النصُّ ، التّجربةُ، الخيالُ :” الشّعرُ؟… إنّه ذاكَ الألمُ/الفرحُ، اللّعبُ ،المزاحُ الثّقيلُ مع العدمِ”: محمّد بوحوش – توزر – تونس

محمّد بوحوش

 

أحسبني بمثابة حبّة رمـل في هذا الكون أو بمثابة فاصلة في جملة طويلة يكتبهــــا الإنســان على مــــــدى التّاريــــــــــــــــــــــخ.ولا أحسبني قد أضفت شيئـــا إلى المتن الشّعريّ مقارنة بما أتى به أسلافنا: طرفة ابن العبـد حين يقـــــول:

فإن كنت لا تستطيع دفع منيّتي فدعني أبادرها بما ملكــــــــــت يدي

أو قـــــــول أبي الطيّب المتنبي في فلسفـــة الموت والحيــــاة:

وقفت ومـــا في الموت شكّ لواقف كأنّـــك في جفن الرّدى وهــــــــــــو نائـــــــــم

 
وكما يقال فإنّ وراء الأكَمَة ما وراءها، يأتي هذا المقال على خلفيّة رؤيتي الشّخصيّة للشّعر والحياة والوجود. يأتي تجاوزا أو عــدولا أو انتقالا من مفهوم القصيدة إلى مفهوم النصّ ومن مفهوم الوزن إلى مفهـوم الإيقــاع حيث الوزن فرع من شجرة الإيقاع بناء على قول المعرّي أنا أكبــــــر من العروض.وهو أيضا قطع مع ثقافة الأذن والسّماع والإنشاد إلى ثقافة القراءة والتأمّل والتّفكير استلهامـــا للثقافات الشّرقيّة اليابانيّة والهنديّة والصينيّة التي تقوم على التأمّـــــل والتّفكير والحكمـــة والإيجــــاز والتّكثيف ومزج السّرد والشّعر في أرقى نماذجها الشّعريّـة : الهايكـو” والتّانكــا والكامسوترا، كما أنّه قطع مع البلاغـــــة القديمة بغموضها واستعاراتهـــــــا وضجيج إيقاعهـــا ومحسّناتها وزخرفهــــا وجنوح نحو الوضوح والبساطـة والتّبسيط في إطار بلاغـة جديدة تعتمد التّكثيف والإيجـــاز والإدهاش والإرباك والمفارقة وتقليــم أظافر اللغة ممّا قد يعلق بها من شوائب وزوائد .إنّه تحوّل في المفاهيـــم من مفــــهوم النّقد ومعاييره الكميّة والنّوعيّة إلى مفهـــــــــــوم النّقـــــــــد الذي يقوم على القراءة الإبداعيّــــــة للأثر الأدبيّ.حنوح مـــنّي إلى معانقة النصّ في بعــــده المطلـــــــق ، النصّ الذي من مــــــادّة نصص ونصّ الشّيء أي رفعــــه، والنصّ هو الرّفعة أو سقف الكلام وقد تدلّى جمالا .
لقد عانق الإنســــان منذ وجوده على هذه الأرض هذا النصّ إذ ليست سيرة الإنســـــــان في المكان وفي الزّمـــــان سوى سيـــــرة نصيّـــة، والنصّاصون كثّر.من أساطيـــر الخلــق في الحضارات القديمة إلى الملاحم ومنها ملحمــــة قلقـــــــــامش وإليــاذة وأوديســة هوميروس إلى النصّ المسرحيّ في اليونـــــــان القديمة إلى النّصوص المقدّســـــــة من إنجيــــل وتـوراة وقـــــــــرآن وتعاليـــــــم بوذيّــة مرورا بنصوص العرب من الشّعـــــــــر الجاهليّ ومعلّقاتـــــــه حتّى بلــــــــوغ النّصوص الحديثــــــــة من قصص وروايات ومسرحيات وأشعار بديعــة.
فالنصّ هو بدعـــــــــة الإنســـان ومحنتــــه ومتعلّقــــــه في الوجود.والنصّ الذي أكتبه ،هو النصّ النثر- شعريّ المطلق المفتـــــــوح على جميــــــع الفنــــون والأجنـــــاس الأدبيّـــــــة والأصـــــــداء وإمكانات التّجـــــريب والتّجديد. لقد ظلّ الإنســـــان ومنــه الشّاعـــر متعلّقــــا بالخيال وعالقا في الوهم .لذلــك بنى لنفســـــه عالمـا موازيا من المفاهيم والتصوّرات والأفكــــــار والقيم والفنــــــــون والآداب والأديـــــان واللّغات ، عالما مســكونا بالخيـــــــــــــــــال والوهم والرّمــز إلى حدّ أصبح فيــــه النـــصّ جزءا من واقــــع الإنسان الذي سيظلّ في حنين أبديّ إلى الوهـــم ، وهم تغذّيــه النّـــــــــصوص المقدّســــــة بفكرة العبــــور من الحياة إلى الخلود،فظلّ النـــــصّ بذلك كابحا ومروّضـا لغرائـز الشّرّ في الإنسـان ومهذّبا لتوحّشه وعدوانيته. لقد ابتـــدع الإنسـان اللغة ليصنع بخيالــــه كـــــــونا اصطلاحيّـــا مجاورا للواقـــــــع. فأضفى على ما هو واقعـــيّ أو حدثيّ طابعـــا أسطوريّـــا وقدسيّا ورمزيّــــــا فأصبح الموت كحقيقية ماديّــة ، أي موت شخص مـــــــا كالفقيد محمّد البوعزيزيّ معـــــادلا للشّهيــــد والشّهــادة وأصبحت رقع الجغرافيـــا أوطانــــا. وهذا ذاتــه من صنع المخيّلة والخيـــال وجزء من الكون الاصطلاحـيّ والرّمزيّ .لــــــــذلك يحتاج وسيظلّ هذا الإنسان محتاجــــا إلى الخيـــــال والوهم مثل حاجتـه إلى الأديــــــان والفنّ والأدب.فالشّاعر، حمّال وهم جميل . يحلّق في سمــاء بعيدة بجناحين اثنين جناح اللّغة وجناح المعنى حتّى إذا نــزل إلى الأرض واصطدم بالواقــــــع أحدث ذاك الدّويّ الذي أسمّيه أثر الفراشــــة على حدّ تعبير شـــــاعرنا محمود درويش.إنّــــه الأثر النّاعـم للنصّ الشّعريّ وما يحدثه من إثارة ولذّة ومتعة وجمال وسحر  يكــــاد يخطف الألبـاب والأبصـــــار، أو هو إحداث دويّ أسمّيه الدّهشة والإربـــاك والمفاجأة والصّدمــــة.
إنّ الشّــــــاعر هذا الكائن المريض العالق بالخـيــــال والوهم  والحياة هو بمثابــــة حفّار قبور لهــذا الوجــــــود فهو يكــــفّن جنائز المعنى باللّغة في محاولة منه لتخليق فنّ وإنشـــاء معنى على معـــنى الوجود وإجراءه وتصريفـــــه على نحو جمالــــــيّ أخّاذ.

إنّ  الشّعر  سيظلّ  بفعل التّخييل ومدد  المجاز  والاستعارة الفنّ  الأكثر إنتاجـــا للمعنى الجميل والنّافع ، كما سيظلّ  الشّاعر  المتنبّئ بالمستقبل  اعتمادا على حافز الرّؤية .

إنّ  الشّعر في ظلّ سيادة اللاّمعــــــنى وترهّـــــل القيميّ  والانسانيّ فينا سيضحى الفنّ الذي  ينهض  على أســــــاس  الحبّ ويكبح  النّزوع  إلى الشّرّ ويروّض  غرائز الهمجيّـــــة   والكراهيّة والعنف .سيظلّ  الشّعر دافعا  للحبّ وهــــــــو في أسوء مقاماته : الهجاء  ، يهجو السيّئ ليحـــــثّ على الأفضل .هجاء  الواقع  بالخيال وإعادة تشكيله على نحو جمــــاليّ  فاتن.في كلّ  قصيدة أو نصّ   يكتب ثمّــــــة  انتصار ما على الموت والعدميّة  ومع كلّ  نصّ لا يكتب ثمّة  هزيمة للحياة كما يقول  الشّاعر الكبير محمـــــــود  درويش.الشّعر طفل  يعيد  المعنى إلى  الأشياء فيسمّيهــا  ويمنحها الدّلالة القصوى والجمال السّاحر.إنّه طين الحياة وقد تشكّل في آنيات وكائنات لتخليق  المعنى وإنتاجه.

وعود على بدء فإنّ ما كتبته جدير بالإعدام في معظمـــــه ليس فقط من حيث إنّـــه لغو الحياة وتجديف في القــــول/ الوهم، والتّهويمـــــــات والعموميّات والمطلقات والإنشاء الذي لا يفيد لكونه صدى للآخر وما كتب السّابقــون، بل لأنّ الشّاعر الجيّد هو الذي يعدم جـــــــــلّ ما كتـــب لا سيّمــــا إذا لم تكن تجربته صادقة وحميميّة ومتوهّجــــة وإنسانية.أنـــا على خطى الشّاعر الأسكندراني العظيــم قسطنطين كافافيـــس الذي اكتفى ببعض القصائد لمـــــــــا فيها من تجربة حسيّة ممتعة وخصوصيّــة تاريخيّة وصـــــدق وحنين .وأنـــــــا على خطى الشّاعــرة الإيرانيـــــة المتمرّدة والجريئة فروغ فرخـــزاد. من هذين النّموذجيـــــن أردت أن أقـــــول: إنّ الشّعــــر ليس هو الشّعـــــر بل النصّ خارج مفاهيم الوزن والبلاغة الفجّــــة والتّعميــة والاستيهامات والتّرميز والتّهويمات اللّغويّة والدّلاليّــــة .فعندما أقرأ يانيـــــــس ريتســـــــوس أو أوكتافيو باث أو بابليــــو نيرودا في ترجمات إلى اللّغة العربيّة أو أقرأ الشّعر اليابانـــــيّ الذي لا يعرف القافيــــــة فإنّني أقرأ شعرا بديعا وراقيــــــا من دون وزن وبلاغة سافــــــرة .لذلك فإنّ النــــصّ الشّعريّ لا يصنّــف بمفاهيم الشّعر التي في كلّ الثقافات والحضـــــارات بل بمفهـــــــــــــوم النصّ الذي يستلهم كلّ شيء ليصنع الجمــــال والمتعــــــة .
أريد بهذا أن أقول بأنّ الشّعر ليس غالبا ذاك الغمــــــوض والتّعميــــة أحيانا وليس التّهويمات والرّمز وتــــراكم الصّور بطريقة يضيع معهـــا المعنى ويتفتّت الخيال بل هو أحيانا توخّي البساطة بتوليفة لغويّة مشعّة ملمّحة تومئ للمعنى فيتلقّفه القارئ ويسري في وجدانه إمتاعا ولذّة وفـي الشّعر العربيّ نماذج شتّى منها شعر محمّـــد الماغـــــــوط.
أيّتها الشّاعرات ، أيّها الشّعراء ، أعدمـــــوا ما كتبتـــم، ولا تظنّوا بي خيرا .إنّي أستدرجكـــم إلى التّهلكــــة .فلقد كذبت عليكم بهذا الوهم الجميل الذي تسمّونــــــه شعرا وأسمّيــــه نصّــــا، نصّ الحياة الذي يكتمه البعض ويصرّح بــه البعـــض الآخر،بناء على أفضل ما قـــــرأت من النّصـــوص وفي مقدّمتها القرآن الكريم .يقول الله تعالى في سورة النّور الآية 43: “ألم تر أنّ اللّهَ يزجي سحابا ثمّ يؤلّفُ بينه ثمّ يجعلـــه ركاما فترى الوَدقَ يخرج من خلاله، وينزّلُ من السّماء من جبال فيها من بردٍ فيصيبُ به من يشاءُ ويصرفـــهُ عـن منْ يشاءُ ، يكاد سنا برقِهِ يذهبُ بالأبصارِ“.

إنّ الشّاعر أيضا يزجي كلاما أي يسيّره ويؤلّف بينــــه ثمّ يجعلـــهُ نصّا ماطـرا معنى وجمالا فيصيبُ بسحرهِ النّـــاس حتّى يكــــــادُ يخطفُ أبصارهم.إنّ النصّ الإبداعيّ الحقيقيّ ، هو حدث يسبق كلّ التّنظيــــرات والبيانات ويؤسّس لهـــا لاحقا. إنّه كتاب الحياة. الشّعر؟… إنّه  ذاك الألم/الفرح، اللّعب والمزاح  الثّقيل مع  العدم.

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*