قصيدة الصباح الشتائيّ : شعر: محمّد الهادي الجزيريّ – تونس

263330984117178272

محمّد الهادي الجزيريّ

 

أحبّكِ

ليس لديّ اعتراض على أن أحبّك

في كلّ وقت وفي كلّ ركن من الأرضِ

لكنْ أهيب بحبّك أن ينزل الآن من هذه الحافلةْ

مزاجي زقاق بلا منفذٍ

وصداعي خليّة نحلٍ

كما أنّني اليوم في خدمة العائلةْ

 

أحبّكِ

في غيم محفظتي نسخ من كتابي الجديد

كتابي الذي ليس في وسعه أن يحبّك مثلي

فشتّان بين القصائد

والشاعر المتوغّل هذا الصباح الشتائيّ

عبر حقول الشمالِ

مصابا بعشقكِ

منحنيا للرغيف الجبانِ وللدولة القاتلة

 

أحبّكِ

حذوي غبيّ يحدّثني عن إلاهي

إلاهي الذي بعد خمسين تيها

تبيّن لي أنّه كامن فيكِ

يا خدعة النار، يا حيلة الماء، يا وثبة الطينِ

ماذا أسمّيكِ يا روحيَ الجافلةْ

 

أحبّكِ

أعلم أنّك تستيقظين على مهلٍ

تمنحين مزيدا من الوقت لليلِ

حتّى يراجع طقس الغزالة في نومها الوثنيّ

وكي يستعدّ الصباح كما ينبغي لعناقكِ 

يعبدُ ربّكِ في مسجد الحيّ

ينهر لصّا تورّط في النوم عند تقاطع يومينِ

يكنس كلبا رهيبا ، تكدّس في درب يومكِ

يفحص كلّ الشوارع والمارة المبكرينَ

ويحرص أن تتفتّح كلّ الدكاكين والمخبزةْ

ثمّ يصعدُ أدراج بيتك محتشدا بالهواء النقيّ

حييّا ومرتبكا من هواهُ ومن ضجّة السابلةْ

 

أحبّكِ

من يقنع السائق الجهم

أنّي أحبّ القصيدة في شكلها الآدميّ

وأمقت أخبار مذياعه والمذيع

وما اختاره من مسوخ الأغاني

ومن حكَم الأمّة السافلة

 

أحبّكِ

لم يفقه السائق الجهم

أنّ الصباح الشتائيّ شرفة فيروز دون سواها

وأنّيَ أحتاج توّا إلى صوتها

كي يروّض شوقي إليكِ

ويفصلني عن خراب بلادي قليلا

وعن لغو هذا النبيّ المجاور لي

في السياسة والدين والثورة الفاضلةْ

 

أحبّكِ

أوقفنا حاجز للحرسْ

تنفّستُ سيجارتينِ

وبحتُ بحبّكِ للشجر المتشرّد بين الهضابِ

وللعشب والريحِ

والحجر اللامبالي بضيقي وضيق الطريقِ

وكدتُ أبوح بحبّك للسائق الجهم

كدتُ أبوح به للحرسْ

…………………………..

صعدنا إلى الحافلةْ

وظلّ النبيّ الملاصق لي جاهلا

أنّ إدمان ذاتي عبادة ذاتك فرضٌ

وأنّ سؤالك عنّي ولو مرّة في السنةْ / نافلةْ

 

أحبّكِ

عيناي ظامئتان إلى وجهك العذبِ

تستعطفان غيابك والذاكرةْ

كعينيّْ بريءٍ يُقادُ إلى مقصلةْ

 

أحبّكِ

ماذا سيحدث إن قلتِ يوما لأهلكِ

أنّي اختراع جديدٌ

يسلّي الصغارْ

ويُتقن شدو القصائد للراغبين الكبارْ

خدومٌ فريدٌ وميزاتهُ مذهلةْ

يؤمّ المصلّين من أهلك الواثقينَ

ويسقي الذين بهم قلقٌ أو دوارْ

وليس له غاية أو طموح

سوى أن يعبّ ملامح وجهك ليلَ نهارْ

مطيعٌ ودودٌ

ويمكن تثبيته حذو مكتبة البيت دهرا

وإن لزم الأمر

 يمكن تعليقه في جدارْ

……………………

ألا شيءَ ينقصُ بيتك؟

مستودع للهوى مثلا؟

مشجبٌ ربّما؟

مسندٌ … ساق طاولة مائلةْ؟.

حنيني مدرّس شعر عظيمٌ

ولكنّها الأبجديّة كسلى كعادتها

متحذلقة جاهلةْ

 

أحبّكِ

مرّ الصباح الشتائيّ بي ورآني

ألاحق وجهك عبر حقول الشمالِ

وأمسح غيما يلبّد نافذة الحافلةْ

 

تعليق : محمّد صالح بن عمر:

 

بعد موجة الرّكوب على الثّورة التي عقبت مباشرة أحداث الرّابع عشر من جانفي2011  في تونس والتي تجسّدت في اقتحام آلاف مؤلّفة من أشباه الشّعراء والكتّاب السّاحة الأدبيّة ، معلنين انتماءهم إلى التّغيير السّياسيّ الجديد ، تماما كما حصل بعد إيقاف سياسة التّعاضد سنة 1969 وبعد أحداث 26 جانفي 1978 وانتفاضة الخبز سنة 1984ومُشهرين نصوصا معظمها رديء، انكفأ الشّعراء الحقيقيّون على أنفسهم ،في انتظار اتّضاح الرّؤية وانجلاء الآفاق . .وبعد فترة من الصّمت أخذ الشّاعر محمّد الهادي الجزيري  الذي أثبت ، على امتداد أكثر من عقدين ، ما يتمتّع به من قدرات إبداعيّة عالية كان لنا شرف الكشف عن جوانب منها في بعض دراساتنا المنشورة –  يعود على نحو متقطّع لكن بنوعيّة من الكتابة جديدة ، استوحاها من الأوضاع المتأزّمة التي  شملت كلّ القطاعات بالبلاد ومنها القطاع الثّقافيّ حيث أضحى المبدعون في كلّ الفنون بلا استثناء يشعرون بالتّهميش وانسداد آفاق المستقبل. وهو ما يلوح جليّا في هذه القصيدة الطّويلة التي صاغها على هيئة هذيان هَلْوسيّ مسترسل يشفّ عن انتظارات شتّى  وأسئلة حقيّقيّة ، صادر عن متكلّم تتوفّر فيه كلّ صفات المجنون العاقل .و قد تعمّد في بنائها تعتيم  هويّة شخصيّة متلقّية غائمة الملامح يتوجّه إليها المتكلّم  بالخطاب.وذلك  بتكثيف الإشارات  المتعدّدة الدّلالات  المُوهمة تارة بأنّها  حبيبة وأخرى بأنّها القصيدة وطورا بأنّها البلاد . وهذا الخطاب يكشف عن تأزّم الحالة النّفسيّة للشّاعر الذي يقدّم نفسه على أنّه رجل من عامّة الشّعب ، عاشق لوطنه دون أدنى شروط أو طمع في مقابل ، ضاربٌ عُرض الحائط بالسّياسة  ،  مستخفٌّ بالسّياسيين والمتسيّسين  من كلّ  الألوان والاتّجاهات  لكنّه مهموم إلى حدّ الجزع بالوضع الذي تتخبّط فيه بلاده .أسلوبيّا قد اكتسب النٌصّ ، بفضل لعبة التعدّد الدّلاليّ تلك، رونقا خاصّا عززه سيل الصّور المفاجئة المربكة الذي يتدفّق  ، دون انقطاع ، من بداية القصيدة إلى نهايتها.

 

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*