أن تنطلق أحداث هذه القصّة .
هذه القصّة المرجعيّة منغرسة على نحو عميق في الذّاكرة على هيئة حكاية عشق حقيقيّة مأسويّة شائقة الأطوار . ولماّ كانت قصائد المجموعة قد انبثقت منها بعد حدوثها فقد تحوّلت إلى جزء من مخيال الشّاعرة . وهذا الجزء يلوح على هيئة ذكريات خاطفة منها ما هو مشرق ومنها ما هو قاتم أشبه ما يكون ببصمات خفيفة متناثرة أو بعبارة أدقّ هي سلسلة من الومضات الورائيّة السّريعة الشبيهة بالارتجاج المتقطّع الذي يعقب رجّة الزلزال الأولى العنيفة المباغتة . أمّا بقيّة المخيال فهى تتألّف من حزمة أحلام متنوّعة الأشكال ، مختلفة الألوان ، تنشئها الشّاعرة بمخيلّتها ثمّ تنغمس فيها بكلّ جوارحها وسط إطار مكانيّ وزمانيّ شبه أسطوريّ وقد يتحقّق أو لا يتحقّق لها بوساطته توازنها النّفسيّ المفقود .
ومعنى هذا أنّ الفعل الشّعريّ في هذه المجموعة يتحقّق بعمليّتين متقابلتين : إحداهما ارتداديّة تتجسّد في ضربين من استحضار الماضي : استعادة اللّحظات السّعيدة التي عاشتها الشّاعرة مع حبيبها وتذكّر هول الفاجعة التي حلّت به وهزّت كيانها . والعمليّة الأخرى إنشائيّة قوامها بناء عالم متخيّل يتيح لها إمكان اللّقاء بالحبيب الفقيد .
أماّ الاستحضار فيرتبط بالبؤرة الأرضيّة أي بالقسم السّفليّ من المتخيّل . وأمّا الحلم فيتّصل إمّا بهذا القسم السّفليّ وإماّ بالقسم العلويّ الذي استقرّت فيه روح الحبيب .
ولنحاول الآن الوقوف على الآليات التي يشتغل وفقها هذا المخيال بقسميه .
II- آليات اشتغال المخيال الشّعريّ لمونيك ماري في إنتاج المعنى :
لمخيال الشّاعرة ، كما ذكرنا ، بنية هرميّة تتألّف من قسمين أحدهما سفليّ اتّخذته مستقّرا لها والآخر علويّ تقيم فيه روح الحبيب . و قد دأبت على بناء هذا العالم الدّاخليّ لبنة لبنة على امتداد صفحات المجموعة منذ رحيل معشوقها عن الحياة الدنيا ، مدفوعة بعشقها له طبعا لكن أيضا بعقيدتها الدّينيّة المسيحيّة التي تنصّ ككلّ الدّيانات السّماويّة على أنّ روح الميّت ترتقي إلى السّماء حيث تستقرّ إلى حين يحلّ يوم البعث والحساب .
فكيف يلوح القسمان السّفليّ والعلويّ من هذا المخيال ؟
1 – القسم السّفليّ من المخيال الشّاعرة وأحوال الذّات الشّاعرة فيه :
يتألف القسم السّفليّ من مخيال الشّاعرة هو نفسه من منطقتين لكن متحاذيتين أفقيّا لا متراكبتين : الأولى مستقرّة في الماضي على هيئة ذكرى تختلط فيها اللحظات السعيدة القليلة التي عاشتها في حياة الحبيب بفترة الانكسار النّفسيّ التامّ التي لحقت موته و المنطقة الأخرى قائمة في الحاضر وهي بمنزلة جحيم أرضيّ .
وهذه البنية المزدوجة للقسم السفليّ تجعل أربع حالات مختلفة تتناوب على الذّات الشّاعرة: الأولى هي الشّعور بالوحدة الخانقة والاكتواء بنار الحرمان من جرّاء فقدان الحبيب . و الثاّنية هي استحضار الماضي السّعيد القصير هروبا من لظى جحيم الحاضر والثالثة هي هجوم صورة الفاجعة على ذهنها رغم أنفها فتزيد نار حالتها النّفسيّة ضراما والرابعة هي اللّواذ على نحو متكرّر بالحُلم بحثا لها فيه عن متنفّس كفيل بالتّخفيف من حدّة الآلام التي تعانيها لكن داخل هذا القسم السّفلي لا خارجه .
1-1 : الحالة الأولى : الحرمان من الحبيب :
لقد خصّصت الشّاعرة لتصوير هذه الحالة عدّة قصائد منها قصيدة ” سعادات ضائعة ” ( المصدر نفسه ص 41 ) . ومنها قولها :
لكنّ هذا الخريف ليس سوى دعيٍّ بارز
ألوانُ روحي تشبه العدَم
هذا المطرُ المتهاطلُ بالنّجوم لا يؤدّي إلى السعادة
ما أقسى الغياب ! ما أشدّ أحلامي واقعيّة !
كأنّ الخريف ألقى عصاه نهائياّ في متاهات هذه الذّكريات المشطّة
ومنها قصيدة ” صمتٌ وصمتٌ وصمتٌ ” ( المصدر نفسه ص 43 ) التي تقول فيها :
انطفأت الشمسُ في السّماء هذا الصّباح
اصطبغ أفقُ قلبي بلون الحزن
ذوتْ أكمامُ الورود قبل أن تتفتّحَ
أشباحُ اللّيلِ استقرّت في الأسحار
ومنها قصيدة ” حُلم حياة ” ( المصدر نفسه ص 45 ). وممّا جاء فيها قول الشّاعرة :
كأنّ الأرض توقّفتْ عن الطّيران
الكائناتُ تنام
والعصافير في أثناء تحليقها
قد هجرت عالَمنا في لحظة حُلم
اللّيلُ خيّم والحياة رحلتْ
القلقُ يستولي على المسارب المتعرّجة في روحي السّمراء المعزولة
1- 2: الحالة الثّانية : استحضار الماضي السّعيد في رفقة الحبيب :
على الرغم من أنّ الفترة التي أدركت فيها الشّاعرة قمّة السّعادة لم تستغرق سوى بضعة أشهر فقد تردّدت الإحالات عليها بكثافة في كثير من قصائد المجموعة . وذلك لأنّها عندها أفضل ما في حياتها كلّها .وأكثر ما تلوح فيه هذه الحالة هو أقصى درجات الانتشاء كما في قولها :
طائرٌ شاعرٌ يغرّد جذلان
على مرأى من هذه الحركيّة الفاعلة
فأشربُ من مَعين عينيكَ الذّهبيّتين
وأتيه في لطفها الأشقر المُوقّر
( المصدر نفسه ص 29 )
1- 3: الحالة الثاّلثة : تذّكر موت الحبيب :
هذه الحالة شديدة التردّد أيضا . لكنّها نادرا ما ترد منفردة وإنّما تسبقها أو تعقبها في الغالب حالة من حالات الانتشاء التي ألمحنا إليها آنفا . وهذا متأتّ من الارتجاج العنيف لكيانها النفسيّ بعد الصّدمة التي تلقّتها بموت الحبيب . وهو ما نُلمسه مثلا في قولها :
كنتَ هناك تتّقدَ حيويّةً
حبيباً يرفل في حُلَل السّعادة
فجأة وقعتّ رهينةٌ
وأنتَ في عمر الزّهور
لم تقدر على مقاومة كلّ ذلك العدوان
ففعل فيك الدّاءُ على وجه الخطإ ما شاء
1 – 4 :الحالة الرّابعة : التّعويض بالحلم :
إنّ المتنفّس الذي تهرع إليه الذّات الشّاعرة هنا هو الحلم بلقاء الحبيب الفقيد لكن على سطح الأرض لا في السّماء .ومن أمثلة ذلك نصّها النّثريّ الشعريّ ” لقاء خريفيّ عذب ” ( المصدر نفسه ص87 ) الذي تروي فيه لقاء حصل بينها وبينه في غابة قريبة من بيتها . وفيه تقول : ” لقد ظهرتَ فجأة بإزائي على نحو شبه سحريّ ، منتصبا في لباسك الضّوئيّ تتأمّلني . كنتُ شَعْثاء و مُتبذِّلة في لباسي تمشّيا مع الظّرف . لكنّك كنت تجدني رغم كلّ شيء جميلة ، تماما كما كنت تراني في أحلامك . فمددتَ لي ذراعيك فاندفعتُ إليهما ملتحمة أخيرا بكَ “ .
2- القسم العُلويّ وصيغ اتّصال الشّاعرة به :
2- 1: نفاسة معدن القسم العلويّ ونبل صفاته :
لمّا كان القسم الأعلى أي السماء يحتضن روح الحبيب الفقيد فإنّ حضوره شبه قارّ في مطالع معظم القصائد مثلما توضّحه هذه الأمثلة :
السّماء تبدو من ذهب
( المصدر نفسه ص 19 )
صوتُكَ قطعةُ حبّ موسيقيّة في سماء تاجيّة
( قصيدة ” لحنُ مساء ” المصدر نفسه ص 19 )
حزن قمر ، نبل أثيري
( قصيدة ” لؤلؤات قمر ” المصدر نفسه ص 35 )
أمطار من النجوم تتهاطل على سقف السّماء الضّبابيّ
( قصيدة ” سعادات ضائعة ” المصدر نفسه ص 41 )
يسمح الزّمن لنفسه بالتوقّف عن الطّيران
يقف قمرُنا وقفة قصيرة في السّماء
( قصيدة ” حلم حياة ” المصدر نفسه ص 45 )
المطر يُسيل دموعَه على النّافذة
( قصيدة ” دموع الشّتاء ” المصدر نفسه ص 47)
القمر يُنزل من عينيه دموعَ الحنين
( قصيدة ” قمرٌ باكٍ ” المصدر نفسه ص 54 )
قررّتْ الشمس أخير أن تٌشعّ
( قصيدة ” فيفري ” المصدر نفسه ص 70 )
السّماء المغشاّة بالنّجوم تتّجه صوب الشّرق
( قصيدة ” فارس النّور ” المصدر نفسه ص 74 )
للّيل ألوانُ عينيك
هالةٌ من الضّباب تغزو السّماء
( قصيدة ” غروب ” المصدر نفسه ص 91 )
أميري الأشقرُ رحلَ ليلتحق بالنّجوم
( قصيدة ” الأمير الشّاعر ” المصدر نفسه ص 101 )
وهذا الحضور المكثّف للقسم العلويّ الذي هو من فعل الانشداد الى روح الحبيب يقترن لدى الشاعرة ، فضلا عن الرّفعة ، بالنّفاسة والنّبل ( النّبل الأثيريّ ) ورِقَّةُ إحساس الكائنات والعوامل الطبيعيّة الكائنة فيه ( القمر والمطر يبكيان ) والعطف . وفي هذا المعنى تقول :
لؤلؤات السّماء التي سقطت على نافذتي
تطبع معا على خدود الورود قبلاتِ القمر الرّقيقة
التي يهديها الضّباب إلى قلبي
( قصيدة ” لؤلؤات القمر ” المصدر نفسه ص 36 )
كلّ هذه المحاسن التي يتّصف بها القسم العلويّ يجعل الشّاعرة تحلم بالارتقاء إليه .
تقول مخاطبة روح حبيبها الفقيد :
أيّ ثمن أنا مستعدّة لدفعه حتى أتمتّع بتلك اللّحظة الآسرة
لحظة الالتحام بك في ذلك العالم السّحريّ ؟
( قصيدة ” أي ثمن أدفع ” المصدر نفسه ص 49)
طبعا يصعب أن نحدّد هنا السّبب الحقيقيّ الكائن وراء هذه الرّؤية التقديسيّة للسّماء . أهو سبب عقديّ عام بحكم كون السّماء عند المؤمن في الدّيانات السّماوية الثلاث تحوي ملكوت الخالق – ومن ثمّة فهي لا تتّصف إلا بأرقى الصّفات وأنبلها – أم هو سبب نفسيّ خاصّ . وهو أنّ صورة الحبيب المثاليّة في ذهنها هي التي انعكست على مكان وجود روحه بفعل المجاورة ؟ أم تضافر السّببان معا في تشكيل تلك الرّؤية ؟
2-2 : الذاّت الشّاعرة و القسم العلويّ بين الاتّصال والانفصال :
ومهما يكن الأمر فإنّ انشغال الذّات الشّاعرة بروح حبيبها الفقيد في السّماء يلوح على ضربين مختلفين : الأوّل هو محاولة الاتّصال به على نحو ملحّ في عالمه الفوقيّ والآخر هو تركه وشأنه حرصا على عدم إزعاجه بعد رحيله عن الدّنيا الفانية .
2-2- 1: صيغ الاتّصال بروح الحبيب في السّماء :
• الصيغة الأولى : الاتّصال في مستوى الرّغبة والأمنية :
هذا الضّرب من الاتّصال تحاول الذّات الشّاعرة القيام به من دون أن تكون لروح الحبيب علاقة مباشرة به . وذلك كما يظهر في قولها :
أيّ ثمن أنا مستعدّة لدفعه لأنال منك قبلة
لأستمرئ هذه المتعة التي لا تصدّق
متعة أن أكون بين ذراعيك
ملتحمة بك كما في سالف عهدنا
لكنْ بعيدا عن هذا العالم المحسوس
متعة أن أكون قريبة جدّا منك
قريبة من اللامتناهي العظمة
ومنك أنت اللاّمتناهي
يجمعنا إيمان واحد
( مواعيد ضائعة ص 49 )
وتقول في موضع آخر :
لو كان في استطاعتي أن أحقّق رغبة في يوم مّا
لتحوّلت ذات مساء إلى فراشة
ولطرت فوق سقف السّماء المَخْمليّ إلى أن أصل إلى فراشك
تهدهدني آمال رقيقة
( المصدر نفسه ص 25 )
• الصيغة الثانية : الاتّصال الذّهني والرّوحي :
هذا النّوع الآخر من الاتّصال شبيه بذاك الذي يسعى إلى تحقيقه المتصوّفة للحلول في الذّات الإلهيّة . وهو تواصل ذهنيّ وروحيّ . و من أمثلته قصيدة ” تخاطب ” التي جاءت على هيئة حوار بين الشّاعرة وروح حبيبها . وممّا ورد فيها قولها :
إني أنتظرك منذ زمن بعيد فهل تعود ؟
فمن فرط الرّجاء أصابني الملل وفقدت القدرة على التحمّل
فيجيبها :
يا عزيزتي دعيني قليلا من الوقت
فقط الوقت الكافي الذي يمنح للوقت
( المصدر نفسه ص ص 38 – 40 )
وقصيدة ” حوار لطيف ” التي منها قولها :
صديقي يا حبيبي الوسيم
في هذا المساء سأبعث إليك بفكري
مجموعة من المداعبات الجنونيّة
سأبعث إليك أيضا بملايين القبلات اللطيفة الملتهبة
( المصدر نفسه ص 32 )
لكن أياّ كان نوع اتّصال الشّاعرة بحبيبها الفقيد فإنّه بحكم طابعه الوهميّ لا يستغرق إلا لحظات خاطفة تعود على إثرها إلى جحيم الواقع حيث تعاني الفراغ والحرمان .
تقول في هذا الشأن :
حين يتفتحَ الفجر في الصّباح
على شاطئ الأحلام
عندئذ تنسحب لوحة أحلامي
تاركة قطرات ندى من الرّماد المقنّع
( المصدر نفسه ص 32 )
2-2-2 : الإحجام عن الاتّصال بروح الحبيب :
أمّا ترك روح الحبيب وشأنها – وهو كما نرى موقف مناقض للأوّل – فإنّ تسلسل القصائد في المجموعة لا يبيّن إن كان لاحقا له زمنيّا وإن كانت الشّاعرة قد اقتنعت في النّهاية باتّخاذه لترك روح الحبيب تنعم بالرّاحة في مستقرّها السّماويّ بعيدا عن كلّ إزعاج . لذا من الممكن جدّا أن يكون وليد حالات بعينها تعقبها محاولات جديدة في الاتّصال به و التواصل معه . ومهما تكن حقيقة هذا الموقف فإنّ لعقيدتها الدينيّة دورا واضحا في حملها على اتّخاذه .أمّا إذا صحّ أنّه ليس موقفا نهائياّ فإنّ ذلك يفسّر بحالة الاضطراب النّفسي الشديد المستمرّ التي هي عليها .
ومن الأمثلة المصوّرة لهذا الموقف قول الشّاعرة :
كان خطابك الشّجاع الذي أيقظ السّموات مقتضبا لكن لامعا
كنت تقول لي إنّك ترغب في الرّكون إلى الرّاحة
في ملكوت ربّنا ذي الجلال السّماوي والخير اللاّمتناهيّ
فعلى روحك إذن أن تكفّ عن التّيْه
بلا كلل بين الأحلام والواقع
كان لا بدّ لي من الآن فصاعدا التخلّي عن فكرة
شدّك إليّ بالرّغم من كلّ المحن
( المصدر نفسه ص ص 75 – 76 )
وقولها :
اذهب في حال سبيلك يا حبيبي
اذهب في سلام
ستبقى صورتك إلى الأبد منتقشة في قلبي
أعلمُ أنّنا في يوم من الأياّم
سنقترب من سعادتنا مرّة أخرى وستحتفل ملائكة السّماء
بلقائنا الجديد
(المصدر نفسه ص 79 )
2- 3 : صور تمثّل الحبيب الفقيد للذاّت الشّاعرة :
يتمثّل الحبيب الفقيد – وهو في مستقرّه السّماويّ – للذّات الشّاعرة في صور شديدة التنوّع يمكن توزيعها على صنفين كبيرين هما : صور تظهره في مظهر الفاعل وأخرى في مظهر المفعول .
2-3- 1 : صور الحبيب فاعلا :
من أمثلة هذا الصّنف من الصّور صورة فارس الصّحراء المشرقيّ كما في قولها :
ظهرتَ لي في أحد أحلامي
كأنّك فارسُ صحراء قاهر
مَهِيب مِغوار أشمّ
يمتطي صهوة دابّة متعجّلة طيّعة
( المصدر نفسه ص 74 )
و منها صورة الأمير الشّاعر . وقي ذلك تقول :
في الغروب الفضائيّ المُضاء هكذا
يظهر أميري الشّاعر قاهرا
بين يديه ينحلّ رِقٌّ من نعيم
ينحني تحت قدمي كنبتة متعرّشة مزهرة
تعاريشُ شِعْرِ روحه
تسحر السموات بلحن عذب
فتشعل في غمرة تلك الأنغام المجاوزة لكلّ حدّ
النّجوم نجما نجما
( المصدر نفسه ص 101 )
2-3- 2 : صور الحبيب مفعولا :
يغلب على هذا الصّنف من الصّور الطّابع الجنائزيّ . فيظهر الحبيب الفقيد فيها مستسلما لمصيره القَدَريّ المحتوم . وقد تردّدت في هذا الصّدد صورته وهو مُمدّد وسط قارب يسير به في اتّجاه مرسوم كما في قولها :
على ضفاف أفكاري الحزينة في الأسحار
أرى قاربا يكاد يكون هادئا يمرّ
وكنت قد أبصرته منذ بضعة أسابيع
………………………………….
كان يمخر عباب الماء لا يلوي على شيء
وعلى متنه راكب واحد
لا يمكن أن يكون عندئذ
إلاّ أنت
( المصدر نفسه ص 81-82 )
وقولها في موضع آخر :
قاربكَ الكفنُ
يواصل سيره البطيء في طريق مفتوح
يسير على نحو جنوني يائس
نحو الجنّة البعيدة جنّة الغائبين
( المصدر نفسه ص 59 )
ومثلما نرى لا علاقة البتّة بين الفارس القويّ الصُلب أو الشّاعر المترنّم بأنغام الحياة ، المتغنّي بجمال الوجود والإنسان الضعيف المسلوب الإرادة الذي يتلقّى الطعنات من القدر دون أن يقدر على ردّ الفعل . فما هي صورة الحبيب الفقيد الحقيقيّة في ذهن الذّات الشّاعرة ؟ أم هل تختلف هذه الصّورة باختلاف حالاتها النّفسيّة المتقلّبة وتأرجحها الدّائم بين الأمل واليأس و بين القوّة والضّعف ؟
ومع ذلك ليس هذان الضّربان من الصّور في جوهرهما متضاربين لأنّهما ينتميان في حقيقة الأمر إلى مستويين مختلفين : الأوّل جنسيّ والآخر ما ورائيّ . فالجنسيّ من وجهة نظر الأنثى أيّ أنثى يتجسّد في أرقى صورة ذكوريّة ووسامة رجاليّة يكون عليها المحبوب على حين كون الماورائيّ يهمّ الإنسان عامّة ذكرا أو أنثى وتحدّده الرّؤية الدّينيّة المسيحيّة أو إن شئنا السّماويّة . وهو ماثل في ضعف الكائن البشريّ أمام القدر و طبيعة الحياة الدّنيا الزّائلة وحتميّة الموت ووجود إله رحيم في السماء يختار البشر إلى جواره مهما طال بهم الأمد .
III – الخصائص الإنشائيّة لقصائد المجموعة :
يطغى على شعر مونيك ماري من جهة الأسلوب النّفس الرومنطيقيّ . وذلك يلوح في كثرة استدعائها لعناصر الطّبيعة مع إشراكها إيّاها في حالتها النّفسيّة . وهذا التّناغم بين ذات الشّاعرة والطّبيعة مع إضفاء صبغة دينيّة مسيحيّة على رؤيتها للكون والوجود مثلما ألمحنا إلى ذلك في ما سبق من هذه القراءة يلحقانها دون شكّ بالتيّار الرومنطيقيّ الفرنسيّ الذي أسّسته جرمان دي ستايل ( Germaine De Staël ) و روني دي شاتوبريان ( René de Chateaubriand ) في بداية القرن التاسع عشر ثم كان من أبرز أعلامه اللاحقين لا مرتين ( Lamartine ) وفكتور هيقو ( Victor Hugo ) وألفراد دي موسي ( Alfred De Musset ) وألفراد دي فينيي ( Alfred De Vigny ) .
ولنتوقّف في هذا الباب عند بعض الأمثلة حتّى لا يكون كلامنا مغرقا في العموم :
1- المثال الأوّل :
صوتكَ قصيدةُ حبّ غنائيّة في سماء تاجيّة
شراراتٌ مطرّزة ، ألفُ لؤلؤة ولؤلؤة
تاجُ نغمات في سَفْطةٍ ، تتقاطر
على مشارف روحي ذات القلب الذّائب في الغروب
( المصدر نفسه ص 15 )
يلفتنا في هذا المقطع لفظا السّماء والغروب من جهة ولفظا الرّوح والقلب من جهة ثانية وتأثير العنصرين الطّبيعيّين المذكورين في كيان الشّاعرة . وهذا من آثار نزعتها الرومنطيقيّة طبعا . لكن نلاحظ أيضا صفة النّفاسة التي أسندتها إلى السّماء باعتبارها وعاء مكانيّا عُلويّا يحوي روح الحبيب مقابل وجودها هي في الأرض . وهذا من فعل عقيدتها الدّينيّة ولا شكّ .
لكنّنا إذا غضضنا النّظر عن هاتين النّزعتين العامّتين العاديّتين وتأمّلنا بنية الصّورة في حدّ ذاتها بانت لنا فيها خصيصتان : الأولى هي أنّها صورة متحرّكة بين حدّين أوّلهما مُؤثّر وهو الصّوت والآخر متأثّر وهو روح الشّاعرة والخصيصةُ الأخرى هي أنّها مركّبة . وذلك من جهتين أوّلا لانطوائها على تشبيه استُدعِيت للمشبّه فيه – وهو الصوت – ثلاثة عناصر مشبّه بها هي الشّرارات واللّؤلؤات وتاج النّغمات . وهذا طبعا من نتاج ملكات الشّاعرة الإبداعيّة ، ثانيا لكون العناصر المشبّه بها تتّصل بحاسّتين مختلفتين : السّمع ( قصيدة ، نغمات ) والبصر ( شرارات ـ لؤلؤ ، تاج ، سفطة ) .
وهناك خصيصة ثالثة لها صلة بالإيقاع الداّخلي لا بالصورة . وهي أن العناصر الأربعة المشبّه بها توالت دون رابط لفظيّ . وهو ما يحدث في حدّ ذاته نغما ذهنيّا . وهذا طبعا من نتاج ملكات الشّاعرة الإبداعيّة .
2- المثال الثّاني :
شعاعٌ من النّور ، مُداعَبةٌ من مداعبات الصّباح
واحة في قلب صحراء بلا نهاية
كِناّرةٌ عذبةُ النّغمات على لحن القدر
ابتسامتكم أمالت قلبي . فخرّ صريعا !
( المصدر نفسه ص 17 )
شعاع النّور – الصّباح – الواحة – الصّحراء : هي وحدات من معجم الطّبيعة . وللقدر حضور هنا أيضا بصريح اللّفظ ، كما أنّ للصّورة بنية الصّورة السّابقة نفسها ، إذ تقوم مثلها على ثنائيّة المُؤثّر ( ابتسامة الحبيب ) والمتأثّر ( قلب الشّاعرة ) وبينهما تجري حركة في اتّجاه واحد يكون منتهاها شديد الوقع .
وبالإضافة إلى ذلك جاءت الصّورة هنا أيضا مركّبة بحكم اشتمالها على تشبيه تعدّدت العناصر المشبّه بها فيه ( شعاع النّور – مداعبة الصّباح – الواحة – الكِنّارة – ) ولا فرق بين التّشبيهين سوى إيراد المشبّه قبل العناصر المشبّه بها في المثال السّابق وتأخيره عنها في هذا المثال .
وهذه المطابقة بين صورتين وردتا في قصيدتين متباعدتين قد تدلّ على أنّ للشاعرة أسلوبا خاصّا في تشكيل الصّورة الشّعرية .
وكذلك شأن الإيقاع الدّاخليّ هنا . فهو متأتّ من تتابع العناصر المشبّه بها دون رابط لفظيّ :
شعاع من النّور ، مداعبة من مداعبات الصّباح / واحة في قلب صحراء بلا نهاية / كِناّرة عذبة النّغمات على لحن القدر
3- المثال الثّالث :
ألفُ لؤلؤة ولؤلؤة تشعّ من قلبي الورديّ
تزخرفُ اللّيلَ بماسٍ عذب الألحان
تيجانُ أفكاري الملتهبة المرصّعة بالعنبر
تلحّ في الانتساب إليك يا حبيبي الوسيم اللّطيف
( المصدر نفسه ص 35 )
لقد عوّدتنا الشّاعرة على أن تكون صورها مبنيّة من الأعلى إلى الأسفل . لكنّها في هذا المثال تصوغ صورة على نحو عكسيّ. فالمنطلق هو قلبها . والمنتهى هو الحبيب . وإن كان ذلك في مستوى المأمول لا الواقع . لكنّ طبيعة هذه الصّورة من حيث التحرّك ( بصريّا بالإشعاع وشمّيا برائحة العنبر ) والتّركيب ( وهو ماثل في تألّفها من طبقتين : العاطفة والفكر المجرّدين من ناحية والضّوء والرّائحة المحسوستين من ناحية أخرى ) تجعلها متناغمة و أسلوب الشّاعرة الذي عرفناه في تشكيل الصّورة .
4- المثال الرابع :
انطفأت الشمس في السماء هذا الصباح
اصطبغ أفق قلبي بلون الحزن
ذوت أكمام الورود قبل أن تتفتح
أشباح الليل استقرت في الأسحار
( المصدر نفسه ص 43 )
عملياّ يشتمل هذا المقطع على أربع صور بسيطة متتالية ، إلاّ أنّها ليست في الحقيقة من منظور فنّ الرّسم التّجريديّ سوى لطخات متّحدة الدّلالة و إن اختلفت ألوانها وأشكالها . وهو ما يجعلها تؤلّف مناخا عامّا واحدا سمته القتامة والموت والحزن . في هذا المناخ أيضا يلوح توجّه الشّاعرة الرومنطيقيّ الماثل في استدعائها لعناصر الطّبيعة وتناغم كيانها الذّاتيّ وإياّها كما تلوح حركيّة الصّورة الماثلة هنا في انتقال مباغت من حالة إلى أخرى مناقضة لها وتركيبها الذي يتجسّد في تألّفها من صور بسيطة متجاورة من جهة و من مستويين من جهة أخرى : ذات الشّاعرة المجرّدة والمحيط الخارجيّ المحسوس .
خاتمة :
لقد جاءت مونيك ماري إهري إلى الشّعر فيما يبدو من تجربة عشق عميقة صادقة على الرغم من حدوثها المفاجئ وقصرها الشديد إذ لم تتعدّ الأشهر القليلة . فإذا هي تخوض تجربة شعريّة لعلّها ، إلى أن يظهر ما ينافي هذا ، فريدة في الشّعر الفرنسيّ بل الغربيّ المعاصر عامّة . ذلك أنّه لم يبلغنا أنّ شاعرة في الضفّة الشماليّة للمتوسّط أو حتّى في القارّة الأمريكيّة – ولنا شعراء وكتّاب أصدقاء بتلك المضارب – تفرّغت لرثاء حبيبها بعد موته أو احتلّ رثاؤها له مثل هذا الحيّز .ولعلّها الثانية بعد الشّاعرة العربيّة الخنساء التي تفرغّت في الجاهليّة وصدر الإسلام للرثاء و إن كانت شاعرتنا القديمة رثت أخاها لا حبيبها .
ومن جهة أخرى فإنّ مونيك ماري إهري بربطها الوثيق في هذه المجموعة بين تجربتها الشّعرية وتجربتها في مضمار الحياة إنّما تعيد الأدب ، على حدّ ما طالب به تودوروف (Todorov ) ، في كتابه الموسوم بالأدب في خطر إلى قلب الإنسانية بعد أن كاد يتحوّل إلى صناعة وتقنية جافّتين بل هي ترجع الشّعر إلى جوهره . وهو أنّه حسب قول فاليري ( Paul Valéry ) : ” تعبير فنّيّ عن تجربة إنسانيّة ” .
لكنّ السّؤال الذي يبقى ملحّا على القارئ بعد فراغه من قراءة هذه المجموعة هو التّالي : ماذا ستكون المرحلة الموالية من تجربة هذه الشّاعرة بعد أن أذعنت للأمر الواقع وقرّرت ترك روح حبيبها مطمئنّة في جوار ربّها ؟ فهل هي نهاية تجربة الرّثاء لديها ؟
المصدر :
Monique-Mrie Ihry , Rendez-vous manqués , Ichraq Editions , Tunis 2011

المراجع : 
– DURAND (Gilbert) , Les Structures anthropologiques de l’imaginaire : introduction à l’archétypologie générale, PUF, 1963
– Wunenburger (Jean-Jacques ) , L’imaginaire , collection. Que sais-je ? (P.U.F.), Paris 2003
– LEGROS ( Sp ) , MONNEYRON ( F), . RENARD ( J.-B ) TACUSSEL ( P ) , Sociologie de l’imaginaire , Colin, Paris 2007
– Todorov ( Tzvetan ) La littérature en péril , Flammarion) , Paris 2007
*المخيال (L’imaginaire )

 

monique 1

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*