ما تخفيهِ الحكايةُ : قصّة : أميمة إبراهيم – دمشق – سورية

أميمة إبراهيم

 

قالَ لها: ” أَحيي بحكاياتِكِ مواتَ الرُّوحِ ،واشتُلي الفرحَ فيها، يُورِقُ يباسُ قلبٍ ملَّ التَّرحالَ. كوني حكايةً تَرْبِتُ بحروفِها الدّافئةِ على كتفِ طفلٍ، واطردي بها هواجسَه وقلقَه”.

قالتْ له: “كيف أُحيي بحكاياتي مواتَ الرُّوحِ، وروحي مهزومةٌ حتّى آخرِ ارتعاشةٍ ؟!”.

وبدأتِ الحكايةُ…حكايةٌ تتوالدُ من حكايةٍ، ولا تنتهي الحكايةُ.

فما الذي تُخفيه؟ نَدفَ ثلجٍ…انهمارَ مطرٍ…أم ندى فجرٍ وتدفّقَ عطرِ بنفسجٍ؟!.

الحكاية: هي حكايةُ روحٍ هائمةٍ تبحثُ عن قرينٍ لها، يعشقُ ألوانَها، يستمتعُ بخربشاتِها، ويفهمُ موسيقاها العصيّةَ على البشرِ.

حكايةُ مهرةٍ شاردةٍ في الصّحراءِ آنَ تشرقُ الشّمسُ، تتوجّسُ من اشتدادِ اللّهبِ إذا ما استباحَ القيظُ جلالَ الأمكنةِ. تفرُّ مذعورةً بعدَ الشُّروقِ بومضةِ حلمٍ، تصهلُ حكاياتِ برقٍ ورعدٍ وانسكابِ ديمةٍ. ثُمَّ تسابقُ الضَّوءَ شوقاً لمن يفرشُ الرُّوحَ فداءً لجموحِها.

كان…يا ما كان… جمعَهما حلمٌ باذخُ الألوانِ، فانتثرَ اللّيلكُ في أرضِ الحكاياتِ، وتساقطَ البوحُ من أعلى نافذةٍ، أشرعَتْ مصاريعَها للرِّيحِ الحبلى بعطرِ الغيمِ.

تقولُ الحكايةُ: “مازالتِ الرّيحُ تحملُ ليلكَ أشواقِها تنثرُها في سهولِ القصيدةِ”.

القصيدة: قال لها: “كوني لوزَ كلماتٍ غضّةٍ، وشوقاً لحروفٍ راجفةٍ على شفةٍ تزغردُ شعراً يُغسَلُ بماءِ الرُّوحِ…كوني شعراً “.

قالتْ له: “الشّعرُ كستناءُ شتاءاتي وهي تتوهَّجُ على مدفأةٍ تزدهي بحطبِ الأفكارِ.

أشعلْ موقدي بوقودِ الرُّوحِ كي تتأجَّجَ نارُ الشِّعرِ، ساعدْني حتّى لا تهربَ القصيدةُ من بين أناملي، أكنْ لكَ بوحَ ناياتٍ عتيقاتٍ، أنهمرْ في ليلِكَ نجوماً، وفي نهارِكَ شدواً “.

قالَ لها: “سترقصُ روحي في حناياكِ كي تُحضِّري عسلَ حكايةِ لونٍ، وشهدَ قصيدةٍ راقصةٍ”.

قالت: “يومَ ترقصُ ألواني في قصيدةٍ ستكونُ تحيّةً للنّورِ، للفرحِ يصعدُ مثلَ صلاةٍ إلى السَّماءِ، من أوّلِ البوحِ حتّى آخرِ سطرٍ في فجرِ القصيدةِ، إلى رعشةِ المغيبِ في سهولِ ميماسِ الحكايا. فهلّا كنْتَ لي ألحانَ فرحٍ وغناءٍ؟”.

العزفُ والغناءُ: قالَ لها: “غنّي”. قالتْ:” لا أستطيعُ الغناءَ إلّا إذا عزفْتَ لي وانهمرَ عزفُكَ نديّاً، عذباً. وقتَها يَطيبُ لي نسجُ الحكاياتِ الدَّافئاتِ قربَ مواقدِ الرُّوحِ. وتُباشرُ أغنياتي تحليقَها في فضاءاتِكَ حتّى تأخذَ من الشَّمسِ خيوطاً تجدلُ محبتَكَ. أريدُ عزفاً حنوناً عارفاً بمكامنِ الفرحِ يسقي نبتةَ الخلودِ بماءِ الحياةِ،  ونبضِ اللّحنِ. يختارُ مقاماً من روحِ اللهِ، فيفورُ نبعُ الألحانِ سلسبيلَ أغنياتٍ”.

قالَ: “في أعماقِكِ يتموَّجُ صخبُ أغنياتٍ عذبةٍ، وأنا العارفُ بمكامنِ الفرحِ أُترجمُ بعزفي رقصَ شفتين تضجّان بالشَّهدِ، وغوايةَ عينين فيهما أغانٍ من لوزٍ وتينٍ. فخذي قصبَ روحي ناياً

كي يتوحّدَ العزفُ عبرَ روحينا. اعزفي…اعزفي”.

قالت: “سأعزفُ على ناي روحِكَ فهو لَنْ يخذلَني، ولَنْ ينكسرَ بينَ يديَّ. أنا عازفةُ نايٍ على ضفافِ نهرٍ ما تلوَّثَ. وبوحُ صفصافٍ يغبُّ خمرَةَ الأغاني. غنِّ لي. فأنا أريدُ أن أنامَ على زندِ  الحكايةِ…غنِّ يا شقيقَ الرُّوحِ، فالغناءُ صلاةٌ والبوحُ صلاةٌ والخمرةُ في دنانِ روحي صلاةٌ”.

الخمرة: داليةُ الرُّوحِ تهبُكَ عناقيدَ خمرتِها، وأوراقَ بوحِها. ترسمُكَ قمرَ مساءاتِها. أنا امرأةُ روحِكَ، أُنثى فرحِكَ. أشاركُكَ سرَّ البوحِ المعتَّقِ في دنانِ العمرِ. لكَ أعددْتُ كأساً مزجْتُ فيهِ روحي وأمومتي وحكاياتي. خمرتي نقيّةٌ معتَّقةٌ بفرحٍ رأيتُهُ خلفَ سحابةِ شجنٍ في عينيكَ.

قالَ: “أنا أغبُّ من خمرةِ بوحِكِ، فلا تصحو روحي من سكرتِها…روحي تبكي لأنها ما سَكِرَتْ بخمرةِ محبتِكِ منذُ ألفِ دهرٍ”.

  • “لا تبكِ على عمرٍ مضى…احملْني في كأسِ روحِكَ زوّادةً للآتي من الأيامِ…سأكونُ الخمرةَ والخبزَ…الرَّبيعَ والخريفَ”.

الخريف: أحلمُ وأنا في خريفِ العمرِ بحكايةٍ ربيعيةِ الدّفْءِ، يُلوّنُها الخالقُ ببهيِّ سناه…تتناثرُ أوراقي في أيامِكَ فتتلوّنُ بالخضرةِ. وزهرُ تشرينَ يتحوّلُ زهرَ لوزٍ. أتوسّلُ مرآتي ألّا تُخفي عني أخاديدَ الوجهِ، أو ورقاً أصفرَ يتساقطُ في حقلي. تردُّ مرآةُ الرُّوحِ:” مُترفٌ خريفُكِ فابذخي، وافرحي. لخريفِكِ حكاياتُه المبتلّةُ بندى أعشابٍ وزهورٍ بريّةٍ. زمنُكِ دفقةُ عطرِ التُّرابِ بعدَ أوائلِ الغيث”.

يُجيبُها لصيقُ الرُّوحِ: “إن كنتِ الخريفَ وبهذا البهاءِ فكيفَ ربيعُكِ؟! دعيني أحلَمْ بربيعِكِ يا منهلاً لخضرةِ روحي…دعيني أُصَلِّ كي تتساقطَ كلُّ أوراقِ عمري، في زمنٍ أنتِ خريفُهُ أيّتُها الجنّيّةُ الرّائعةُ”.

الجنّيّة: خمسونَ حناناً والحلمُ يباغِتُ طفلتَهُ بحكايةِ جنّيّةٍ تظهرُ في ليلةٍ اكتملَ بدرُها لتزرعَ الأمداءَ صهيلَ أمنياتٍ ملوّناتٍ بعشبِ العطاءِ، مسافراتٍ على متنِ موجٍ وزبدٍ.

حينَ تفرحُ الجنّيّةُ تُمطرُ بداخلهِ ندىً ومحبّةً. لذلك رقصَتْ ودارَتْ وغنَّتْ…كانت تراهُ بعينِ قلبِها يراقبُها فَرِحاً برقصِها.

يتعجّبُ، يسالُها: “ماذا فعلتِ بي أيّتُها الجنّيّةُ؟”.

  • “مسحْتُ بأناملي بعضَ حزنٍ فظهرَ ما كان مخبوءاً من فرحٍ. سقيتُكَ ماءً، فأورقَتْ أغصانُكَ، وأزهرتْ نوّاراً، وجلّناراً، وحبّاً. نفخْتُ في رمادِ أيامِكَ، فأشعلْتُ ناراً كنْتَ تظنُّها انطفأتْ. مسحْتُ بيدي رأسَكَ، فأورقَتْ أغصانُ سنديانةٍ ما شاخَتْ، ولا هرمَتْ.

نسجْتُ حلماً بألوانِ الطَّيفِ، طرّزتُهُ بأقمارِ فرحٍ، ليكونَ هديةَ الجنِّ لطفلٍ مشاغبٍ رائعٍ”.

  • “ماذا فعلتِ أيّتُها الجنّيّةُ…كيفَ غيّرتني وبدّلْتِ حياتي؟”.
  • “وقعْتَ في شبكةِ ألواني وحكاياتي”.
  • “هو دفْءُ حكاياتِ روحِكِ احتلّني، لوّنني…لكنّني ما زلْتُ أرتجفُ برداً”.
  • “من أينَ يتسرّبُ إليكَ البردُ؟. والجنّيّةُ أغلقتْ كلَّ منافذِها، وحاصرتْكَ في عينيها، وحناياها وأوقدَتْ روحَها ناراً تتأجّجُ لدفْءِ روحِكَ، واستدعَتِ الرَّحيقَ من زهورِ الحدائقِ، لتنعمَ بشرابٍ دافئٍ”.
  • “أسكرني رقصُكِ أيَّتُها الجنّيّةُ، وأنا ما صحوتُ بعدُ من خمرةِ ثغرِكِ المعتّقةِ بدنانِ روحِكِ. اسقني…اسقني ما ارتويْتُ”.
  • “أنا ما رقصْتُ بعدُ…أتعلّمُ الرَّقصَ لأمتلكَ سحرَ التَّشكيلِ اللَّونيِّ والحركيِّ، لأرقصَ على إيقاعِ روحِكَ، ولأزرعَ كلماتي قَرنفلاً، ومنثوراً في حقولِكَ”.
  • “جنّيّةٌ أنتِ…تأتيكِ الحروفُ طائعةً لتشكّلي منها حكاياتٍ عابقاتٍ بالعطرِ والمطرِ. ماذا فعلْتِ بي؟!”.
  • “بعدَ سنينَ من القحطِ، جئْتُكَ مزنةً تسقي برِهامِها حبقَ أمنياتِكَ”.
  • ” أنتِ أجملُ حصادٍ بعدَ سنينَ من القحطِ والجفافِ وذبولِ حبقِ الأمنياتِ!.”.

  ما لم تقلْهُ الجنّيّةُ:

“في مرايا الياقوتِ رأيْتُهُ…طفلاً من جراحِ الأنثى يبرأُ. هي دمعةٌ انبجسَتْ نبعَ خلاصٍ، وفاضَتِ الرُّوحِ في دفقِ شجنٍ. فبحثْتُ عن أسرارِ السَّحابِ المختبِئِ بينَ قطرتين من عطرٍ ودمعٍ. أو بينَ زهرتي نرجسٍ وفلٍّ. وعرفْتُ الدَّواءَ… صرْتُ أجدلُ الفرحَ ضفائرَ للحكاياتِ، أُزيّنُها بالفراشاتِ الخارجاتِ من رحمِ الشَّرانقِ، توقاً للتَّحليقِ فوقَ بيادرِ البوحِ”.

تقولُ الحكايةُ: “بدأتُ من شرنقةٍ وفراشةٍ مجنونةٍ باللّونِ والطّيرانِ، أتمَّتْ تحليقَها، وطوَّقَتْ أحزانَها، ثمَّ افترشَتْ صفحةً بيضاءَ”.

تسألُها الجنّيّةُ: “كيفَ ستنتهين أيَّتُها الحكايةُ؟”.

– “لن أنتهيَ…سيغفو كلٌّ منهما في روحِ الآخر”.

تتابعُ الجنيةُ هزَّ سريرِ الحكايةِ ليتّحدا صوتاً وصدىً، شجرةً ونسغَها، غيمةً ورِهامَها، قصيدةً وحروفَها.

 

 

تعليق واحد

  1. أميمة إبراهيم تسرد ما تخفيهِ ومالم تقله الحكايةُ.

    بعنوان “ماتخفيه الحكاية ” بدأت الأديبة السورية أميمة ابراهيم حواراً بين روح مهزومة، ولصيق روح حالم، وسار النصّ وهو يحمل في سلته مفردات دالة على الحياة بشكل مباشر أو ما يدل عليها،( الفرح – – ثلج – مطر – ندى – فجر- الوان – موسيقا – شمس – انسكاب ديمة – ضوء) ومفردات دالة على إنهاء الحياة:( موات – يباس – هواجس – قلق – مهزومة – اللهب – صحراء- القيظ).
    *حوار:
    (قالَ لها: ” أَحيي بحكاياتِكِ مواتَ الرُّوحِ ،واشتُلي الفرحَ فيها، يُورِقُ يباسُ قلبٍ ملَّ التَّرحالَ، واطردي بها هواجسَه وقلقَه”.
    قالتْ له: “كيف أُحيي بحكاياتي مواتَ الرُّوحِ، وروحي مهزومةٌ حتّى آخرِ ارتعاشةٍ ؟!”.).
    وهنا تؤكد الأديبة أن الحكاية ليست نصّاً عاقراً، بل ولوداً بالفرح والقهر، فهي رصد لدقائق حياة الناس، وهي باقية ما بقيت الحياة، ومنها ما يُكثّف ليأخذ شكل “المثل”يتداوله الناس في حياتهم اليومية.
    *مكاشفة:
    أطلقت أميمة مخيالها لسرد ماتخفيه حكايتها التي صاغتها من حلم وواقع، واتكأت على الموروث الشفاهي في حكايا الجدات لشد القارئ عن طريق سرد حواري بـ: “كان ياما كان”
    “وبدأتِ الحكايةُ..حكايةٌ تتوالدُ من حكايةٍ، ولا تنتهي الحكايةُ.
    حكايةُ مهرةٍ شاردةٍ في الصّحراءِ آنَ تشرقُ الشّمسُ”.

    *حوار
    امتلكت الأديبة مهارة لغوية في محاكاة القارئ تدل على امتلاك أدواتها اللغوية في رسم وتوظيف لغتها الشاعرية بعناية كيلا يشعر القارئ بالملل،و لجأت إلى دمج الحلم بالواقع بطريقة متقنة وعزفت بكلماتها على وتر الإنسان الذي يتوق لسماع عبارات تُنسيه الواقع وتنقله عبر بساط الحلم إلى كلمات تدغدغ روحه بمفردات تدعو للحب.

    قالتْ له: ” أشعلْ موقدي بوقودِ الرُّوحِ كي تتأجَّجَ نارُ الشِّعرِ، ساعدْني حتّى لا تهربَ القصيدةُ من بين أناملي “.
    قالَ لها: “سترقصُ روحي في حناياكِ كي تُحضِّري عسلَ حكايةِ لونٍ، وشهدَ قصيدةٍ راقصةٍ”.
    قالت: “يومَ ترقصُ ألواني في قصيدةٍ ستكونُ تحيّةً للنّورِ، للفرحِ يصعدُ مثلَ صلاةٍ إلى السَّماءِ، من أوّلِ البوحِ حتّى آخرِ سطرٍ في فجرِ القصيدةِ.
    قالَ لها: “غنّي”.
    قالتْ:” لا أستطيعُ الغناءَ إلّا إذا عزفْتَ لي وانهمرَ عزفُكَ نديّاً، عذباً
    قالَ: “خذي قصبَ روحي ناياً كي يتوحّدَ العزفُ عبرَ روحينا. اعزفي…اعزفي”.
    قالت: “سأعزفُ على ناي روحِكَ فهو لَنْ يخذلَني، فالغناءُ والبوحُ صلاةٌ ، أنا امرأةُ روحِكَ، أُنثى فرحِكَ.
    *رؤية:
    ماتخفيه الحكاية حوار تحتاجه روح الإنسان المحبطة واليائسة والذي يحيط بها القلق والمخاوف لتبتعد ولو قليلا عن دروب مفخخة بالقهر والوجع.
    هو نصّ فيه مايشعرنا أن في الحياة مساحة للفرح علينا أن نسهم في زيادتها
    وهو دعوة للحياة عبر المطالبة بحب حقيقي يحقق للإنسان التوازن والتصالح مع الذات.لأن المحبة تعمر المكان والإنسان.
    وبهذا الحالة يكون الأدب قد أخذ دوره الحقيقي في التأثير على توجيه الإنسان، فاختيار النص وترجمته يدل على أنه تخطى مكان كاتبه، وأنه نص إنساني.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*