أرشيف تعاليق محمّد صالح بن عمر النّقديّة على الشّعر:12 : قصائد تيارّي مونقيّار : 12- 1:شاعرُ الرّيحِ

تيارّي مونقيّار

1015380516_10201984255471215_1855878241984308586_n

 

 

يكتبُ عن هوايةٍ

ولا يحبُّ ملاعبةَ القوافي إلاّ ليلاً

هو من طينةِ عظيمةٍ

طينةِ شعراءِ الرّيحِ

رأيته يمشي

 تحت جرائدِ النّخلِ الفضّيةِ

 

من مدينةٍ إلى مدينة

ومن دشرةٍ الى دشرةٍ

 حتّى هنا

كان في باحةِ البلدةِ يُنشدُ أغانيَ قطلانيّةَ

ولم يكن يردّدُ أغانيه غيرُ الطّيورِ

 

كان يتسكّع

لا صولجانَ يتوكّأُ عليه

دائمَ السّيرِ ، دائمَ الغناءِ

تحت السّحبِ الممطرةِ المتموٍّجةِ

سمعتُه يصلّي

للعذراءِ وابنِها  

 

 

ألا يكونُ المرءُ شاعرا

عن لَطَافةٍ أو عن رغبةٍ ؟

في طريقه المؤدّي إلى القوافي

تخرجُ بحورُ الشّعرِ

كما لو أنّها تستيقِظُ

 من سباتِها؟

 

يرسمُ الكلماتِ بالطّبشورِ

على لوحةِ الزّمنِ

ولا يعيدُ أبدًا قراءةَ ما كَتَب

لكيلا يُزعجَ النّظامَ الوليدَ

 

يلوِّنُ بالحبِّ الكلماتِ الفقيرةَ المعانى

يُقصي عن ذهنه القوافيَ السّريعةَ العطب

ليزداد فهمًا لدلالاتِها

وهو همُّه الأوّلُ

 

وليسمعَ في الختامِ  تلك الكلماتِ العالمةَ

التي تعدو في ذهنه خبَبًا

على نحوٍ شبهِ سحري

لكنْ أ كانت تلك كلماتِه

أم كلماتِ الرّيح ؟

 

لم يكن أحدٌ يعلمُ أنّ كتابتَه هو

لا تستعملُ اللّغةَ

ألاً  لتتناغم مع الزّمن

وهذا لم تعلِّمْه إيّاه المدرسة

 

يا سَلَفي يا أخي الشّاعرَ

لستَ الأكبرَ

حتّى إن  لاحتْ لك ذاتُكَ ضئيلةً

فالشّعرُ كلُّه قد تعلّمتَه من الرّيح

ومن هذا الخليط المُبهمِ

من الأنغام

هو الأجملُ والأروعُ   

 

(تيارّي مونقيّار – شاعر فرنسيّ )

يعرض علينا صاحب هذه القصيدة الذي خلعتُ عليه لقب”الشّاعر اللّيلّي” لأنّه لا يظهر في شبكة الفايسبوك إلاّ في ساعة متأخرّة من اللّيل أو في الفجر، مفهومه الشّخصيّ للإبداع الشّعريّ بكلّ دقّة.وهو يقدّم لنا بذلك شهادة إضافيّة من الشّهادات التي  قد تسهم  مستقبلا في إماطة اللّثام عن  حقيقة هذه  الظّاهرة الغامضة التي ينكبّ عليها اليوم علماء العِرْفانيّات والجِيناتِ والعَصَبيّات.

فحسب تجربة هذا الشّاعر الشّخصيّة لا يأتيه الإلهام إلاّ ليلا (ولا يحبُّ ملاعبةَ القوافي إلاّ ليلاً ).وهذا الإطار الزّمنيّ هو، على حدّ   ذكره الأقدمون،  الإطار نفسه الذي كان يتلقّى فيه الأنبياء الوحي ، ربّما لأنّ الجوّ فيه يسوده الهدوء  التّامّ فيساعد ذلك المرء على التّركيز الذّهنيّ والاتّصال الدّماغي بمصادر إلهام بعيدة. ألم يرو لنا شاعر تونس الخالد أبو القاسم الشّابيّ في يومياته  كيف تتوارد الأبيات على ذهنه وهو في عزّ النّوم وحين ينهض في الصّباح يكتفي بنقلها على الورق.

وهناك خصيصة أخرى للكتابة الشّعريّة عند صاحب هذه القصيدة هي طابعها التّلقائيّ الخالص، إلى حدّ أنّ الشّاعر لا يجري أبدا وراء القصيدة وإنّما تقتحم هي ذهنه عنوة دون سابق إنذار ،تماما كالمخاض. وهو ما يميّز هذا النّوع من الكتابة على نحو كلّيّ عن مجرّد المعالجة التّقنية للقصيدة أو ما كان يسمّيه القدامى نظما ويمارسه بعضهم  اليوم حتّى في قصيدة النّثر ، ذلك الذي لا تتولّد عنه  إلاّ نصوص متكلّفة، مفتعلة لا طعم لها ولا رائحة ولا لون (يرسمُ الكلماتِ بالطّبشورِ/على لوحةِ الزّمنِ / ولا يعيدُ أبدًا قراءةَ ما كَتَب/لكيلا يُزعجَ النّظامَ الوليدَ  – وليسمعَ في الختامِ  تلك الكلماتِ العالمةَ/التي تعدو في ذهنه خبَبًا/على نحوٍ شبهِ سحريّ/ لكنْ أ كانت تلك كلماتِه /أم كلماتِ الرّيح ؟ – في طريقه المؤدّي إلى القوافي/تخرجُ بحورُ الشّعرِ/كما لو أنّها تستيقظُ/ من سباتِها؟) .

وزيادة على هاتين الخاصّتين  يشير الشّاعر  إلى خصيصة ثالثة هي طابع الكتابة الشّعرية الكونيّ الماثل في كون دوافعها ليست اجتماعية أو واقعيّة ،كما يظنّ الأكثرون ، بل هي نابعة من اتصّالات خفيّة لامرئيّة بالكائنات الحيّة والأشياء وعناصر الطّبيعية (فالشّعرُ كلُّه قد تعلّمتَه من الرّيح  – ولم يكن يردّدُ أغانيه غيرُ الطّيورِ- يرسمُ الكلماتِ بالطّبشورِ على لوحةِ الزّمنِ).

كلّ هذه التّصريحات التي يدلي بها صاحب القصيدة تصبّ في خانة واحدة .وهي دعم الفرضيّة القديمة القائلة بأنّ الشّعر إنّما هو  موهبة لا مجرّد صناعة تُكتسب بالمعرفة النّظريّة والممارسة التّطبيقيّة (لم يكن أحدٌ يعلمُ أنّ كتابتَه هو/لا تستعملُ اللّغةَ/ألاً  لتتناغم مع الزّمن/وهذا لم تعلِّمْه إيّاه المدرسة ) .

إنّنا إذن إزاء بيان شعريّ واضح الرّسالة ،  شديد التّماسك، فضلا عن إيفائه بشروط الفنّ كاملة لاسّيما اللّغة  التي جاءت   عالية الشّعريّة والإيقاع  الذي امتاز بالانتظام والتّسارع و إن كان ذلك لا يظهر إلاّ في النّص الأصليّ الفرنسيّ .

 

 

 

تعليق واحد

  1. Mohamed Salah Ben Amor

    Ema Issa
    “إنّنا إذن إزاء بيان شعريّ واضح الرّسالة ، شديد التّماسك، فضلا عن إيفائه بشروط الفنّ كاملة لاسّيما اللّغة التي جاءت عالية الشّعريّة والإيقاع الذي امتاز بالانتظام والتّسارع ”
    ….كان هذا واضح من خلال قراءة النص..شكرا للمشاركة دكتور محمد ، نص شعري جميل ….كل عام وانت بالف خير
    J’ai

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*