الرّومانسيّة والصّوفيّة وأسئلة الوجود وتحوّلات اللّغة في صرتُ الآنَ غابةً* لسوزان إبراهيم : دراسة لعماد الفيّاض – دمشق – سورية

عماد الفيّاض

سوزان إبراهيم

 

“قلبيَ العصفورُ

فوق أعلى ساريةٍ في المدينةِ

بنى عشّهُ

هوَ أولُ من يستقبل الفجرَ

هو آخرُ من يودّعُ الشّمسَ” (ص26 )

بهذه اللغة الطازجة الفوَّراة بالرومانسية من مجموعة صرت الآن غابة تكتب  سوزان إبراهيم قصيدتها. ولأنها العصفور الذي يقف على أعلى سارية في المدينة، فإنها هي التي ترى، ولأنها ترى فإنها تعرف أكثر من الآخرين، ولأنها تعرف أكثر من الآخرين، فإنها تزداد أسىً.

تتألف مجموعة صرت الآن غابة من ثلاثة أقسام داخلية هي (أشجار- أوراق – حطب). وهذه الأقسام  سواء أكانت واعيى أم لاواعية بالغة الأهمية لأنها  تتنزّل في عمق الحالة الشعرية.وهو ما سنسعى إلى تبيانه  في هذا الفصل.

في القسم الأول الذي جاء بعنوان “أشجار” نلمس مفاهيم الامتلاء والتعدد والنماء والخصب نفسها التي نكتشفها منذ أن يقع نظرنا على عنوان المجموعة صرت الآن غابة حيث لا توحي الغابة بالتجدد والنماء وحدهما وإنما تتجاوزهما إلى السر الذي تحتويه والذي لا يعرفه إلا من يدخلها ويسير في مجاهلها وطرقاتها ويفك طلاسمها. وهي بهذا المعنى تذهب إلى عمق الحالة الصوفية. و تعني الغابة ، فضلا عن ذلك، المرأة  باعتبارها في إحدى تجلياتها مصدراً للخصب ، المرأة التي تمنح وتمنع، تردّ وتصدّ، تثير الرغبة والرهبة وتستدعي الخشوع أي باختصار امرأة شبيهة بطقس عبادة.

ومن جهة أخرى حين نلقي نظرة على التقديم “اتقاءً لطوفان شواهد القبور لا بدَّ من شواهد حياة: الأشجار” تلفتنا  منذ البداية الصور المتقابلة والمتناقضة في آن واحد ، تلك  التي تُسمى في اللغة الإنجليزية Binary Opposition . وهي: شواهد القبور = الموت وشواهد حياة = الأشجار، أي إنّنا أمام قوى سلب وقوى إيجاب. وهكذا يطالعنا منذ البدء أمام احتجاج على الموت المجاني (طوفان شواهد القبور) ودعوة إلى الخروج من التقحل والعدم والفناء باتخاذ  الأشجار التي تعني الحياة ملاذا وحصنا، كما تحسن هنا ملاحظة  الصور المتناقضة المتقابلة التي سبق للصوفية الاحتفاء بها لأهميتها أمام وحشة الكون مثل  الحياة/ الموت و الليل /النهار و الخريف /الربيع  وغيرها من الثنائيات  التي تمنح الحياة معنى ملغزا ،عصيا على التفسير و تجعل الإنسان مشدوهاً أمام وحشة الكون يطرح الأسئلة  دون أن يجد  لها جواباً.

 

                                     1- الرّوح الصّوفيّ:

وفي هذا القسم  أيضا الذي وسمته الشاعرة ب“أشجار” والذي يطفح بلغة الخصب ،يتبدى للقارئ مزيج من الرومانسية والصوفية  ينفذان بالخطاب  إلى عمق الأشياء ، بالبحث عن السرَّاني والجوَّاني ، استنادا إلى روح تأملية ثاقبة تتحول  بمقتضاها الجوامد إلى أرواح  و إن كانت تبدو  لغير الشاعرة مجرد أشياء مهملة مرمية في البعيد ، خالية من أي روح.

“وأنا أعانقكَ

وقبل أن تمضي الجدرانُ

إلى شؤونها الخاصةِ

تتحرك أغصان الشجرةِ

في اللوحةِ الزيتيةِ

ثم…

تزهر” (ص9 )

بفعل الحب تبتعد الجدران وتزهر الشجرة في اللوحة الزيتية. وهو ما يجعله يؤدي هنا دور المعادل الموضوعي للنماء والخصب والتجدد.

وكذلك الشأن في قول الشاعرة :

كلما سمعتِ

الشجرةُ موسيقى الكمان

بكى جذعها المقطوعُ حناناً: لقد برتِ البنت بأمها” (ص19 )

تؤكد هذه الأبيات ما استخلصناه منذ حين  من أن  تلك الجوامد ليست نائية ومهملة أو محايدة ومرمية في البعيد بل لها أرواح تحس وتتألم وتفرح وتحزن. وهذه فكرة صوفية   محصّلها القدرة على الاستبطان  والنفاذ إلى عمق الأشياء.وهو ما نلمسه كذلك في المقطع التالي :

“والنهر يكاد يندلق بأسماكهِ

على أرض صالة العرضِ

عدلتُ وضعية اللوحة” (ص24 )

فلئن بدا مثل هذا الكلام لذوي النظرة البرانية العابرة غير منطقي أو مجرد هذيان فإنّه ينطوي، في حقيقة الأمر، على معنى عميق  هو القدرة على استبطان الأشياء. وهذا ما تشي به الكثافة الشعرية التي توحي هنا بسرعة ردة الفعل الماثلة في التعديل الفوري لوضعية اللوحة ،نتيجة الإحساس بإمكان اندلاق ماء النهر.

كذلك الحال في قول الشاعرة :

“عُقُد الصمغِ

ضمادات شجرةٍ جُرحتْ

برصاص الصيادين

عُقُد الصمغِ دم النسغ الذبيحِ

بخور الحضرة

المقدسة” (ص38 )

هذه الصورة  الماثلة في نظرة تأملية ترى ثنائية في عقد الصمغ التي تسيل من الشجرة  هي ، على حد علمنا، صورة جديدة في الشعر العربي الحديث لم يقلها أحد من قبل.. و للعُقَد المشار إليها هنا  وظيفتان : الأولى تضميد جراح الشجرة والأخرى أداء دور “بخور للحضرة المقدسة”. وهذا يجعلنا أمام طقس، أمام شجرة- امرأة تريد أن تبوح بأسرارها, لكنها ولأنها مليئة بالحياء، تداري على أنوثتها وليس لديها سوى هذا الصمغ الذي يسيل منها.

“نصفها الآن أنا

حينَ أحبكَ لا أصيركَ

بل أكملُ الدائرة” (ص31 )

هنا نلمس هذا الابتعاد عن السطوح والذهاب إلى الأعماق حيث الجوهر. ولا بد لنا من أن نعرف أن اكتمال الدائرة من الرموز الصوفية.ودلالته هي اكتمال الحياة. وهنا لا يكون الاكتمال إلا بهذه المثنوية: هي- هو، لكن مع الإصرار على فرادتها وشخصيتها. لأنها الأنثى نصف الدائرة. وحين ستجد الذي تحبه ستكتمل الدائرة, لكنها لن تتخلى عن ذاتها وشخصيتها.

 

                                       3- لغة الخصب:

في العودة إلى مقولة الخصب التي يتميز بها القسم الأول “أشجار” من مجموعة صرت الآن غابة نحن أمام لغة معشبة زاخرة بمعاني الامتلاء والينوع والليونة والطّراء، لأنها لغة تأخذ مفرداتها من حقول النهر والغيمة والحقل والحديقة والشجرة والغابة.

“في رأسي

مزرعةٌ لتربية الغيوم

في رأسي

ورشةٌ لتصنيع

الغيوم

في قلبي

جمعيةٌ خيريةٌ لتوزيع هدايا الغيومِ”(ص10 )

إنّ اللغة الرومانسية الطاغية المتدفقة من هذه الأبيات  هي لغة شاعرة طافحة بالنبل والسمو الروحي وكل ما هو جميل. ولأنها كذلك لا  يمكن ن تنتج إلا ما يسيل إنسانية. وهذا ما نلمسه فيما المقطع التالي :

“كلما كتبتُ قصيدة

نبتت على جسدي شجرة

صرت الآن غابة

كيفَ لغرفةٍ أن تتسع لي! (ص11)

هنا أصبحت القصيدة معادلا موضوعيا للخصب والتعدد ، إذ لها في عرف سوزان إبراهيم  معنى الشجرة.  لذلك صارت الأشجار- القصائد- غابة. ولأنها كذلك ضاقت عليها الجدران  إذ هي قصائد تبحث عن حريتها. ولعل أجمل تعبير عن لغة الخصب الطازجة ما جاء في هذا النص:

“مصابةٌ أنا بالأشجارِ

كلما دنت فأس منحتُها .. يدها

مصابة أنا بالأنهارِ

أنَّى أُلقي بي

حفرت لمائي مجراه

مصابةٌ أنا بالألوان

كلما وحدني أسود

نثرت أبيضي لوناً.. فلوناً

مصابةٌ أنا بالحياةِ

كلما أتلفني ليلٌ

نهضت في الغد فجراً” (ص13 )

هذا المرض بالخصب يعطي لغة جديدة، لغة فوَّارة طازجة، لأنه مرض بالأشجار والأنهار والألوان والحياة. إن شاعرة مسكونة بهذه العناصر الطبيعية وتأخذ منها لغتها، لا بد  من أن تنتج نصاً مختلفاً.

وتتجلى أعلى درجات الخصوبة في هذه الأبيات :

“عمري الآن تماماً:

حقلُ قصائدَ

سبعُ حدائقَ

موعدانِ

رجلٌ أحبهُ

وحقيبة” (ص29  )

نحن هنا إزاء شاعرة تقيس عمرها لا بالسنوات بل بما تنطوي عليه من بعناصر الخصب، بالحدائق والحقول وتتحول لديها القصائد إلى حقل. و إلى جانب هذا الامتلاء بالخصب  تتقدّم بطلبين  بسيطين: رجل تحبه وحقيبة أي الحب والسفر : فالحب لما  يحققه لها من سعادة والسفر لما يوفره لها من تجدد واكتشاف واغتناء بالتجربة.

لكن لا بد لنا من الإشارة  -ونحن نبحث في عناصر الخصوبة التي تأخذ سوزان إبراهيم لغتها منها – إلى أن ثمة عنصرا سرّيّا عميقا خاطفا ،غير أنه يبدو أنه المصدر الأهم لطزاجة اللغة وخصوبتها, وهو عنصر الطفولة المفتوح على الدهشة الأولى والفرح الأول والاكتشاف الأول.

تقول الشاعرة في هذا المعنى :

“حين كنت طفلةً

تسلقتُ مراتٍ كثيرةً شجرة المشمش

مرةً سقطتُ

وقعت ماسةُ قلبي وتشظت

من يملك قطعة مهما كانت صغيرة

فليبقها لديه” (ص18 )

في هذه المقطوعة دعوة إلى جميع الناس للاحتفاظ بطفولتهم، أو بجزء منها على الأقل. وهي رسالة  غير مباشرة ضد التشوه الذي يفسد حياة الإنسان .

وكم يفيض المقبوس الموالي  بدهشة الطفولة الأولى التي تحاول سوزان إبراهيم استعادتها. طفولة لم تتسرب منها ، طفولة غنية حولتها إلى شاعرة:

“طفلةً

قصدت جارنا النهرَ

أغسلُ ثوبي الصغيرَ

 صار الثوب قصيدة” (ص20 )

 

 

                                     3- البحث عن الانعتاق:

ليس خافياً أن الانعتاق هو أحد الثيمات البارزة في مجموعة  صرت الآن غابة وهاجس من أهم هواجس الشاعرة فيها . وهو تحديدا حرية الشاعرة وحرية الآخر.ومرد ذلك إلى أن  الحرية الفردية لا تكتمل إلا بالآخر: ذكرا كان أو أنثى. وهنا نلمس روحا سليمة من  الأنانية ومن النزعة إلى الخلاص الفردي، روحا ترهن خلاصها بخلاص الآخر.

“أغمضُ عينيَّ

تنامُ الجدرانُ

أفتحهُما

تشرق النوافذ” (ص9 )

تنام الشاعرة وتصحو على حلم على عالم بلا جدران. لكن الأهم في غرفتها اختلافها عن بقية الغرف من حيث خلوها من السقف.

“مثل عادة الغرف

لغرفتي أربعة جدران

غائبها الوحيد سقف

حيث يتدلى قلب الله بخيط أزرق” (ص12 )

الآن نضع يدنا على سر العمق في مفردات القصيدة – إنه الروح الصوفي  وما ينطوي عليه من علاقة جوانية مع الله لا يدركها  إلا القلة.

وكذلك الشأن في قولها :

“حشوت رأسي بالفراشات

حين أزهر رأسي

راحت تجني الرحيق” (ص21 ) 

وفي المقطعين المواليين أيضا تتنفس الشاعرة حرية:

“كغيمٍ حرٍ لا يعرفُ الحدودَ بين الدولِ

يمطرُ قلبي ماءَهُ

كشمسٍ لا تعرفُ لغاتِ البشرِ

يتقنُ قلبي لغةَ الضوءِ” (ص35 )

***

“قبل عنادٍ ونيفٍ

خلعتُ عباءةَ قومي

قبلَ هاويةٍ وبعضِ أسئلةٍ

أزلتُ وشم القبيلةِ عن كتفي الأيمنِ

أيها الكونُ

أنا بريئةٌ إلا من أمي الشجرةِ” (ص38 )

ما هي الأسئلة التي طرحتها الشاعرة على نفسها  قبل (عناد ونيف ) لكي تتمرد؟ قبل كل شيء لا بد من الانتباه هنا إلى لغتها المخاتلة التي أخذنا بعيداً عن المألوف والمتوقع بقولها”قبل عناد ونيف”، إذ  كنا نتوقع أن تقول “قبل عقود ونيف”. فإذا هي تبرع كعادتها في الانزياحات اللغوية.

والحاصل مما سبق أن الشاعرة في حالة صدام قديمة مع مجتمع جاهل، تخلت عنه لأنه لم يفهم إنسانيتها. لذلك أعلنت براءتها منه، متمسكة بالروح النقية التي لم تتلوث بعد. وهي “الأم الشجرة” مصدر الخير والصفاء. وهنا نجد أنفسنا إزاء عالمين متقابلين :عالم القبيلة و/عالم الحرية والانعتاق . فالقبيلة تشد إلى الأسفل أي إلى الموت في حين أن الشجرة تصعد إلى الأعلى لترتقي بنا إلى الحياة.

وفي المقبوس التالي نلمس مدى عشق الأنا الشاعرة للحرية التي تحلم بها .فكلما وصلتها طلبت المزيد:

“أناي امرأة بلا جدران

كلما أدركتْ بعيدها

قالت: لم يكن هذا ما قصدت!

امرأة بلا جدران أناي

لا وقت لامرأة اللاوصول! (ص34 )

لكنها في خضم بحثها عن حريتها لا تنسى الآخر (الجمعي) الكسول، المستسلم للسائد ذلك الذي تتوجه أليه  بهذا الخطاب التحريضي الاستفزازي:

“قفوا أيها الجُلسُ

فالشمسُ تصلُ الواقفينَ

أولاً” (ص81 )

لعل أهم ما يرشدنا إليه هذا المقطع  الذي يتضمن معنى الحرية  مشارا إليه إيحاء وترميزا بكلمات قليلة مشفرة أن حرية الفرد ناقصة دون حرية الجماعة، ابتداءً من فعل الأمر (قفوا) الموجه إلى الآخر الجمعي والحامل لجرس إنذاريرن في آذان (الجُلَّس) الغافلين و وصولاً إلى (الشمس) وما تحمله من دلالة على الحرية.

واللافت ، فضلا عن ذلك، أن سوزان إبراهيم في بحثها عن حريتها لا تغفل عن الآخر (الفردي) الماثل في جنس النساء:

“ثم قلتُ لها:

كوني.. ثمَّ كوني… ثمَّ كوني

لكي أنهضَ” (49 )

ولعل من أهم الملاحظات هنا أن (ثمَّ) الاستئنافية في قول الشاعرة (ثمَّ قلتُ لها:) تشير إلى وجود حديث سابق طويل لم ينته بعد، لكنه مشفَّر وعلى المتلقي فك طلسماته.وهو دون شك،حديث الحرية الذي يتجلى في الرسالة المكثفة  المصدرة بفعل الأمر (كوني) المكرر ثلاث مرات.

ومن جهة أخرى لا تنسى سوزان إبراهيم  في بحثها عن الحرية صورة الآخر (الرجل) الحبيب والعاشق والزوج الذي لا بد لها من الاستناد عليه. ولكي يكون هذا الآخر معها فإنها تستدرجه بلغة رقيقة لكن احتيالية إلى حد  بعيد ربما لإدراكها المسبق بأن هذا الآخر الماثل بالرجل لا يعول عليه .وهذا ما سنكتشفه لاحقاً.

وهكذا تبدو العلاقة المثنوية (هي- هو) شرطا لا يمكن الاستغناء عنه للوصول إلى حرية مشتركة.

“في مقهى الإله

طلبتُ عصيرَ أشجار

حددتُ نوعها.. عمرها.. مكانها

من تلك الغابة الكثة على حدود الحياة

قلت: ينقصني بعضك!

فذوبني بالكأس” (ص17 )

ومما يلفت الانتباه إن هذا الآخر الذي تبحث عنه  الشاعرة وقد اكتملت صورته في مخيلتها، تبحث عنه بكامل وعيها ، مستخدمة لإغوائه واستدراجه أفضل ما لديها من حيل لكي لا يفلت منها.

“في حجرة انتباهي  المصمتة

أثبتُ وجهك على الجدران

 بصمغ النظر” (ص57 )

ولما كانت امرأة واعية ومتميزة فإنها تبحث عن آخر يستحقها. وهنا تتجلى أيضاً مقولة المثنوية (هي- هو) حيث يكون الإلحاح على الأصل الواحد والجذر الواحد والعلاقة الأبدية التي لا فكاك منها مع الآخر.

“وعجينكَ متعالقٌ بأصابعي تطلبهُ

خميرتي الذائبةُ في مائهِ

تضحكُ,

بعدَ نُضجٍ

تذوقْ ما أشهاني في خبزكَ!” (ص63 )

ما يميز المقبوس السابق لغته الإغوائية الاستدراجية التي تنصب الفخاخ للآخر لينجذب نحو الشاعرة ويتحد بها. وكذلك أسلوب البدء من داخل الحكاية ،لإشعار المتلقي  بأن ما يقرؤه استئناف لحديث طويل سابق. وهو ما تشي به (واو) العطف في (وعجينك).وهكذا  تبدو صاحبة القصيدة كأنها في حمى لغوية لاصطياد أنسب المفردات لتقول من خلالها للآخر: أنت – أنا. لكن لمّا كان هذا الآخر (الرجل) ينسى للأسف هذه العلاقة المثنوية الأزلية، فإنها تذكره بها :

“تذكر

أنني القطعة التي انتزعت

من قاع بحرك

فانسربت خارجك

تذكر

أنت الفعل المجزوم بسكوني” (ص57 )

نلمس   في هذا المقطع  استعمال لغة أخرى قوامها التودد والتوسل .وهو ما أقتضى  تكرار الفعل (تذكر) مرتين.

وكذلك الشأن في قول الشاعرة:

“وإذا أخرجُ منكَ

أتركُ بذوري فيكَ” (ص16)

فهنا أيضا لغة استجدائية تتجسد في  تذكير الآخر الرجل بالعلاقة الأزلية بينهما. لكن هذا الآخر (الرجل) الذي بحثت عنه ليكون شريكاً لها في الحرية ينسى أو يتناسى ولا يستجيب لندائها .

وفي  المقطع الموالي تشخيص طريف للحب جاء على هيئة زلة لسان::

“إن التقينا هذه الليلة في حفل العشاء

وسألني صاحب الدعوة

هل تعرفينه

مشيراً بيده إلى الحب؟

سأكتفي بالقول صديق قديم”(ص58 )

و ليس (الحب) هنا سوى الآخر (الرجل) الذي لا يعول عليه.

وبالإضافة إلى ما تقدم  تعاني الذات الشاعرة الهشاشة والانكسار والانزلاق على أرض رخوة  من جرّاء سلبية هذا الآخر على نحو ما نراه في المقبوس التالي:

“ترك لي “الغد” ملاحظة تقول

إن أردت لقاءً حميمياً بيننا

فليكن خارج حدود هذه الأمة”

فهنا إحالة على أشد الحالات إيلاما وإثارة للأسى .وهي حال الأمة. ذلك أن العقم لا يقتصر على الفرد بل يتعداه إلى الأمة بأسرها. وربما عقم الفرد وعدم استجابته ناتجان  عن عقم الأمة.  من هذا المنطلق تبدو قصيدة سوزان إبراهيم في جانب منها  طافحة بالأسى لأنها  متولدة عن تجربة ونابعة من خلفية وثمرة تأمل, ومن هنا يكون الأسى ناتجا عن معرفة المقدمات وما ستؤول إليه النتائج.

……………………………………………………………………………….

* سوزان إبراهيم ،صرتُ الآنَ غابةً، دار ليندا للنّشر ، السّويداء، سورية 2016

 

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*