في مجموعة ثلج أبيض بضفيرة سوداء ( 1) للشّاعر العراقيّ صفاء ذياب الجسدُ في النّورويج والرّوحُ في العراق : محمّد صالح بن عمر

صفاء ذياب

545579_10150864075629527_476060283_n

 

 

لئن كانت هذه المجموعة الموسومة بثلج أبيض بضفيرة سوداء لصفاء ذياب – وهي الرّابعة في رصيده – تغطّي مرحلة قصيرة  من مسيرته الشّعريّة لا تتعدّى الثلاث سنوات  فإنّ التّجربة التي عاشها في هذه المرحلة ستبقى للباحثين والنّقّاد بمنزلة الفاصل المميّز   في صلب تلك المسيرة  . وذلك لجريانها في إطار مكانيّ وزمانيّ واجتماعيّ وعَقَديّ  وثقافيّ ولغويّ وحضاريّ  مختلف تمام الاختلاف  عن بيئة الشّاعر الأصليّة . وهو تحديدا النّورفيج .

وإذا سلّمنا بأنْ ليس للمحيط  الذي يمارس فيه المؤلّف نشاطه الأدبيّ وحياته الخاصّة جملة وتفصيلا  انعكاس آليّ فيما يكتب  ، خلافا لما قرّره  النّاقد الفرنسيّ  شارل أوقستان سانت بوف (  Charles Augustin SainteBeuve  1804 – 1869  ) وأتباعه  فقد بيّن التّداوليّون* أنّ من تلك المعطيات ما له أثر عميق في بناء الخطاب وصياغته ومحتواه الدّلاليّ  . وهو الذي  يؤلّف المقام أو ظروف التلّفظ  . ومعناه أنّ الدّارس  مطالب عمليّا  بغربلة  المعلومات الخارجيّة عن محيط المؤلّف وشخصه وعدم الاحتفاظ منها إلاّ بما هو مفيد حقّا . وما هذا بالمهمّة اليسيرة  لالتباس المفيد بنقيضه في أكثر الأحيان .

وإنّه لمن حسن حظّي أنّي واكبت جانبا مهمّا من هذه التّجربة المهجريّة التي عاشها الشّاعر في أقاصي الشّمال الأوربيّ  ، قادما إليها  مباشرة و لأوّل مرّة  من العراق  . وذلك بدءا من سنة 2010 التي أخذت  فيها  مقومّات تلك التّجربة  تتبلور في ذهنه وتمتزج بكيانه النّفسيّ . فكان كلّما فرغ من كتابة قصيدة بعث بها إليّ  على الفور فأعلّق عليها  على نحو موسّع كعادتي . ولو جمعتُ تعاليقي عن القصائد التي بعث بها إليّ ونسّقت بينها لتألّفَ منها مقال كامل . ومن ثمّة فما إن بلغني خبر صدور هذه المجموعة ببيروت حتّى تمثّلت جيّدا   معظم محتواها واستقام في ذهني مخطّط هذه الدّراسة  عنصرا عنصرا . ولو شئت لكتبتها  قبل أن تصلني المجموعة . لكنّ انضباطي لمقتضيات المنهج العلميّ أوجب عليّ انتظار وصولها  إليّ . فمن يدري  ؟ ربما أضاف الشّاعر إلى قصائده المهجريّة قصائد سواها أو تخلّى عن بعضها  . ولكنه لم يفعل  ، حرصا منه على أن تكون مجموعته هذه  متفرّدة بين أخواتها السابقة لها وأخواتها التي ستلحق بها .

لا تخرج هذه المجموعة من حيث بناها الدلاليّة العامّة عن الثّنائيّة المتداولة التي تنتظم غرض أدب الاغتراب قديما وحديثا في كلّ الثقافات . وهي ثنائيّة : العالم الأصليّ وعالم الاغتراب ، المدخل الأساس الضّروري الذي لا  مندوحة  للقارئ عن الولوج منه إلى  أيّ أثر ينتمي إلى هذا  الغرض،  شعريّا كان أو نثريّا . لكنّنا بعد اجتياز عتبة هذه  البوّابة  المشتركة  ، علينا أن نبحث – وهنا تكمن صعوبة المهمّة – عن المسلك المناسب الذي منه  يكون التطرّق إلى عالم الشّاعر الخصوصيّ . وقد اخترنا لهذا الغرض مفهومين – مفتاحين اقتبسنا أوّلهما من الفيلسوف الألماني أدمون هوسرل (Edmund Husserl  1869 – 1938) – وهو فكرة الطّابقين اللّذين يتكوّن منهما الوجود الإنسانيّ ( 2) – والآخر ثنائيّة الطيّة * و الطيّة المُعادة  * للفيلسوف الفرنسيّ  جيل دولوز ( Gilles Doleuze  1925 – 1995 ( 3 )  دون أن نطبّق هذين المفهومين تطبيقا حرفيّا ،  وفاء منّا لمنهجنا القائم على مبدإ اجتناب الإسقاط  أو على الأقل التّخفيف منه إلى أقصى حدّ ممكن باعتباره معضلة المعضلات في النقد الأدبيّ  عامّة لا العربيّ فحسب .

فكيف  تتبدّى لنا  ملامح  هذه التّجربة الشّعريّة  المهجريّة لصفاء ذياب في ضوء هذه المفاهيم الثّلاثة : العامّ والخاصّين ؟ وما هي قَسَماتُها الخاصّة دلاليّا وفنّيّا ؟

I – الملامح العامّة للمناخ  السّائد في مجموعة ثلج أبيض بضفيرة سوداء :

ثمّة معطيات عامّة لا  بدّ من سوقها في مستهلّ هذه القراءة قبل تلمّس قَسَمات العالم الشّعري الذي تحيل عليه مجموعة  ثلج أبيض بضفيرة سوداء ،  منها ما أثبته الشّاعر في ترجمته الذّاتيّة الواردة في آخر الكتاب ومنها ما هو مبثوث في بعض القصائد على هيئة إشارات متفرّقة .

فمن  المعلومات المفيدة  التي  أوردها صاحب المجموعة في ترجمته  تلك  أنّه : ” يقيم في النّورويج منذ العام 2009 بعد حصوله على صفة الكاتب الضّيف في مدينة شين جنوب أوسلو ”  (4 ) . ومعنى ذلك  أنّه لم يدخل النّورويج لاجئا سياسيّا ولا هاربا من الأوضاع الصّعبة التي تتخبّط فيها بلاده وإنّما نزل على هذا البلد ضيفا . وهذه الصّفة  صفة الضّيف أي المقيم المؤقّت غير الممنوع من  العودة إلى وطنه و إن لم تلغ الإحساس بالغربة فإنّها  مبدئيا تجعله أقلّ حدّة و يسير التحمّل .

لكنّ القراءة حتّى المتعجّلة في قصائد المجموعة تكشف فيها عن ارتباط عاطفيّ شديد لمنشئ الخطاب  بوطنه كارتباط الرّضيع بأمّه . وهو ما جعل  عمليّة ابتعاده عنه  أشبه ما يكون بصدمة الفطام . وهذا ما تجسّد في هيمنة العالم الأصليّ المطلقة على عالم الاغتراب والماضي على الحاضر . فالشّاعر  جسديّا في النّورويج وذهنيّا  ونفسيّا في العراق .

وهناك معطىً ثانٍ بالغ الأهمّية . وهو أنّ الطّابع المؤقّت لهذه التّجربة والإطار المخصوص الذي جرت فيه لا يوفّران المقامات الكافية التي تتيح للذّات الشّاعرة الإفصاح و إن لا شعوريّا عن مظاهر الاختلال الممكنة التي تعانيها . ولا وجود لكاتب أو شاعر أو فناّن حقيقيّ لا يعاني نوعا مّا من الاختلال . ولذلك يلوح الكيان الذّهنيّ والنّفسيّ للذّات المنشئة للخطاب في مستواه الأصليّ العميق سليما ، متوازنا  لكن مع ارتجاج عنيف  ، مقابل ذلك ،  في المستوى السطحيّ  تلوح أسبابه خارجيّة ، عرضيّة ،  طارئة ،  لا ولاديّة . وهذه الأسباب ،  حسب إشارات  صريحة كثيرة في قصائد المجموعة ،  ذاتُ قيمة تَرْجَذَاتيّة *، أبرزها أنّ الشّاعر  ككلّ أبناء جيله نشأ وترعرع في ظلّ  حروب وأزمات سياسيّة مدمّرة ( الحرب العراقيّة الإيرانيّة ثمّ حرب الخليج الثّانية  فالحصار ثمّ الاجتياح ثمّ المواجهات الدّمويّة بين أبناء الوطن الواحد  ) . وهناك سبب آخر مواز له  لا يقلّ عنه أهمّية   . وهو سلسلة من  النكبات أحلّها القدر بعائلة  الشّاعر . فزادت في تأزيم حالته النفسيّة وجعلت  رؤيته للحياة تشاؤميّة  ، حالكة  .

لكلّ هذا يتّسم  المناخ العامّ السّائد  في المجموعة بحضور مكثّف للأجواء العراقيّة المتفجّرة وطنيّا ومحليّا وعائليّا  . حتّى لكأنّ العراق برمتّه نُقِل إلى أرض النّورويج أو لكأنّ  أرض  النّورويح  قاعة سينما  مظلمة تتيح أضواء الشّريط المعروض على الشّاشة   فيها   إمكان رؤية  ما تحويه من أشياء وأشخاص لكن في  صور غبشيّة وبملامح غائمة .

فلنبدأ رحلتنا إذن  في ربوع هذا العالم المزدوج المركّب من طابقين :أسفلهما – وهو يوافق  البنى السّطحيّة  –  عالم  مادي محسوس . وهو  هنا عالم الاغتراب  المجهّز بنوافذ متناهية الصّغر   تدخل منها أضواء خافتة قادمة من الماضي أي من العالم الأصليّ  بحكم  أنّ الذّات الشّاعرة  إنّما تنشئ فيه خطابها  ، كاشفةً عن جراحها ، باثّةً  لواعجها  والعلويّ هو مستقرّ الرّوح بقسميها الذّهنيّ والنّفسيّ   . وليكن منطلقنا من الأوّل .

II  – الخلفيّات الذّهنيّة التفسيّة الكامنة وراء خطاب الذّات الشّاعرة :

  • 1- في الطّابق السفليّ :   اضطراب الذّات الشّاعرة وأزمة تموقعها  في الهنا-الآن :

إنّ العالم الذي وجدت الذّات الشّاعرة فيه نفسها ،  بعد مغادرتها لعالمها الأصليّ ، لا تربطها به  إلاّ رابطة الانتماء إلى الكرة الأرضيّة والجنس البشريّ . فالمناخ غير المناخ واللّغة غير اللّغة والثّقافة غير الثّقافة والعقيدة غير العقيدة . وهي فروق  من شأنها  أن  تحول دون أيّ  محاولة من محاولات التكّيف  حتّى مؤقّتا .  لكن لئن كانت القطيعة بينها وبين  العنصر البشريّ ثمّة  شبه تامّة فقد تراوحت   علاقتها بالمكان بين الانسجام والنّفور ، متّسمة على نحو غريب   بالاضطراب والتقلّب .

  • 1-1: القطيعة مع العنصر البشريّ المحلّي :

حسب ما  جاء في خطاب الذّات الشّاعرة وقف منها العنصر البشريّ المحليّ موقف تجاهل  و لامبالاة  يكادان يكونان تامّين  . وهو ما سجّلتْهُ بكل انزعاج  في قولها :

أمّا أنا …

فلا أكترثُ للمارّةِ ولا أصواتِ السّيّاراتِ

أو سعالِ رجلٍ عجوزٍ يمرّ بالقربِ منّي

وينهرُني بنِظرة خَجْلى

لا المرأةُ الجالسةُ على الرّصيف تعبأُ بي

ولا الشّرطيُّ الذي يدسُّ أنفَه في جيوبِ المارّةِ

كفأرٍ

( نفسه ص 31 )

والنتيجة الحتميّة لمثل هذا الموقف الذي هو أبعد من أن يكون فرديّا معزولا  – ولا يُدرى إن كان  من أجناس بعينها منها الجنس العربيّ أم من كلّ الأجانب  الذين يفدون على البلد –  هي  امّحاء الشّعور بالضّيافة لدى الزّائر وحلول الإحساس بالعزلة والغربة محلّه .

1 – 2 : بين الوفاق مع المكان والنّفور منه :

لقد اتّسم موقف الذّات الشّاعرة من المكان بالتّردّد والاضطراب . فأحيانا تبدو منسجمة معه إلى حدّ الوفاق الغنائيّ ، كما يظهر جليّا في قول الشّاعر،  متحدّثا عن الثّلج المتساقط في بلد إقامته :

يهطلُ كما ريشةٌ ترسمُ غاباتِ نخيلٍ على شاطئ دجلةَ

هائمًا كالملائكةِ

يهطلُ كرِيشِ بَجَعَةٍ تخلَعُ ثوبَها

( نفسه ص 47 )

بل يذهب إلى أبعد من ذلك حين يوحي إليه بياضُ الثّلج بنقاوة قلب الأمّ . فيقول :

كطفلٍ أفاقَ لتوّهِ  في فراشٍ وثيرٍ

ألعبُ بكُرَيّاتٍ بيضاءَ كأنّها قلبُ أمّي

( نفسه ص 48 )

ويقول :

ومثل مَلِكٍ أحبَّ أن يجعلَ العالمَ أبيضَ

كمثل قلبي أمّي أيضًا أكوِّرُ الثّلجَ

وأحملُه بيدينِ تبكيان ذاتَ ماضٍ ليس أليفًا

أبني قصْرا وأدعو كلَّ من أحببتُهم إلى مأدُبةٍ فاخرةٍ

من البياضات

( نفسه ص 48 )

وهذا الموقف طبيعيّ ، لأنّ الثّلج  في المِخيال الجماعيّ البشريّ و إن كان باردا  فإنّه يغسل الأرض من أدرانها و يهيّئها لكي تخصب وتزهر في الرّبيع  . و من ثمّة  فهو علامة على أنّ الحياة بصدد التأهّب للتفتّح والانتعاش ، كما  يرمز إلى الغطاء الرّهيف الذي يخفي وراءه  الفردُ بدافع من الحياء حرارة العواطف المشبوبة  في باطنه . ولونُه الأبيضُ  رمز نمطيّ أيضا للعذريّة وللنّقاوة من  الذّنوب  . و هو  السرّ في اختياره عند أكثر الشّعوب لونا مميّزا لفستان العروس .

لكن في سياقات أخرى ينقلب موقف الذاّت الشّاعرة من المكان نفسه إلى النقيض  . فتعلن استبشاعها له و القطيعة معه . وهذه الدّلالة الثّانية هي الأبرز في قصائد المجموعة  . ولا أدلّ على ذلك من الصّورة  المجازيّة التي أثبتها الشّاعر في العنوان لتوحي بالجوّ العامّ  السّائد في عالمه و التي ربط فيها البياض ، على نحو غير منتظر،  بنقيضه السّواد  . وفي ذلك إيحاء بأنّ الثلج في عالم اغترابه  و إن كان أبيض في ظاهره فإنّه  قاتم في جوهره .

ويتأكّد تغليب الشّاعر  هذه الرّؤية الاستهجانيّة للثّلج والبياض عند تفحّص مجموع القصائد ، إذ تتردّد على نحو عالٍ السياقات التي ترد فيها  حيث يوصف الأوّل  بالبرودة  و الذّوبان والتّلاشي  والآخر بانعدام اللّون . وهو ما يجعلهما متعارضين  مع طبيعة الذّات الشّاعرة  العربيّة الأصيلة  . وهي طبيعة ساخنة  ، موسومة  على نحو عميق بالحيويّة و الوضوح   . ألم يَعُدَّ العرب القدامى الفصاحة  – ومعناها الوضوح الشّديد – أهمّ صفة يتمّيزون بها عن الشّعوب الأخرى التي نعتوها ب”الأعجميّة ”  ؟

ومن أدقّ الصّور تعبيرا عن هذا التّعارض تشبّث الذّات الشّاعرة  بسماتها المميّزة وسط هذا العالم الشّديد البرودة ، الفاقد لأيّ لون حتّى إن أدّى الأمر إلى انعزالها وانفصالها عن محيطها الاجتماعيّ الجديد المؤقّت  . وذلك في قولها :

وكمَنْ يسرقُ القُبلاتِ من صورةٍ معلّقةٍ على جدارٍ يتآكلُ

وكمَنْ يبني بيتًا ويَلقمُهَ كلَّ أيّامِهِ التي ستمرُّ

أمشي وحيدًا فوقَ الثّلجِ

هكذا …

هل تصدّقونَ أنّي أمشي وحيدًا فوقَ الثّلجِ

وتحتَ الثّلجِ يتلفّعُ رأسي بكوفيّةٍ حمراءَ ؟

( نفسه ص 39 )

لذلك لا عجب إذا ذهبت في تصوير اشمئزازها من الثّلج  إلى حدّ وصفه بالعدُوّ  في قولها :

كم قلتُ في سرّي إنّ الثّلجَ عدُوٌّ

وكم قلتُ أيضا إنّني إن بَقِيتُ في هذه الغرفةِ التي بدأتْ

تتهاوى فوقَ ارتجافي

سوفَ أزدادُ ارتجافًا

وكم صرختُ وصرختُ وصرختُ

وما زلتُ أصرخُ و أصرخُ وأصرخُ

أصرخُ وأصرخُ

أصرخُ …

( نفسه ص ص 47 –  48 )

وقد يفسَّرُ هذا الاضطرابُ بالاستعداد التّلقائيّ الذي جاءت به إلى هذا العالم  الغريب لتتكيّف معه في أثناء الفترة المؤقّتة التي حُدِّدَتْ لإقامتها به ثمّ  بالصّدمة التي تلقتّها عند  اكتشافها اختلافَهُ  التّامّ عن عالمها الأصليّ . ومعناه أنْ ليس لها منه موقف مبدئيّ وإنّما  يتغيّرُ هذا الموقف بتغيّر الحالة النّفسيّة التي  تكون عليها . ومن الجائز أيضا أن يكون قد طرأ عليه تغيير  بعد اكتشاف الذّات الشّاعرة الحواجز النّفسيّة التي يقيمها أهل البلد بينهم وبين الأجانب .

ومهما يكن من أمر لا تؤلّف الإحالات على عالم الاغتراب في نصوص المجموعة إلاّ نسبة محدودة ، مقارنة بما تتضمّنه من إشارات إلى عالم  الشّاعر الأصليّ . وهو ما يقدّم انطباعا بأنّ الأوّل لا يتعدّى دوره الإسهام في تشكيل المَقام الذي كتب فيه  صاحب المجموعة قصائده . أمّا محتوى تلك القصائد فتطغى عليه أجواء ذلك العالم الأصليّ التي ينصهر فيها ماضي الذّات المنشية للخطاب ويؤلّف وإيّاها وحدة لا انفصام فيها .

وإذا رمنا صياغة هذه الأفكار وَفْقا لمفهومي هوسرل ودولوز اللّذين أشرنا إليهما  في ما سبق  قلنا إنّ عالم الاغتراب في هذه المجموعة  بمنزلة الطّابق السُّفليّ  من عالم الشّاعر ولا  تتعدّى وظيفته فيه توفير الإطار المكانيّ المحسوس الذي يعيد  فيه الشّاعر طي  طيّات روحه المملوءة أحزانا وأوجاعا الوافدة عليه من الطّابق العلويّ  أي الرّوح  ،  لاسيّما أنّ عزلته فيه لمن الدّوافع على التفرّغ لهموم الذّات والارتداد إلى ماضيها.

  • 2 –  في الطّابق العلويّ : أوجاع الذّات الشّاعرة المخزونة في طيّات الرّوح واستراتيجيّاتُها في التّخفيف من حدّتها :

إنّ الرّوح أو الكيان الذّهني والنّفسي للكائن البشريّ  ، حسب تصوّر سيقموند فرويد ( Sigmund   Freud  1856 – 1939) قد تمثلها هوسارل على هيئة طابق  علويّ  مجرّد ،  متنافذ مع الطّابق السفليّ – وهو الجسد –  بفتحاتٍ صغيرة جدّا هي الحواسّ الخمس. وقد توسّع جيل دولوز في تفصيل مكوّنات هذا الطّابق الفوقيّ وتدقيق محتوياته . فذهب إلى أنّه أشبه ما يكون بمتاهة  ،كثيرة الأركان والزوايا ،  يلفّها على نحو مستمرّ ظلام دامس وأنّه  يحتوي على طيّات كثيرة تختزن كلُّ طيّة منها إحساسا أو شعورا أو ذكرى أو  فكرة أو نزوة  أو عُقدة   ( 5) .

على أنّ طيّات روح الفنّان أو الكاتب أو الشّاعر  – و هل  الكاتب والشّاعر الحقيقيّان إلا فنّانان ؟  – تمتاز باختزانها إشراقاتٍ باهرةً ، لأّنه حين يفتحها أو تُفتَح دون إرادته تنبعث منها  ومضات  ذهنيّة أخّاذة . والسرّ في ذلك أنّه بفضل ملكاته الإبداعيّة الخارقة وخاصّة منها خياله الواسع الخصب وحساسيّته الجماليّة المرهفة يحوّل الألمَ والدّاء والشّعور السّلبي والفكرة القاتمة إلى وقْداتٍ ساحرة آسِرة .

فماذا  تحوي  طيّات روح الذّات الشّاعرة  حسب ما جاء في خطابها ؟

إنّ النّظر  المتمعّن في جميع السّياقات الواردة في قصائد المجموعة تعنُّ له ملحوظتان رئيستان : الأولى هي غلبة السّلبيّ المطلقة على الإيجابي ّ  –  وفي هذا إشارة إلى أنّ رؤية الذّات الشّاعرة لنفسها وللآخر والكون رؤية تشاؤميّة خالصة  – والأخرى  هي أنّ الأحاسيس والمشاعر والأفكار السّلبيّة التي تختزنها طيّات روحها طارئة لا متأصّلة بمعنى أنّها متأتّية من المحيط الخارجيّ لا ولاديّة والثالثة هي توازن الذّات وسلامتُها من  كلّ المركّبات النّفسيّة  و ضروب الاختلال الذُّهانيّ  الحادّة . ومثلما ألمحنا في بداية هذه القراءة ينبغي ألاّ نتسرّع في تبنّي أيّ  استنتاج في شأن هذا الجانب ،   لاحتمال أن تكون مقامات الكتابة  المخصوصة في هذه المجموعة لم تُتح للذّات الشّاعرة فرص الإفصاح عن كلّ ما يعتمل في صلبها .

2 – 1: الأوجاع :

 

2 – 1 – 1 : أوجاع الوطن :

إنّ الأوجاع التي تختزنها طيّات روح الذّات الشّاعرة  جماعيّة مشتركة لا فرديّة . وهي على ضربين : أوجاع يعاني منها الوطن بأسره وأخرى ذات طابع عائليّ .

أمّا أوجاع الوطن فهي متأتّية من الحروب الثّلاث التي توالت على العراق  في عقود الثلاثة الأخيرة  . وهي الحرب العراقيّة الإيرانيّة أو حرب الخليج الأولى  ( 1980 – 1988 ) وحرب الخليج الثّانية ( 1990- 1991 )  و حرب الخليج الثّالثة ( اندلعت سنة 2003  ) التي لا تزال تداعياتها متواصلة إلى اليوم . و قد  أودت  مجتمعة حسب  تقديرات المصادر الغربيّة المنشورة على الشّابكة ( الأنترنات )  بحياة أكثر من  ثلاثة ملايين عراقيّ . وإذا علمنا أنّ الشّاعر من مواليد سنة 1975 أدركنا أنّ أكثر من ثلاثين سنة من عمره قد قضّاها في ظلّ الحرب . ومن ثمّة فلا عجب في أن نجد صداها قويّا في شعره  ، لأنّ نفسيّته ككلّ أبناء جيله لا يمكن إلاّ أن تتأثّر على نحو عميق بأجوائها . وهو ما تلمسه في  تواتر الإشارات المرجعيّة إليها على الرّغم من قيام أسلوبه على الإيغال في الإيحاء وتوظيف المعاني الثّواني . وقد يفسّر ذلك بأنّ المعنى المرجعيّ إذا اقترن بواقع يتجاوز من حيث طبيعته ووقعه الخيال  اُكتُفِي به  دون المعنى المجازيّ  ما دام النّقل ، في هذه الحالة ،  يغني عن  التّمثيل والتّصوير .

ومن أمثلة  ذلك  هذا المقطع  الذي ينحو فيه الشّاعر  منحى  تجاهل العارف  :

أحقّا هذا وجهي ؟

…………………

لم تمرَّ عليه سوى ثلاثِ حروبٍ

 وحصارٍ وثلجٍ يتساقطُ

لماذا كلُّ هذه النّدوبِ ؟

ألم تدنُ منه سوى رشّاشتينِ وعددٍ من القنابلِ

اليدويّةِ

وأ لم تنفجرْ بالقرب من مفرشِهِ سوى خمسينَ سيّارةً مفخّخةً

ولم تُطِلْ عيناه النّظرَ بآلافِ الجُثثِ

فلماذا إذن النُّدوبُ ؟

( ثلج أبيض ص ص 21 – 22 )

وقوله  منتحيا أسلوب قلب المعنى* :

أنا الرّابحُ الوحيدُ في هذه الحروبِ

كلّما دخلتُ حربًا

خرجتُ منها مدجّجًا بالأراملِ

( نفسه ص 11 )

وقوله  مستخدما الأسلوب نفسه :

لديّ ملايينُ اليتامى

وأطرافٌ لا تُحصى

فتحتُ سوقًا لبيعِ الأيدي والأرجلِ والأصابعِ وفي خزانتي آلافُ الرؤوسِ

وعلى أطرافِ السّاحاتِ

يتجوّلُ رجالٌ يبحثونَ عن أطرافِهم الضّائعةِ

لقد سرقتْها الحربُ وأهدتْهم مِهَنا لا يُتقنُها أحدٌ

إنّها الحربُ

لم تتركْ مجالاً للعاطلينَ

( نفسه ص 13 )

وأسلوب قلب المعنى هذا يحتاج منّا هنا إلى وقفة ولو قصيرة لضيق المجال . فهو ينمّ عن موقف ساخر ومباغت  من هذه الحروب الثلاث المدمّرة . وذلك لأنّ الحرب بإجماع علماء النّفس وتحليل النّفس والطبّ العقليّ تُحدِث ارتجاجا نفسيّا عنيفا في كلّ من عاشها . وأعراضً هذا الارتجاج المتداولة هي : الحُصار* وسرعة الانفعال والأرق والتهيُّج * والضّغط الحادّ والوَجْس المقترن بالعدميّة * واللاّمعني*  ( 6). وذلك لأنّ حدث الحرب يضع الفرد المهدَّد مباشرة وجها لوجه  على نحو عنيف مباغت مع الموت الحقيقيّ  الذي يمكن أن يتعرّض إليه في الحين  لا الموت  النّظريّ الذي تنظر إليه الذّات على أنّه  مؤجّل  ولا يصيب ، في تقديرها  ،  إلاّ  الآخرين .

فبدلا من أن يجد  القارئ في خطاب الذّات الشّاعرة  آثار هذه الحالات كلّها أو بعضها  يحيّره غيابها أو يكاد . والسرّ في ذلك أنّ النّوائب  إذا  جاوزت الحدّ في تواليها على الذّات البشريّة  ضعف  مع طول المدّة تأثيرها فيها  ، لتعوّدها عليها وتكّيفها معها ،  فضلا عن اكتسابها التّجربة من مِراسها  و عن استخلاصها الدّروس منها . وأهمّها دروس الصّلابة والثّبات والجَلَد .

يقول الشّاعر في هذا المعنى :

رأيتُ الرّيحَ تجرحُها الحربُ

فتنزفُ الرّصاصَ والصّرخةَ الجامدة

رأيتُ الأشجارَ تختبئُ خلفَ الأطفالِ

والأطفالَ يتّكئونَ على ضِلعٍ من التبرّمِ والنّدمِ

رأيتُ الأمّهاتِ يمزّقنَ الحُنُوَّ

ويهربنَ حيثُ نامَ الأبُ في هجيرهِ اليوميِّ

رأيتُ رأيتُ رأيتُ

إلاّ أنّي بَقِيتُ واقفًا كرمحٍ

يدخلُ في فلبٍ ويخرجُ من روحٍ

ولا يهدأُ

( ثلج أبيض ص 27 )

2-1-2 : أوجاع الأسرة :

إذا كانت الحرب تخضع لعوامل موضوعيّة فإنّ النكبات التي تَحُلُّ بأسرة من الأسر يختلط فيها الموضوعيّ بالقَدَريّ . وهذا ما ينطبق على أسرة الشّاعر التي لم تكفها أتعاب الحروب الثلاث المتتالية  بل شاء القدر أن يُضَرِّسها بنابه دون شفقة ولا رحمة . وفي المجموعة إشارات متفرّقة إلى ما ساقه إليها من نكبات .  فالشاّعر سابع إخوته  وقد توفّيت منهم ثلاث أخوات.

يقول  في ذلك :

كانوا ستّةً وأنا سابعُهم

هذا عندما افترشْنا سطحَ بيتِنا ذاتَ ليلٍ وتدفّأنا بالقمر ِ

ثمَ ماتَ القمرُ

……………..

مرّتْ شموسٌ وأقمارٌ على سطحِ بيتِنا

أخواتي بدأنَ بالنُّقصانِ

واحدة

فواحدة

فثالثة

وبَقِينا نحن نشرئبُّ كما حُبَيْباتِ المطرِ فوقَ السّطوحِ

فيما يتزاحمُ إخوتي على الغيابِ

غبتُ أنا

( نفسه ص 60-61 )

أمّا أبوه فقد  توفّي  – وهو في الرّابعة من عمره   –  ثم  ما لبثت أمّه أن التحقت به :

يقول  منتحيا أسلوب قلب المعنى كعادته في معظم الأحيان :

لأنّي ومذ حاولتُ اجتيازَ الرّابعةِ منحني اللهُ نعمةَ اليُتْم فلم

أبكِ حتّى الآنَ

هذا ما شغلَ أمّي وقتَها وسألت كلَّ نساءِ الحيِّ كيف تُمِيلُ

اللّثام عن دموعي

إلاّ أنّها ماتتْ

وما زالتْ دموعي تحتَ اللّثامِ

( نفسه ص 57 )

هذه المصائب وما تسبّبت فيه للذّات الشّاعرة من آلام  قد وسمت رؤيتها للحياة والمصير  بسِمة تشاؤميّة ،  قاتمة  ، ثابتة  جعلتها ترتقي من مجرّد الإحساس بالألم  إلى التّفلسف بعمق في أسرار الوجود وخاصّة لغز الزّمن أو الدّهر وبوجه أخصّ إشكاليّة الصّيرورة لانفلاتها التّام من إرادة الإنسان وتحكّمها في مصيره . وهو ما يجعله كالريشة في مهبّ الرّياح لا يدري ما سيحدث له بعد لحظات .

وممّا جاء في هذا المعنى قول الشّاعر  :

لن أضمنَ نفسي بعد دقيقتينِ

أتغيّرُ بالثانية

والعالمُ أيضًا

والتّاريخُ تغيّره  هفوةٌ من رجلٍ أو امرأةٍ  تجلسُ على حافةٍ في

 مكان مّا

وترمي قشورَ الكَرزِ خارجَ الكونِ

( نفسه ص 67 )

كلّ هذا أضفى على  مُناخ قصائد المجموعة طابعا مأسوياّ عميقا تتبدّى فيه  الذّات المنشئة للخطاب في قطيعة تامّة مع الكون . واللاّفت هنا أنّ الأوجاع التي تعانيها  و إن كانت صادرة عن عدوان خارجيّ أو بلغة أدقّ عن خَلْع عنيف لكيانها الذّهنيّ والنّفسيّ فقد أضحت  جزءا لا يتجزّأ من هذا الكيان . وهو ما يفسّر  حضورها القويّ في هذه المجموعة على الرّغم من أنّها كُتبتْ بعيدا عن  العالم الأصلي وفي محيط يختلف عنه كلّ الاختلاف .

2 – 2 : إستراتيجيات التّخفيف :

لقد أشرنا في ما سبق إلى أنّنا لم نعثر في خطاب الذاّت الشّاعرة على  آثار ولو طفيفة  لحالات عُصابيّة أو ذُهانيّة . ولكنّنا لم ننف إمكان وجود مثل هذه الحالات لكنّ المقامات   المخصوصة التي كُتبت فيها قصائد المجموعة قد لا تكون وفّرت  لها فرصة الإفصاح عنها . وهو ما يوجب الرّجوع إلى قصائد الشّاعر السّابقة  وانتظار اللاّحقة .

ولعلّ الدّليل على أنّ احترازنا في محلّه هو أنّنا نجد أنفسنا إزاء سعي لافت من لدن الذّات الشّاعرة إلى التّعويض النّفسيّ . والتّعويض لا يُدفع إليه المرءُ  إلاّ في حال تعرّض الذّات  إلى أزمة حادّة لم تقدر على تحمّلها . ومن ثمّة ينبغي ألاّ نأخذ  تغنّيها بصلابتها وقوّتها وجَلَدها التي اكتسبتها من الحرب على أنّها مطابقة تماما للواقع .

هذا التّعويض على ثلاثة أضرب رئيسة هي  : الحنين إلى الأمّ ، الحنين إلى الأب ، الاستلذاذ  اللّغويّ بإنشاء القول الشّعريّ .

 2 -2 -1: المنحى التّعويضيّ الأول : الحنين إلى أحضان الأمّ :

تُجسّد الأمُّ في اللاّوعي الجماعيّ رمزا من رموز القوّة والعظمة . ولعلّها  ، لهذا السّبب ،  تقترن بدلالات ايجابيّة وأخرى سلبيّة . فالايجابيّة ثلاث رئيسة هي أنّها مصدر من مصادر الحياة كالماء والشّجرة وأنّ رحمها مأوًى آمن ، هادئ  ، مريح وأنها تأخذ بيد الطّفل وتهيّئه لاكتساب القدرة على مواجهة صعاب الحياة ،  إلى أن  يستقلّ بنفسه . لكنّ كثيرا من الأمّهات لا يَعِينَ أهمّية هذا الدّور فيقصّرن في أدائه . وهو ما يجعل  حديث معظم المرضى النّفسيّين عن  أمّهاتهم في أثناء الاختبارات التي تجرى عليهم  يشي بوجود علاقات متأزّمة معهنّ (7) . ومن أشهر الأمثلة لذلك قي تاريخ الأدب أمّ الرّوائيّ الفرنسيّ هونوري دي بلزاك (Honoré de Balzac  1799 – 1850 التي تخلّصت منه ،  منذ طفولته الباكرة  ، بإيداعه أوّلا  لدى مربّية في الرّيف  لمدة ثلاث سنوات ثم في مبيت لا يغادره حتّى في عطلة الصيّف.  وقد قال فيها قوله الشهير ” لم تكن لي أمّ ولا طفولة “.( 8 ). و كذلك أمّ  الشّاعر شارل  بودلار  ( Charles Baudelaire   1821 – 1867) التي تزوّجت  رجلا آخر  بضعة أشهر بعد وفاة والده .  فظلّ الأوّل ناقما عليها وعلى النّساء طيلة حياته ومال الثاني إلى استهلاك المخدّرات والتّبذير إلى أن أتلف الثّروة التي ورثها و قضّى بقيّة حياته فقيرا  ، مُعْدِما ،  مطاردا من الدّائنين  (9) .

لكنّنا في هذه المجموعة لا  تطالعنا إلاّ صورة ناصعة ،  مشرقة لأمّ  مناضلة ،  متفانية في السّهر على راحة أطفالها ،  متحمّلة ،  في سبيل ذلك  ، كلّ  أتعاب الدّنيا   ، مضحّية حتى بنفسها من أجلهم . وهو ما يشي بحنين لا واع ،  قويّ لدى الذّات الشّاعرة إلى رحم  هذه الأمّ الاستثنائيّة ، للاحتماء فيه من عدوانيّة الواقع الأليم الذي  لا ينفك يدميها  بأشواكه المسمومة .

وممّا قاله الشّاعر في أمّه  :

أمّي التي راحتْ تتهجّى الغيابَ من دونِ أن تتعلّمَ القراءةَ

والكتابةَ

كانت تحنّطُ اللعناتِ كلَّ يومٍ

كلَّ يومٍ كانت تسبحُ في شاطئِ السّوادِ وتغتسلُ غسلَ جنابةٍ لم تأتِ

أمّي أخطأتْ ذاتَ مرّةٍ فولدتْنا

ما ذنبُها أنّها رمتْ تحتَ قدميّ جثّةً باردةً

بدأتْ تأكلُ من أضلاعِها ضِلْعا ضِلْعا

حتّى سقطوا سبعةً يتزاحمونَ حولَ البقايا

نحن الذين أكلناها

جزءًا جزءًا

وبَقِينا نُمَصْمصً في عظمِ الكتفينِ

حتّى انخلعا

لماذا لم أعدْ أبكي حتّى الآنَ ؟

( ثلج أبيض ص نفسه ص 57 – 58  )

الرّياحُ غالبًا ما تسهو على سطحِ بيتِنا القديمِ

فتثيرُ زوبعةً من الأسّرةِ  الأفرشةِ الناّئمةِ منذ كمْ من السّنينَ

فيما تحاولُ أمّي أن تجعلَ سريري نظيفًا دائمًا

تترجّل من معطفٍ كان لي منذُ عشرينَ عامًا امرأةٌ برائحةِ

 البرتقالِ وبيدينِ ترتجفانِ بعد أن فاضتْ على أناملِها حكاياتٌ آسنةٌ

تسعى في ظلٍّ كان واجمًا

لتنشرَ القبلاتِ التي ضاقتْ بها شفتاها

القبلاتِ التي لم تزلْ تلسعُ الشّفاهَ واللّسانَ

وبعضّةٍ من فمِ هذي البلادِ

تتسوّرُ الظلَّ

وتطيرُ تطيرُ تطيرُ

( نفسه ص ص 34- 35 )

2 – 2 -2 : الحنين إلى جناح  الأب :

يعدّ الأب أيضا من الرّموز النّمطيّة المشتركة بين كلّ الثّقافات . وهو  مثلُ الأم يقترن بدلالات إيجابيّة وأخرى سلبيّة . فالايجابيّة تربطه برمز الشّمس التي توحي بالرّفعة والإشعاع ، لأنّه إنمّا يقود ابنه نحو الأرض الموعودة –  وهي الكهولة التي يكون فيها اعتماده الكلّيّ على نفسه ، مضيئا له الطّريق ، كاشفا  أمام ناظريه ما يحفّ بها من مزالق وما يغشّي أديمها من عُثار و يتناثر فوقه من أشواك (10) . أمّا السّلبيّة فأبرزها الهيمنة والمنع والعقاب ،  تلك التي ينشأ عنها ما سمّاه فرويد عقدة أوديب * (11)

في هذه المجموعة لا تعترض القارئ إلا صورة مشرقة للأب  . فهو كيان روحيّ وعاطفيّ قويّ  يجسّد التواصل بين الماضي والحاضر والمستقبل ويُشيع من حوله  الطّمأنينة والدفء . لذلك كان رحيله شديد الوقع على نفوس الأبناء ،  لا يحتمل .

يقول الشّاعر :

 بشاربٍ يُتِرَ طرفاه

كان يصنعُ الأمنياتِ بهدوءٍ قاتلٍ ويجني ممّا صنعتْ يداه طفلاً

إثرَ آخرَ من دونِ أن يشطّبَ على ماضٍ يتأوّهُ وقادمٍ تائهٍ بين أقدامِهِ

ثم ّحملَ حقائبَهُ وولَى هاربًا

(  ثلج أبيض نفسه ص 55 )

ويقول :

كنّا نمسكُ بجلبابِهِ الطّويلِ وعباءتِهِ التي تلصفُ بخيوطِ الذّهبِ

وعقالِهِ الذي كان ينوي تركَهُ إرثًا  لنا

وكنّا نلمّ خطاياه ونصلّي

دائمًا نصلّي صلاةَ الغيابِ

ذاك أبي ضمّنا تحتَ عباءتِهِ كاليَرَقاتِ

ثمّ اندثرَ

( نفسه ص 56 )

وهنا أيضا تلفتنا سلامة الذّات الشّاعرة من أيّ عقد تجاه الأب .

2 -2 – 3 : الاستلذاذُ بالإنشاءِ الشّعريّ :

يمتاز الشّعر على النّثر بجانبه الجماليّ الماثل في الإيقاع والصّورة والإيحاء . وهو ما يجعله مصدرا للمتعة اللّغويّة سواء للمتلقّي أو للباثّ . ولعلّ  ما يفترقان فيه هو أن الأول يجني المتعة فحسب ، على حين  يتعذّب الآخر ويتمتّع في آن واحد .

على أنّ الحاجة إلى الاستلذاذ  تزداد قوّة  وإلحاحا  كلّما تأزّم وضع القائل . وهو ما يدفعه إلى بذل أقصى الجهد في البحث عن العدول المدهش ،  المحقّق للّذة المنشودة . وهذا ما ينطبق على الذات الشّاعرة في هذه المجموعة التي تمتاز القصائد المودعة فيها بكثافة الصّور المباغتة والمعاني الحافّة والمعاني الثّواني . والأمثلة كثيرة لا تكاد تحصى منها ما استشهدنا به في هذا الفصل من بدايته .

لكن تجدر الملاحظة هنا أنّ هذه الظّاهرة  لا ترتبط بمقامات تصوير الغربة والوحدة وحدهما وإنّما تنسحب على كلّ مقامات القول . وللمهجة الفنّية الثّانية عند الشّاعر – وهي مهجة المصوّر الفوتوغرافيّ –  دون شكّ  دخل  مهمّ في ذلك .

فمن الصّنف الأوّل قول الشّاعر :

لكنّ اليدَ

ما زالتْ ترسمُ ليلاً أوسعَ

وهناكَ

تحتَ سريرِ الوحدةِ

يولدُ وقتً …

ما بين اللّيلِِ وبيني بابٌ  يُطرقُ

وريحٌ تائهةٌ

ووقتٌ ينهارُ …

( نفسه ص 23 )

لا ظلَّ لي  على هذهِ الأرضِ

فالشّمسُ وارفةٌ جدًا

في الغيابِِ …

فيما تتكاثرُ البياضاتُ

تفترشُ الشّمسُ سجّادتُها

وتذوبُ

تذوبُ

بين الأصابعِ …

( نفسه ص 40  )

ومن الصّنف الآخر قوله :

كمَنْ يُمَشِّطُ أشجارَ غابةٍ تائهةٍ بأصابعه

ينهضُ النّهرُ فوقَ صحارى شاسعةٍ من اللّيلِ

وهناكَ

على مدى نظرةٍ واحدةٍ

واحدةٍ لا أكثرَ

تتمايلُ شمسّ

وينهارُ غَسَقٌ …

( نفسه ص 73 )

 

خاتمة :

لعلّ أهمّ ما يرسخ في الذّهن بعد هذه القراءة السّريعة في قصائد مجموعة ثلج أبيض بضفيرة سوداء لصفاء ذياب  هو أنّها و إن كُتبت  بعيدا عن أرض الوطن وفي مناخ  طبيعيّ ، اجتماعيّ ،  ثقافيّ ،  حضاريّ  ، مختلف تماما عن مناخه ، إلى حدّ استحالة التكيّف معه  فهي تتنزّل  على نحو شبه تامّ في أجواء المحيط الأصليّ . وذلك على الرّغم من أنّ الذّكريات التي تربط الشّاعر  بذلك العالم تنزّ آلاما ومواجع . وهكذا  فالجسد في النُّورويج والرّوح في العراق . وهو ما جعل عالم الاغتراب  شعريّا مُختزَلا في إطار مقاميّ للكتابة ليس غير .

ولئن كانت هذه النّزعة الارتداديّة قاسما مشتركا بين الأدباء الذين عانوا النّفي والغربة قديما وحديثا مثل ابن زيدون (ت 463 ه  ) و الحُصَريّ  القيرواني (ت 488 ه )  وابن حمديس الصِّقلّي ( ت 527 ه )  ووفيكتور هيقو ( 1802 – 1885 )  وأحمد شوقي ( 1868 – 1932 )  وسعدي يوسف  ( ولد سنة 1934 )  فما يفترق الشّاعر  فيه عنهم هو نبرتُه السّاخرة ورؤيتُه الحكيمة لوضعه واعتدادهُ بصلابته النّفسيّة وبتماسكِه وقوّة شكيمته . وهو ما  أسهم في تقديم صورة له  متوازنة  ، خالية من أيّ مركّب حادّ  مهما كان . فهل هذه الصورة مطابقة للحقيقة  ؟ أم هل ظروف التلفّظ الخاصّة التي كُتبت فيها قصائد المجموعة حكمت بإخفاء جزء من هذه الحقيقة ؟

للتثبّت من ذلك ينبغي تفحّص مجاميع الشّاعر السابقة . وهو ما قد نقوم به في مناسبات لاحقة .

 

 

هوامش :

  • 1- ذياب ( صفاء ) ، ثلج أبيض بضفيرة سوداء ، الدّار العربيّة للعلوم – النّاشرون ، بيروت  2012
  • 2 – Doleuze (Gilles ) , Le pli – Leibniz et le Baroque, Collection « Critique », Ed. Minuit Paris 1988 pp 41 -42
  • 3- يقول دولوز في هذا الصّدد : ” طيّات الروح تشبه ما أعيد طيُّه داخل المّادة ومن ثمّة توجِّهُهُ “

( Les plis dans l’âme ressemblent aux replis de la matière, et par là les dirigent.)

المصدر نفسه ص 132

  • 4- ذياب ( صفاء ) ، ثلج أبيض بضفيرة سوداء ص 82
  • 5- لمزيد من التوسّع انظر:

Doleuze (Gilles ) , Le pli  – Leibniz et le Baroque p 162

  • 6- هناك دراسات نفسيّة كثيرة جدّا عن الارتجاج النّفسيّ المتولّد عن الحرب . أنظر مثلا ما نشرته هاتان المجلّتان الألكترونيتان في هذا الموضوع :
  • Journal of Traumatic Stress (Etats-Unis)

http://www.springerlink.com/content/1573-6598

  • Revue Francophone d’Etude du Stress et du Trauma (Paris)

http://www.jidv.com/stressettrauma.htm

وللمزيد من التوسّع انظر :

http://www.jidv.com/presentation.htm

  • Daco ( Pierre ) , Les triomphes de la psychanalyse  , Bibliothèque  Marabout , , Ed. Gérard et c V, Belgique 1968 pp 310-314   –  7
  • André Maurois (André ) , Prométhée ou La vie de Balzac, p 17 –  8 –
  • Histoire de la littérature française ( Collectif ), Bordas , Paris pp478-479 – 9
  • Daco ( Pierre ) , Les triomphes de la psychanalyse pp 306-310  – 10 –
  • Freud ( Sigmund ) , Cinq leçons de psychanalyse, Éditions Payot, 1965 pp 30 -36 –  11 –

مصطلحات :

*التّلفّظ (Enonciation  )

*التداوليّة ( La pragmatique  )

*طيّة ( Pli )

*طيّة  مُعادة  (Repli  )

*ترْجَذَاتيّ ( Autobiographique )

*قلبُ معنًى (Antiphrase  )

*حُصَار ( Anxiété )

*تهيُّج ( Irritabilité )

*وَجْس (Angoisse  )

*عَدَمِيّة (Néantisation )

*لامعنى ( Non-sens )

*عقدة أوديب (Complexe d’Œdipe  )

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*