أجناسْ وجْنوسْ أو عجائبُ المخلوقاتِ في تونسَ المُتْعبةِ حسًّا ومعنىً :محمّد صالح بن عمر

dsci1085113245ferhatammar1images

 

ينتمي محمّد رشاد الحمزاوي تاريخيّا إلى الجيل  المخضرم من الكتّاب السّرديّين التّونسيّين الشبّان  الذين خَطَوْا خطواتهم الأولى قبيل الاستقلال وواصلوا تجاربهم بعده . وقد برز بينهم إذّاك بتفرّغه للقَصَص الرّيفيّ .وهو ما تجسّد خاصّة في الرّواج الذي حقّقه تأليفاه بودودة مات (الشّركة القوميّة للّنشر والتّوزيع. تونس 1962 )  وطرننّو أو تعيش وتربّي الرّيش  (  الدّار التّونسيّة للنّشر 1975 ) .

لكنّ هذا المؤلّف سرعان ما تلقّفه البحث العلميّ الأكاديميّ فانقطع إليه أو كاد منذ أواسط السّتّينات فألّف منذ ذلك الحين أكبر مدونّة عربيّة على الإطلاق في قضايا المعجم العربيّ قديما وحديثا جعلت منه  ، دون منازع ، المتخصّص الأوّل في هذا الميدان على الصّعيد العربيّ . ولهذا السّبب لم يعد إلى الكتابة السّرديّة إلاّ في مناسبة واحدة . وهي نشره سنة 1998 رواية عنوانها  سفر وهذر… هارب من خطاب الصّدق (  باريس، لارماتان 1998 ) .

وها هو بعد مضيّ سبع عشرة سنة على صدور تلك الرّواية  يطلع علينا بأربع مجاميع دفعة واحدة جعلها تنضوي جميعا  تحت عنوان مشترك عامّ  هو أجناس وجنوس ( أجناس وجنوس  ،مركز النشر الجامعي ، تونس 2014 )- واللّفظان جمعان لمفرد واحد  فصيح هو” جِنْس ” . لكنّ الجمع الثّاني منهما يحمل دلالة حافّة استهجانيّة لقربه صوتيّا من اللّفظ التّونسيّ الدّارج ” زْنْوسْ ”  جمع ” زِنْسْ ” . ومعناه  النّذل ، المنحطّ ، الدّنيء الأصل وما شاكلها .

نحن إذن إزاء سلسلة من المجاميع القصصيّة رَفعت  مدونّةَ الكاتب السّرديّة كمّيّا  إلى  سبعة عناوين أي إلى أكثر ممّا كتب بعض الذين تفرّغوا طيلة حياتهم لهذا الفنّ الأدبيّ من التّونسيّين البارزين مثل  البشير خريّف ( 1917 – 1983) ( أربع عناوين )  و مصطفى الفارسيّ(1931 -2008)  ( أربع عناوين ) و سمير العيّادي(1947 -2008)  ( أربع مجاميع ) و رضوان الكوني ( 1945 -2010)  ( ستّة عناوين ) . وبذلك يمكن القول إنّ محمّد رشاد الحمزاوي يتدارك بهذه السّلسلة  كمّيّا ما فاته في السّنين الطّويلة السّابقة التي أفرغ فيها جلَّ طاقاته في البحث المعجميّ .

أمّا التّوجه الغالب على القصص التي  تضمّها هذه المجاميع  فهو نفسه ، بوجه عام ، الذي اختاره منذ بداياته قبل نصف قرن من الآن  . وهو الواقعيّة النّقديّة التي أرسى أسسها في تونس علي الدّوعاجي( 1909- 1949 ) في الثلاثينات الأربعينات وتابعه في الأخذ بها البشير خريّف في جميع قصصه ورواياته  . ويُعدّ العملان السّرديّان اللّذان أنشأهما صاحب هذه المجاميع  في السّتينات  والسّبعينات وهما بودوة مات وطرنّنو أو تعيش وترّبي الّريش من أصدق ما ينطبق عليه هذا اللّون من الكتابة السّرديّة لدى الجيل الأوّل من الكتاّب السّرديّين التّونسيّين بعد الاستقلال . وانتماء هذه القصص الجديدة إلى الاتّجاه ذاته بعد نصف قرن من صدور ذينك العملين ليدلّ على وفاء مؤلّفها لاختيارٍ في الكتابة السّرديّة وسم مرحلة امتدّت من فترة التّأسيس إلى نهاية الستّينات  قبل أن يظهر في البلاد سنة 1968 أسلوب جديد هيمن ولا يزال على الأدب السّردي في تونس .وهو التّجريب .

وأوّل مقوّم للواقعيّة النّقديّة التي أسّسها علي الدوعاجي بتونس في الثّلاثينات الغَرْفُ مباشرة من الواقع  لا من التّصوّرات الذّهنيّة  الفلسفيّة المجرّدة مثلما هو حال اتّجاه آخر  ظهر بعده بقليل  ، اختطّه  محمود المسعدي(1911- 2004)  وسلكه في مجموع أعماله السّرديّة  لعلّ أبرز مقوّم فنّيّ فيه  اتّخاذ الواقع مرموزا إليه والكتابة نشاطا ترميزيّا تُتوسَّل فيه لغة التّراث العربيّ الإسلاميّ  ومُناخاته  العقديّة والتّخيّليّة  ولا من  مجرّد رؤى فلسفيّة جماليّة  ، تقنيّة  مثلما  هو الشّأن عند التّجريبيّين و في مقدّمتهم عزّ الدين المدني(ولد سنة 1938)  ،أولئك الذين تبنّوا فكرة الكتابة على غير منوال بأن ينبع   بناء كلّ  نصّ سرديّ من تصوّر فنّيّ مستحدث .

وهكذا فإذا كان الاتّجاهان  الثاّني والثّالث نُخبويّين يرمي أوّلهما إلى الخوض في قضايا فكرية مجرّدة وإن كانت لها صلة غير مباشرة بالواقع وإذا كان ثانيهما ينشد في المقام الأوّل الإمتاع الفنّيّ وإشراك المتلّقيّ في بناء النصّ فإنّ الآخذين بالواقعيّة النّقديّة ومنهم محمّد رشاد الحمزاوي يرون أنّ للكاتب دورا إصلاحيّا يتعيّن عليه الاضطلاع به داخل المجتمع . وهو ما يوجب  ، من وجهة نظرهم ،  التّوجّه إلى أكبر عدد ممكن من القرّاء . ولن يتسنّى لهم ذلك إلاّ إذا كان الخطاب السّرديّ خاليا من أيّ تعقيد لغويّ أو أسلوبيّ أو فكريّ . وهذا  ما سعى إليه  ، بكلّ وضوح ، مؤلّف قصص هذه المجاميع  الذي استخدم إجمالا لغة فصيحة لكن دون التردّد  ،  عند الحاجة  ، في النّهل من اللّهجة الدّارجة التّونسيّة  باقتباس ألفاظ وعبارات أدقّ  في الدّلالة على المقصود أو أشدّ إيحاء   ، كما صاغ حكايات قريبة  من تلك التي يرويها النّاس في حياتهم اليوميّة . فلا استغلاق ولا إيغال في الرّمزيّة ولا تعقيد في بناء الأحداث ولاغموض في رسم ملامح الشّخوص .

أمّا في ما يخصّ محتوى هذه القصص فمعظمها الأغلب  يصوّر نماذج بشريّة تتحرّك في فضاءات تونسيّة  ريفيّة أو حضريّة مشار إليها بأسمائها ( القصرين – تالة – فوسانة  – ساقية سيدي يوسف  – تونس العاصمة …) وفي فترات متفاوتة تتراوح بين عهد ما قبل الاستقلال وأيّامنا هذه.وإذا وُجدت خارج البلاد ففي ظروف زمنيّة طارئة ومؤقّتة .

والقاسم المشترك بين هذه الشّخوص  هو طابعها الاستثنائيّ المفارق ، تماما مثل أبطال قصص علي الدوعاجي كالعمّ باخير وقصص البشير خريّف مثل برق اللّيل  وخليفة الأقرع ومسعود بن خليفة الأعتر  و قصص محمّد رشاد الحمزاوي نفسه السّابقة   مثل بودودة مات وطرنّنو. وأبرز ما يتجلّى فيه هذا الطّابع من وجهة نظر السّارد  هو المسافة الشّاسعة التي تفصل تلك الشّخوص  عن حداثة  العصر . وذلك لأحد سببين : إمّا ارتباط عقليّتها وسلوكها بالموروث الثّقافيّ ونفورها من كلّ ما يفد  على محيطها المحليّ من الغرب   . وإمّا سعيها إلى التأقلم مع مظاهر الحداثة لكن دون نجاح  يذكر . وهو ما يسم سلوك هذين الصّنفين من الشّخوص  ومواقفهما بالاضطراب والتعثّر وعدم التّماسك .

ومثلما هو الحال في  أعمال علي الدوعاجي والبشير خريّف السّرديّة تصدر الحكايات المرويّة  في هذه القصص عن سارد  ذي عقليّة تونسيّة  متفتّحة، متشبّع بالقيم والمبادئ التي رفع لواءها المصلحون التّونسيّون المستنيرون وفي مقدّمتهم  خير الدّين التّونسيّ والطّاهر الحدّاد ومحمود المسعدي ومحمد الفاضل بن عاشور . ومحصّلها أنّ الشّخصيّة التّونسيّة المثاليّة  الأشدّ انسجاما مع موقع البلاد الجغرافيّ وتاريخها العريق الحافل بتلاقح الحضارات  هي التي تجمع بين الانفتاح على الآخر لكن دون الذّهاب فيه إلى حدّ الانبتات والتّجذّر في الهويّة العربيّة الإسلاميّة لكن الوقوع في الانغلاق .

وتظهر هذه العقليّة جليّة في مواقف الرّاوي من قضايا كثيرة حسّاسة تناولها المؤلّف يمكن إرجاعها كلّها إلى قضيّةٍ رئيسٍ هي التّخلّف الضّارب بجذوره   في تاريخ البلاد منذ بداية عصور الانحطاط التي توالت على العالم العربيّ الإسلاميّ حين دبّ الوهن في مفاصل الدّولة العبّاسيّة  . وهو يشمل كلّ المستويات والميادين ، على الرّغم من الجهود التي بذلها رجال الإصلاح في  بحر القرنين الأخيرين ولم يكف نصف قرن من الاستقلال للحدّ منه .

فعلى الصّعيد العَقَديّ  تسود النّظرة الفولكلوريّة إلى الدّين  النّابعة من القراءات السّطحية للنّصوص الإسلاميّة المقدّسة والقائمة على التّسليم بالأمر الواقع والانصياع المطلق لمشيئة القدر وعدم الإيمان بإرادة الإنسان وقدرته على الإبداع والتّغيير (  قصص ” السّروال السّوري ”  ، ” هل نزل الإنسان على سطح القمر؟  ” ، ” حِجاج ” ، ” الطّوفان ”  …  ) .

وفي المستوى السّياسيّ يخضع المجتمع بأسره  لنظام كُلاّنيّ متبرّج في ثوب  شعبيّ ، يبسط نفوذه على عقول الجماهير بالخطب الرّنّانة والإعلام المزيِّف للواقع والحاجِب للحقيقة ( القصّتان ” برقيّات تأييد ” ، ” وختم خطابه صاعقا : يحي : ر … ”   ) . وهو ما وفّر الأرضيّة الملائمة لانخرام نظام القيم  داخل المجتمع بتفشّي أدواء المحسوبيّة و الوصوليّة والانتهازيّة والنّزعات الجهويّة وتغليب المصالح الفرديّة و الفئويّة على المصلحة العامّة  والفساد الماليّ والإداريّ ( القصّتان   ” أ هارون الرّشيد أم جعفر البرمكيّ ؟ ”  ، ” أحياء يرزقون ”  ).

وعلى الصّعيد  الاجتماعيّ يتجسّد التخلّف في انتشار مظاهر البؤس والحرمان واضطرار الفئات المسحوقة إلى الشّحذ والتحيّل و” تدبير الرأس  ” من أجل ضمان البقاء  ” ( قصص ” أعرج مؤقّت ” ،  ” السّمكة تهتف يحي بو … يحي بو …”  مبادرات صاخبة ” … ) . وقد عُنِي المؤلّف في هذا المستوى،  على نحو  لافت ، بأوضاع المرأة  التي عرض لها في مواضع كثيرة  من قصص المجاميع الثلاث الأولى  ثمّ خصّص لها  المجموعة الرابعة برمتّها.

ولمّا كانت التّربية الصّحيحة  النّاهلة في آن واحد من علوم العصر ومعارفه  ومن عيون الإبداع الصّافية التي ينطوي عليها الجانب المشرق من التّراث من أنجع الوسائل في مقاومة التّخلّف  فقد استأثرت المدرسة  باهتمام الكاتب  في عدة قصص  صوّر فيها بأسلوب ساخر سَقاَمة مناهج التّدريس المُتّبعة وسلوك المُدَرِّسين المنافي لأبسط مبادئ البيداغوجيا . فهذا مؤدّب أخنُّ يحرّف الأصوات  فلا  يدرك الأطفال مقاصد ما ينطق به  ( قصّة  ” المؤدّب الأخنّ ” ) . وهذا أستاذ كسول لا يَمتحن تلاميذه إلاّ شفويا هروبا من مشقّة الإصلاح  ( قصّة  ” يش ..”  ) . وهذا متفقّد يزور معلّما في فصل الدّرس لتقويم أدائه في عمله فيحلّ محلّه في التّدريس ويلقي على الأطفال درسا في غاية التعقّد والتفلسف عن المفعول به  لا يدركون منه شيئا  بل تلتبس عليهم  دلالة هذا المصطلح: أهو الاسم المرفوع الدالّ على من يقوم بالفعل أم شخص تعرّض إلى مصيبة فنُقل إلى المستشفى  ؟  ( قصّة ”  المفعول به في المستشفى ”  ) ومن المفاجآت التي سرّتني شخصيّا في هذا السّياق  أنّي وجدت  في إحدى القصص إشارة إلى واقعة حدثت لي مع أحد معلّميّ   وأنا طفل وكنت قد رويتها لمحمّد رشاد الحمزاوي منذ عدّة سنوات . وهي أنّي ذات مرّة  في جواب عن سؤال توجّه به إليّ معلّمي  في درس  يتعلّق بمقولة العدد طابقتُ على وجه الخطإ  بين العدد والمعدود في  الجنس فقلت  : ثلاثة بنات وثلاث أولاد – وهو المنطقيّ من وجهة نظر طفل  . فما كان من معلّمي  – وكان صعب المراس – إلاّ أن انهال عليّ  ضربا بعصا زيتون إلى أن أغمي عليّ ونُقلت إلى  مصحّة المدرسة (  القصّة نفسها  ) . وهذا أستاذ جامعيّ  يحمل لقبا رنّانا يترأّس لجنة لمناقشة أطروحة فيخلط بين الكلمتين الفرنسيّتين المتباعدتي المعنيين  Sphinx و   Phénix  فيصحّح له المترشّح خطأه واضعا إياه أمام الحاضرين في مأزق  ” قصّة ”  بين     Fénix   و  Sphinx  ” . وهلمّ جرّا …

وفي هذا السّياق بالذّات لشخصيّة المؤلّف اللّغوية حضور قويّ لافت في أقاصيص هذه السلسلة . ويتجلّى ذلك في الكثير من  الطرائف النّحويّة والمعجميّة  التي ظاهرها هزليّ وباطنها جدّيّ كلّ الجدّيّة إذ الغاية من سَوْقها في هذه النّصوص القصصيّة هي رثاء حال اللّغة العربيّة اليوم لعجز أبنائها عن توحيد الوحدات المعجمية في لغتهم كما في قصّة ”  وكدنا نتّفق على ألاّ نتّفق  ”  التي يعرض فيها الكاتب  أمثلة من ظاهرة التّعدّد الاصطلاحيّ في لغة الضّاد  .

أمّا من جهة الصّياغة الفنّيّة فالأسلوب المتوخّى في هذه القصص يقوم أساسا على  المباغتة والفكاهة   . فالأولى تتحقّق  بتوظيف الشّخوص والأحداث المُفارِقة للمتداول  من حيث ملامحها الجسميّة أو هندامها  أو سلوكها  ، كالمؤدّب الأخنّ  (  قصّة ”  المؤدّب الأخنّ ” )  والشحّاذ الذي يتحيّل على النّاس بعَرَج كاذب ( قصّة  ”  مبادرات صاخبة ”   ) والمتّهم الذي يجيب عن أسئلة القاضي ثمّ محاميه نفسه  بحكاية صوت الخرفان والشّاء ” بَعْ ” (  قصّة ” بَعْ …بَعْ ” )  ورئيس البلديّة الغارق حتّى ذقنه في الفساد  لكنّه يفتعل الشّعبويّة فيترشّف مع شيخ متشرّد  ينام على قارعة الطّريق قهوة يتسلّمها منه  (  قصّة ” أهارون الرّشيد أم جعفر البَرْ مكيّ ؟ ”   ) .والمسؤول السّياسيّ الوصوليّ المقيم بالعاصمة  الذي يزور قرية فُوسانة الفقيرة  النائية ليدعو أهلها إلى منحهم صوته في الانتخابات لكنّه في يناديهم في خطابه ب ” يا أهل فُوشانة ” –  وهي قرية أخرى قريبة من العاصمة –   فينفضون من حوله ممتعضين ( قصّة ” أهل فوسانة !!  ” )  . والرّجل الفقير الحال الذي يجمع للمرّة الأولى في حياته ثمن سمكة لكنّ زوجته لم تجد إداما  ولا فحما لطبخها له  فيعيدها إلى البحر ( قصّة ” السمكة تهتف  … يحي بو … يحي بو …” )   . والزّوج الأبيض البَشَرة الذي تنجب له زوجته البيضاء البشرة مولودا أسود اللّون  ( قصّة ” العِرْق دَسّاس   ” ) .  والرّجل الذي لا يستقرّ في مهنة واحدة فيتحوّل من ” حَرَّاق ” ( مُهَرِّب للمسافرين خلسة إلى خارج البلاد عبر البحر ) إلى  بائع سمك إلى سائق سيارّة أجرة إلى تاجر تمور إلى مترجم ( قصة ”  قصّة ” مبادرات صاخبة ” )  . والمثقّف الذي يتردّد على حفلات الاستقبال التي تقيمها  السّفارات الأجنبيّة فيلتهم بلهفة شديدة  ما يُقدّم فيها  من مشروبات ومآكل  فيلقّبه السّارد ب ” لهفة الصّحون  ”  ( Pique-assiettes ) ( قصّة ” هل نزل الإنسان على سطح القمر ؟ ”  ” )  .

وأمّا الفكاهة فهي على ضربين : فكاهة بريئة وسخرية لاذعة : الأولى تجاه الفئات الشّعبيّة بجميع أصنافها . وهي تنطوي في الغالب على مزيج من المداعبة لها والامتعاض من الأوضاع المُزرية التي تتخبّط فيها نتيجة  إهمال ذوي التّاج والسّلطان  والأخرى من الأقلّيّة المحظوظة التي تنتصب في أعلى الهرم الاجتماعي إلى حيث وصلت بانتهاج الطّرق الملتوية .

لكنّ لهجة الرّاوي تتّسم أحيانا بالجدّية التّامّة لاسيّما في قصص المجموعة الرّابعة التي خصّصها للمرأة  حيث يغلب عليها التّعاطف الصّريح مع المرأة التّونسيّة إزاء ما تتعرّض إليه من  ميز وقهر،  من جرّاء استحكام العقليّة المتخلّفة  الموروثة من عهود الظّلام  ، مع الإشادة في وقت واحد بثباتها أمام المحن وكفاحها من أجل  حسن تنشئة الأطفال وتماسك العائلة وفرض الذات بالاجتهاد في الدراسة والارتقاء إلى أعلى مراتب العلم والمعرفة.

وختاما يمكن القول إنّ هذه القصص الوافرة العدد التي يعود بها محمّد رشاد الحمزاوي إلى  الوسط الأدبيّ بعد انقطاع استمرّ حوالي الستّ  عشرة سنة  تؤكّد أنّ مؤلّفها صاحب تجربة سرديّة ذات قسمات ثابتة لم تتغيّر منذ خطواته الأولى في نهاية الخمسيات وبداية السّتّينات  إلاّ من جهة عمق الرّؤية واتّساع المرامي والأبعاد المتأتّيين من تراكم التّجارب الفردية والجماعيّة  في حلبة الحياة .

ولعلّ أقوى انطباع يحصل للمطّلع على هذه القصص هو أنّ كتابتها نابعة من موقف حماسيّ مماثل للذي  حدا المؤلّف حين كتب أعماله السّردية الأولى بُعيد الاستقلال .

من هو محمد رشاد الحمزاوي؟

  ولد بتالة ـ القصرين في 12 مارس 1934.  درس بمعهد الدراسات العليا بتونس  ثم بجامعة السربون بباريس حيث أحرز على الإجازة في اللغة العربية  سنة 1960 ثم  على دكتوراه المرحلة الثالثة  ثم على دكتوراه الدولة سنة 1972 واصل الدراسة بجامعة ليدن بهولندا، حيث أحرز على شهائد في اللغات السامية (العبريّة والآرامية والسريانية)  . درّس  بالجامعة التونسية. و تحمّل مسؤوليات إداريّة عدة. عضو في  الكثير من المجامع والجمعيات العلمية. أحد مؤسسي جمعية المعجمية العربية بتونس وأول رئيس لها وأول مدير لمجلتها مجلة المعجمية. كتب الدراسة والقصة والرواية والمسرحية

له في القصة:

طرننو، تعيش وتربّي الريش، الدار التونسيّة للنشر 1975

– أجناس وجنوس  ،مركز النشر الجامعي ، تونس 2014

* في الرواية:

– بودودة مات، الشركة القوميّة للنشر والتوزيع. تونس 1962

-سفر وهذر… هارب من خطاب الصّدق، باريس، لارماتان 1998

 

 

 

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*