زِحامٌ : شعر : عبد الله سرمد الجميل – العراق

عبد الله سرمد الجميل

 

طوابيرُ منَ السّيّاراتِ المُعفَّرَةِ بالمعاطفِ البيضاءِ ،

وما فَتِئَ الطّاهي يُحزِّزُ الغمامَ ،    

فرصةٌ لِيَحيدَ موكبُ المُحافِظِ عن الطّريقِ الرّئيسةِ ،

إلى طرقٍ فرعيّةٍ ضيّقةٍ لا تطأُها القدمانِ إلاّ وهما ملتصقتانِ ،

فرصةٌ لِتُطفئَ المُحرِّكَ وتُشغِّلَ المذياعِ هازئاً بتوبيخِ المديرِ ،

فهذهِ إجازةٌ من ربِّ السّماءِ ،       

فرصةٌ لِيسألَكَ طفلكُ من المَقْعَدِ الخلفيِّ :

ما شعورُ تلكِ النّخلةِ المُغطّاةِ بالثّلجِ وهيَ ابنةُ الصّحراءِ ؟

فتجيبُهُ: لا شعورَ لها فهيَ نخلةُ زينةٍ ،

فرصةٌ لِتفُكَّ أزرارَ رقبتِكَ ،

ترجَّلْتُ وتعجّبُ المارّةُ لمّا رَأَوْني مُتَّزِناً وأنا واقفٌ مائلاً ،

كانَ ظلُّكِ مسندي ،        

أيُّها المطرُ المشاكسُ ،

أمَّلْتَ الصُّداةَ ففتّحوا أشداقَهم ،

فهطلْتَ لكنْ من السّماءِ إلى السّماءِ ،

ثمّ ارتددْتَ عنهم ولم تلمِسِ الأرضَ ،

أيُّها المطرُ المشاكسُ ،

تُبلّلُ حياتي كزجاجِ سيّارتي الأماميِّ وقد تعطّلتِ الماسحتانِ ،

أيُّها المطرُ المشاكسُ ،

تعلِّمُنا كيفَ تتحوّلُ الغرفةُ العراقيّةُ إلى بئرٍ ،

فتحةٌ في السّقفِ نتيجةُ القصفِ ،

ودمٌ يطفَحُ من القاعِ ،

أيُّها المطرُ المشاكسُ ،

كافياً كنْتَ لتنفُثَ في كلِّ شجرةٍ غابةً مُصغَّرةً ،

كثيفاً كنْتَ لتُعلِّقَ في مُنحدَرِ النّهرِ حصاناً أسودَ ،

طوابيرُ منَ السّيّاراتِ المُعفَّرَةِ بالمعاطفِ البيضاءِ ،

وما فَتِئَ الطّاهي يُحزِّزُ الغمامَ ،

وزلزالٌ يرُجُّ الرّاكبينَ ،

تسقطُ العِمارةُ الأولى ،

تسقطُ العِمارةُ الثانيةُ ،

وأربعُ حمائمَ فوقَ سطحِ العِمارةِ الثّالثةِ يُثبِّتْنَها ،

لماذا قامتي برجُ الحَمَامِ ؟

أنا المنشغلُ بالتّفتيشِ عنِ الرّعدِ الذي لم يتبعِ البرقَ ،

والبرقِ الذي لم يسبِقِ الرّعدَ ،

إلى الشّمسِ رمى الأطفالُ أسنانَهم فلم تُعِدْها إليهم ،

ورميْتُ فوهبَتْني علبةً ،

قالت الشّمسُ: لا تفتحَنَّها ،

وفي ليلةٍ ذاتِ شغفٍ أزحْتُ غطاءَها ،

وما زالتِ القصيدةُ تنبعثُ من تلكَ العلبةِ ،

زِحامٌ زِحامٌ زِحامٌ ،

ويُهْرَعُ الناسُ حينَ تُلقي امرأةٌ سلّةً وتركضُ ،

يَحْسَبُونَها عَبْوَةً ،

وحدي أقتربُ من السّلّةِ ،

وحدي أرفعُ الطّفلَ الرّضيعَ ،

زِحامٌ زِحامٌ زِحامٌ ،

معكِ أختصرُ الطّريقَ بالحديثِ ،

ويتضاعفُ بَصَرُنا يتضاعفُ ،

فنُبصِرُ حتّى مُحْتَوَيَاتِ المَحَلّاتِ  المغلقةِ ،

سمَّيْتُكِ منارتي ،

وأجَّلْتُ حبَّكِ مثلَما يؤَجِّلُ الموتُ كلَّ شيءٍ في هذا الوطنِ ،

أنتِ لا تسخرينَ ،

هم يسخرونَ ،

أنتِ تعلمينِ ،

هم لا يعلمونَ أنَّ بعضَ البشرِ كائناتٌ من زجاجٍ ،

لا تصلُحُ لغيرِ القراءةِ والكِتابةِ ،

كنْتُ أبتدئُ كلامي معَها عن الحربِ التي في رأسي ،

تَكْفَهِرُّ المسافةُ بينَ فمي وفمِها بالدّخانِ ،

فتضغُ قشورَ البُرْتُقالِ على المِدْفأةِ ،

ما أقسى أن تكونَ مُعلَّقاً كمدينةٍ نصفِ مُحرَّرةٍ ،

كشيخٍ دُفِنَ في الجانبِ الأيمنِ ،

وأهلُهُ في الجانبِ الأيسرِ ينتظرونَ ،

لِيَفتحوا القبرَ ويُعيدوهُ إلى مقبرةِ العائلةِ !

–      لماذا بُنِيَتِ المنارةُ الحدباءُ في المَوْصِلِ ولا بحرٌ لتلكَ المدينةِ ؟

–      بلى يا صديقي، بحرُ دمائِنا ،

طوابيرُ منَ السيّاراتِ المُعفَّرَةِ بالمعاطفِ البيضاءِ ،

وما فَتِئَ الطّاهي يُحزِّزُ الغمامَ ،

والعائدونَ ليلاً من الجريمةِ وَشَتْ بهم عينُ البومةِ ،

والنّهرُ وشى بهم ،    

النّهرُ لا ينامُ ،    

النّهرُ يُزعِجُهُ خريرُهُ ،

النّهرُ يكرَهُ نفسَهُ ،

لا يَأْلَفُ أطفالُنا النّسيمَ ،

يأْلَفونَ عَصْفَ الانفجارِ ،

الهواءُ الصّيفيُّ السّاكنُ لا يُرقِّصُ الوُرَيقَاتِ ،

أمّا هاماتُنا فتتمايَلُ ،

هاماتُنا الأخفُّ ،

ونحنُ صِغارٌ كانَ أهلونا يُغطّونَ عيونَنا بأياديهم ،

أمامَ مشاهدِ القُبُلاتِ في التِّلْفازِ ،

كبِرْنا فأينَ أياديهم لِتحجُبَ عنّا مشاهدَ القتلِ في شوارعِنا ؟!

الآخرُ لا يسألُني: في أيِّ حَيٍّ بيتُكَ ؟

بل: من أيَّةِ مقبرةٍ أقبلْتَ ؟

أمسِ رأيْتُهم ،    

أهلَ مدينتي بعدَ حصارٍ دامَ ثلاثَ سنينَ ،

كلَّمْتُهم ولم يكلِّموني بأفواهِهم ،

صافحْتُهم ولم يُصافحوني بأصابعِهم ،

ها هوَ جلدُهُمُ المُتقرِّحُ من ماءِ البئرِ ،

قد نبَتَتْ عليهِ طحالبُ العطشِ ،

ها هيَ عيونُهُمُ الجائعةُ حَدَّ التماعِها عندَ مرورِ الكلابِ والقططِ ،

أبصارُهم صارَتْ مناظيرَ حربيّةً ،

أسماعُهم تجفَلُ من عُلُوِّ صوتِ الموسيقى ،

هُمُ الرافضونَ القُمصانَ فالسياطُ على ظهورِهم ما زالَتْ طريّةً ،

هنَّ الساهراتُ بناتُ عَمِّ النّجمةِ ،

نجمةٌ في سُرَّتِكِ وأخلعُها ،

يتدفَّقُ نهرٌ من اللاّزَوَرْدِ ،

مهلاً فعاصفتي تغيِّرُ اتّجاهَ تيّارِ النّهرِ ،

هل أمدحُ الجبالَ ؟

الجبالُ سدودُ الهواءِ ،

فوقَ حَلْبَةِ الاختناقِ غلبَتْكَ الطّبيعةُ أيُّها الإنسانُ ،

إنَّ الخيانةَ انبثقَتْ حينَ لم يَعُد المطّاطُ مُطاوِعاً ،

سلامٌ على تشبيهاتِ بائعِ الخَضْرَواتِ والفواكهِ ،

عشرُ أشجارٍ متماثلاتٍ ،

واحدةٌ منهنَّ نسيَتْ صوتَ لِحائِها ،

حيثُ أصنافُ الطيورِ تغرِّدُ في أغصانِها ،

والتِّسْعُ الأخرياتُ لا يزورُهنَّ طائرٌ واحدٌ ،

هيَ هكذا ،

ممشىً أحمرُ يُحيطُ الحديقةَ ،

فلا تلمِسَنَّ إِخوةَ هذا اللّونِ ،

مثلاً رأيْتُ الأخضرَ يتقمَّصُ حيلةَ العَدُوِّ ،

ما النّباتُ المتسلِّقُ على الحائطِ إلاّ مغولٌ يتسوَّرونَ قلعةَ بغدادَ ،

مثلاً رأيْتُ أزرقَ الماءِ وأزرقَ السّماءِ يتعاركانِ ،

ثُمَّ بغيمةٍ يتصالحانِ ،

إذ انتماءُ الغيمةِ ليسَ لهذا ولا لتلكَ ،

من رَحِمِ الماءِ تُولَدُ ،

ولولا عتلةُ السماءِ أعني الريحَ لما ارتفعَتْ ،

مثلاً رأيْتُ الأسودَ يتبرَّأُ منهُ الفحمُ والليلُ والعيونُ السومريّةُ .

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*