المخيال النّباتيّ * عند الشّاعر التّونسيّ عبد الفتّاح بن حمّودة في مجموعته “الفراشات ليلا” (1) – قرءاة: محمّد صالح بن عمر

824837589555bb19dba6b1136651170

الشّاعر التّونسيّ عبد الفتّاح بن حمّودة

5pcs-novelty-glowing-font-b-butterfly-b-font-font-b-night-b-font-lamp-led-bottom

 

ا

إن العالم النّباتي عالم متشابك ، كثير الأجناس ، جَمُّ الأسرار، يضمّ مئات الآلاف من أنواع الأشجار والزّهور والحشائش، النّافعة منها والطُفيليّة .
ولمّا كان الكائن البشريّ قد قضّى قبل أن يتحضّر ، في السبعة آلف سنة الأخيرة ، آلافا من السّنين بين أحضان الطّبيعة فقد أسهم ذلك العالم النّباتيّ ، دون أدنى شكّ ، في تشكيل كيانه النّفسيّ وتغذية خياله لاحتكاكه به على نحو يوميّ متّصل . وهو ما جعله مستمرّ الحضور في لاوعيه الجماعيّ والفرديّ على هيئة رموز نمطيّة * تطفو من حين إلى آخر على سطح وعيه أو خطابه أو تتراءى له في الحلم .
ولقد أدى وجود هذه العلاقة الوثيقة المُوغلة في القدم بين الإنسان والعالم النّباتيّ إلى انشغال الأديان ثم الأدباء والفنّانين التّشكيليّين به قبل أن ينكبّ عليه في العصر الحديث علماء تحليل النّفس* و المتخصّصون في فن التّأويل* .
ومن ثمّة فلا عجب في أن نجد لدى كتاب سرديّين وشعراء ورسّامين و نحاّتين مَخَايِيل نباتيّة خالصة أو غالبة . ومن هؤلاء الشّاعر التّونسيّ عبد الفتّاح بن حمّودة الذي يتبيّن القارئ حتى المتعجّل لشعره الحضور المكثّف للنّبات فيه . وهو ما نلمسه ، على سبيل المثال ، في مجموعته الموسومة بالفراشات ليلا ( 2003 ) التي اخترنا التوقّف عندها في هذه القراءة المتواضعة .
فكيف يلوح لنا العالم النّباتيّ في شعره ؟ وما هي دلالاته الظّاهرة والباطنة ؟ وما أثره في المستوى الإنشائيّ لنصوصه ؟
I- مبادئ منهجيّة أوّليّة لا غنى عنها :
لقد بدأ المبحث الرّمزيّ منذ بضع سنوات يحتلّ مكانا لافتا في الدّراسات الأكاديميّة والنّقديّة العربيّة . لكنّ المطّلع على جلّ هذه الدّراسات يلاحظ وقوع أصحابها في خطإ منهجيّ فادح . وهو تحويل التّأويل الذي عليه مدار المذهب التّأويليّ إلى مجرّد شرح لا يختلف من حيث الجهد المبذول فيه عن التّفسير اللّغويّ الذي يمارسه شُرّاح الأدب التّقليديّون والمدرسيّون باعتماد القواميس التّراثيّة أوالحديثة ، إذ حلّت لدى أولئك الدّارسين والنّقاد محلّ هذه القواميس قواميسُ الرّموز الوافدة من الغرب ( 2 ) . لكن إذا كانت المعاني التي حُدّدت فيها للرّموز في تلك المصنّفات السّيميائيّة ثمارَ جهود تأويليّة حقيقيّة بذلها مؤلفّوها فإنّ الباحث أو النّاقد العربيّ حين يكتفي بنقلها لفكّ دلالات الرّموز التي تعترضه في النّصوص العربيّة إنّما يمارس الشّرح لا التّأويل ، خلافا لما يعلنه عن طبيعة بحثه . وفي ذلك تضارب صارخ مع لبّ المنهج التّأويليّ ، فضلا عن كون التّآويل التي يتبنّاها على أنّها تعيّن حقائق ثابتة ليست ، في كثير من الأحيان ، سوى فرضيّات قابلة للنقاش . و هل من حقائق ثابتة في العلوم الإنسانيّة ؟
صحيح أنّ من الرّموز ما هو نمطيّ ذو دلالة كونيّة . لكنّ الرّمز ، مع ذلك ، كثيرا ما يكتسب معنى خاصاّ عند هذا الفرد أو ذاك . و هو ما جعل ك.ج يونقCarl Gustav Jung ) 1875 – 1961 ) يقول : ” لم أنفكّ أقول لتلامذتي : ” أحيطوا بأكثر ما يمكن من المعلومات عن التّرميز . ثمّ حين تقبلون على تفكيك حُلْمٍ من الأحلام انسوا كلّ ما تعلّمتم ” (3 ) ، كما يقول : ” مثلما أنّ من الأهمّية العلاجيّة بمكان لمحلّل مّا أن يدرك الدّلالة الخاصّة لحلم من الأحلام فلا مندوحة له عن استكشاف محتواه بأكثر ما يمكن من الدّقّة ” (4) .
و بالإضافة إلى ذلك فإنّه لمن المجازفة اعتبار النّصّ الشّعريّ حُلما خالصا ثمّ الانهماك طبقا لهذا الاعتقاد في تفكيكه على أنّ كلّ ما فيه رموز لا واعية . فجانب الوعي في إنشائه ثابت لا ريب فيه . ولا أدلّ على هذا من أنّ صاحبه لا يدفع به إلى المطبعة إلا بعد مراجعته تهذيبا وتشذيبا حتّى يستجيب لشروط الصّحّة اللّغويّة والتّماسك البنيويّ العامّ والجماليّة الفنّيّة .
بهذه المُهجة التّنسيبيّة وبهذا الحذر الشّديد نقبل على النّظر في طبيعة العالم النّباتيّ ودلالاته الرّمزيّة في شعر عبد الفتّاح بن حمّودة، مُؤثرين الاستئناسَ على الإسقاطِ ومستعينين في فهم نصوصه بما نعرفه عن شخص الشّاعر و خصائص المرحلة التّاريخيّة التي ظهر فيها صوته وتشكلّت ملامح تجربته ، إذ عهد إعلان رولان بارط ( Roland Barthes 1915 – 1980 ) الشّهير عن ” موت المؤلّف “* قد ذهب بلا رجعة وإن كنّا لا نزعم ما زعمه سانت بوف ( Charles Augustin Sainte Beuve 1804 – 1869 ) وأتباعه من أنّ حياة المؤلّف والظّروف التي حفّت بها تنعكس انعكاسا آليّا في آثاره . بل إنّ منها ما هو مفيد ومنها ما هو غير مفيد . وهو ما يقتضي من لدن الناّقد غربلة وانتقاء دقيقين .
ولها السّبب فمن المفيد جدّا أن نعرف أنّ تاريخ صدور هذه المجموعة الموسومة بالفراشات ليلا ( 2003 ) – وهي زمنياّ السّادسة في رصيد صاحبها – قريب جدّا من عشريّة التّسعينات التي برز فيها صوت الشّاعر لأول مرّة محلّيا وعربيّا بعد أن صدرت له على الرّغم من صغر سنّه مجموعة بتونس و طرابلس ليبيا وأخرى بالجزائر وثالثة بالدّوحة (5 ) . بل لعلّها كُتبت كلّها أو جلّها فيها أو بعد انقضائها بقليل ، إذا اعتبرنا أنّ عمليّة نشر المجاميع الشّعريّة غالبا مّا تتحقّق بعد مرور فترة غير قصيرة من كتابة القصائد التي تودع فيها . ومن ثمّة فإنّ موقعها الزّمني يجعلها ، في تقديرنا ، تقدّم صورة أقرب ما يكون إلى الأمانة لتجربة مؤلّفها في تلك العشريّة التي برز فيها صوته ونُسب إلى تياّر اُستُمِدّتْ منها تسميته .
و إلى جانب معرفة الظروف التي ظهرت فيها مجموعة الفراشات ليلا من المفيد جدّا أن تكون للقارئ فكرة ولو إجماليّة عن شخصيّة الشّاعر ومواقفه في الساّحة الثّقافيّة لاستحالة الفصل بينها وبين تجربته الشّعريّة .
I – عبد الفتّاح بن حمّودة شاعرا صداميّا صُلبا مؤمنا بتفوّقه الإبداعيّ :
ينتمي عبد الفتّاح بن حمّودة تاريخيّا إلى الدّفعة الثّانية من الشّعراء التّسعينيّين ، بعد دفعة المؤسّسين التي تألفّت من الثّنائيّ محمّد الهادي الجزيري وشمس الدّين العوني ، ذيّنك اللّذين ربطتهما أشعارُهما لا سنُّهما بهذا التيّار، لأنهّما عُمُرِيّا من جيل الثّمانينات الذي لم يكن جيلا أدبيّا حقيقيّا لعدم ظهور تيّارات أدبيّة جديدة فيه ، سواء في الشّعر أو في السّرد . لكنّهما برزا في بحر عشريّة التّسعينات حين لفتا الانتباه بلون من الكتابة مُستحدث قطعا فيه كلّ صلة أو كادا بالخطاب المباشر وانزاحوا عن وظيفة الشّعر التّوعويّة التّعبويّة وما كان يترتّب عليها من تفخيم للذّات وتقمّص لشخصيّة الزّعيم أو النبيّ المجهول أو الدّاعية المضطهد ، محوّلين ، بدلا من ذلك ، القضايا المصيريّة العربيّة والمحّليّة إلى قضايا تُعاش من الدّاخل لا فصْلَ فيها بين ما هو ذاتيّ وما هو موضوعيّ ، بعضها يفضي إلى بعض ويغذّيه على نحو متبادل ، مع الانغماس في الحلم وإطلاق العنان للخيال واللاّوعي وتنقية العبارة إلى أقصى حدّ ممكن من الدّلالات المرجعيّة الفجّة .
وكانت في الوقت نفسه مجموعة أخرى بصدد التشكّل بدءا من أوائل التّسعينات ، لا على نحو منظّم بل على سبيل التّلاقي والتّجاوب العفويّين . وذلك في رحاب الأطر الثّقافيّة الجامعيّة التي كانت تحتضنها الكلّياّت والمعاهد العليا والمبيتات وتنتظم فيها مسابقات وأمسيات وأياّم شعريةّ يشارك فيها الشّعراء الطّلبة من كلّ الأجزاء وتكون مناسبات لاكتشاف الموهوبين منهم . و قد أسهمت شخصيّا مرارا في أعمال لجان التّقويم التي شُكِّلت فيها للفصل بين المتباريين . ولعلّ من أبرز الأسماء التي لفتت انتباه السّاحة الثّقافيّة في تلك الفترة وطنيّا وحتّى عربيّا عادل المعيزي وفاطمة عكاشة وعبد الفتاّح بن حمّودة ونصر سامي وإيمان عمارة ونزار شقرون وآمال موسى وفاطمة بن محمود ونور الدّين بن الطيّب .وقد أطلق على هؤلاء تسمية “الشّعراء الطلبة ” . وهي تاريخيّا من وضع الطالب الناّقد إذ ذاك عبد القادر بن عثمان .
ولم يكن صوت عبد الفتّاح بن حمّودة وسط تلك الكوكبة بالصّوت العاديّ . بل برز بأسلوب في الكتابة متميّز جعله يحتلّ مكانا متفرّدا بينهم ، كما لفت النّظر في الوقت نفسه بمواقف صداميّة شديدة الاستفزاز ، بعضها من قضايا الشّعر و بعضها من سلوك المسؤولين الثقافيّين جلبت إليه الاهتمام وأسهمت في فرض اسمه داخل السّاحة الثّقافية . فممّا أذكره في هذا الشّأن أنّ إيكاريوس – وهو اللّقب الذي أطلقه على نفسه – لم يتردّد ذات مرّة في تصريح نشرته له جريدة ” الأخبار ” التونسية في صفحتها الثّقافيّة التي يشرف عليها الشّاعر عبد الله مالك القاسمي بأنّه أفضل من أدونيس ، مثيرا بذلك عدّة ردود فعل انفعاليّة من لدن القرّاء ، كما تطاول في مناسبة أخرى على شاعر تونس الأوّل الخالد أبي القاسم الشابي ، عادا إيّاه شاعرا عاديّا لا يستحقّ هالة التّعظيم التي يحيطه بها النقّاد والباحثون .
أمّا موقفه من المسؤولين الثقافيّين فقد اتّخذ صورة المواجهة الحادّة المباشرة المستمرّة . وذلك لعدم التفاتهم إلى ما يعانيه من بطالة وتهميش ، على الرّغم من مواهبه الفذّة . ولا أزال أحتفظ برسائل شخصيّة بعث بها إليّ، يبثّ فيها شكواه من الحصار المضروب حوله وتألّمه الشّديد لتعمّد استثنائه من المشاركة في النّدوات والأمسيات ، صاباّ جام غضبه على وزارة الثقافة والمندوبين الثّقافيّين الجهويين ومديري دور الثّقافة والشّباب ومن لفّ لفهم . وقد أدّت هذه القطيعة بينه وبين أصحاب السّلطة الثقافية إلى انسلاخه عن اتّحاد الكتّاب التّونسيين لتقصيره ،في نظره ، عن مساندته وعدم إعانته على حلّ قضيته ، مقرّرا الانضمام إلى نقابة كتّاب تونس التاّبعة للاتّحاد العام التّونسيّ للشّغل .
II – خصائص التّجربة الشّعريّة عند عبد الفتاّح بن حمّودة في الفراشات ليلا :
تتميّز القصيدة عند عبد الفتّاح بن حمّودة بخصائص قارّة ـ منها ما هو بنيويّ يهمّ هيكل القصيدة العامّ ومنها ما هو سياقيّ يتّصل بصياغة العبارة الشّعريّة .
1- خصائص النصّ الشّعريّ البنيويّة العامّة أو السّطحيّة :
يغلب على النّصّ الشّعريّ عند عبد الفتاّح بن حمّودة التّسريد * لكن بأسلوب مخصوص.وذلك ماثل في وجود شخوص وأحداث وإطارين مكانيّ وزمانيّ على نحو شبه قارّ في كلّ نصّ من نصوصه .أمّا الشّخوص سواء أكانت فواعل أو مفاعيل بها فهي إمّا بشريّة لكن تُسند إليها أوصاف نباتيّة وبدرجة أقلّ حيوانيّة وإماّ نباتيّة أو حيوانيّة أو من الجماد الطبيعيّ لكن تُنعت بأوصاف بشريّة . ومن ثمّة فالشّخصيّة القصصيّة عنده تكون في أكثر الأحوال رمزا إمّا لكائن بشريّ وإمّا لكائن غير بشريّ مشخّص .
وأمّا الأحداث المرويّة فسمتها اللاّفتة غالبا هي التّداخل الشّديد ، إلى حدّ أن يتعذّر على القارئ تبيّن خيط ناظم بينها يُمكن أن يهديه إلى حدث مركزيّ تنبع منه جميعا .
وأمّا الإطاران المكانيّ والزّمانيّ فإنّهما يلوحان دائما ، على عكس ذلك ، واضحين كلّ الوضوح ( معهد – فصل دراسة – حقل – بحر – غرفة – ليل – صباح – خريف – شهر يذكر باسمه نحو سبتمبر … ) .
ولمّا كانت الإشارات المرجعيّة إلى حدث أصلي مّا شبه غائبة في أكثر الأحيان فإنّ القارئ لا يستخلص حُبكة مّا بل يجد نفسه إزاء سلاسل من حركات الشّخوص وسكناتها و الصّفات المسندة إليها و إلى الإطارين المكانيّ والزّمانيّ . وهي تكون مرويّة إن كانت أحداثا أو مرسومة إن كانت صفات بأسلوب موغل في الاقتضاب والإيحاء . وهو ما يجعل النصّ أشبه ما يكون بلوحة تجريديّة .
ولكي يتّضح لنا البناء العامّ للقصيدة عند هذا الشّاعر لنتوقّف وإن على نحو سريع عند أنموج من نصوصه الشّعريّة . وهو قصيدة ” حراسة الأزهار ” ( الفراشات ليلا ص ص 14 – 20 ).
هذه القصيدة أهداها الشّاعر” إلى أستاذة تركت أزهارها و مضت ” ( نفسه ص 14 ) . وهي تروي أوّل لقاء لأستاذة يوم العودة المدرسيّة في منتصف شهر سبتمبر بتلاميذ لها جدد في قاعة الدّرس .
ويُفهم من بعض الإشارات المتفرّقة الواردة في حديث السّارد أنّ هذه الأستاذة في الثّلاثين من عمرها ( ” لا تحزني كثيرا على ما فات وأنت في عقدك الثّالث ” نفسه ص 14 ) وأنّ لها تجربة سابقة في التّدريس ( ” سنوات كاملة وأنا أنسى مِيدَعات التّلاميذ ومحافظهم المبلّلة بالغيم ” ( نفسه ص 20) . لكنّه لا يضيف أيّ معلومات عن هويّتها ، مفضّلا الانسياق وراء سيل من التّعاليق على المكان والزّمان والشّخوص الحاضرة في الفصل وبعض الأشياء الموجودة داخله وخارجه في لغة أشبه ما يكون بالهذيان .
ولعلّ الانطباع العامّ الذي يحدثه هذا النصّ لدى القارئ هو رغبة السّارد في الإفصاح عن معان يزدحم بها ذهنه لكنّه يعجز عن التّعبير عنها باللّغة المتداولة أي قول ما يتعذّر قوله ( Dire l’indicible ) . وأوّل تلك المعاني مطلقا الإحساس الغامض المخصوص الذي ينتاب المرء في كهولته وشيخوخته عند حلول يوم العودة المدرسيّة إذا كان ممّن حَظُوا بنعمة التّمدرس في طفولتهم . فمن جهة تمتزج لديه ذكرى ذلك الحدث بلون معيّن للطّقس في شهر سبتمبر الذي لم يلفظ فيه الصّيف أنفاسه بَعْدُ ويتأهّب الخريف لاحتلال مكانه و من جهة أخرى يتراوح بين الفرح بلقاء رفاق الدّراسة وتهيّب الجوّ الجديد الذي سيستتبّ داخل فصل الدّرس بين المدرّس و المتعلّمين وبين المتعلّمين أنفسهم .ومردّ ذلك إلى كون المدرسة عالما قائم الذّات تقوم بين الأطراف المتحرّكة في رحابه علاقات مخصوصة غير التي تربط بين النّاس في البيئتين الأولى و الثاّلثة . ومن ثمة فهذه القصيدة أشبه ما يكون باسترجاع ذكرى لا تشغل المسترجع في أثنائها الأحداث والشخوص بقدر ما تُذكي فضولَه الأحاسيسُ المبهمة التي ترتبط بها . وذلك على نحو ما صوّره مارسال بروست (Marcel Proust 1871 – 1922) في روايته المتفرّدة الموسومة ب “في البحث عن الزّمن الضّائع ” ( 6). ولمّا كان من العسير نقل هذه الأحاسيس الفائقة الدّقة ، الغامضة كلّ الغموض باللّغة الاعتياديّة التي تخضع للمنطق العامّ فإنّ تطويعها لهذا الغرض الصعب إن لم نقل المستحيل هو الذي يفسّر ما وسم حديث السّارد من طابع اللاّمعقول وعدم الانضباط لقواعد ذلك المنطق .
وهكذا يمكن القول إنّ الشّاعر في هذا النصّ لم يُصدر عن الوعي إلاّ في رسم الإطارين المكانيّ والزّمانيّ والملامح العامّة للشّخوص . أمّا باقي المادّة التي أودعها فيه فهي من ناتج اللاّوعي الذي يختزن لديه فيضا من الأحاسيس الغامضة المرتبطة بحدث العودة المدرسيّة منذ عهد الدّراسة الثاّنوية . ويعني هذا أنّ منطلق الشّاعر واقعيّ . لكنّه لم يحتفظ منه إلا ببصمات مرجعيّة طفيفة لا تمكّن القارئ من تصوّره إلاّ في هيئة غبشيّة غائمة ، مالئا ، مقابل ذلك ، فضاء النصّ بسيل من الصّور العجيبة التي لا يُرى مثلها إلاّ في الحُلم . وهذه الصّور ، فضلا عن طابعها الخارق ، لا يربط بينها في الغالب خيط ناظم وإنّما هي نسيج غير متجانس من التّصوّرات مثلما يحدث في الحلم أيضا .
يقول يونج ( Jung ) في هذا الشّأن : ” إنّ حكاية يرويها عقلنا الواعي تكون لها بداية وجوهر وخاتمة . لكنّ ذلك لا ينطبق على الحلم الذي أبعاده في الزّمان والمكان مختلفة تماما ” (7) . ويفسّر ذلك بقوله : ” إنّ جانبا من اللاّوعي يتجسّد في عدد لا متناه من الأفكار والانطباعات والصّور …التي على الرّغم من ضياعها بالنسبة إلى عقلنا الواعي فإنّها تواصل التّأثير فيه ” (8) .
لكنّ هذا التشظّي و إن كان قاسما مشتركا بين أكثر الشّعراء التّسعينييّن لاسّيما شمس الدّين العوني وعادل المعيزي وآمال موسى والهادي الدباّبي ونزار شقرون الذين يميلون إلى كسر الرّوابط المنطقيّة بين عناصر الملفوظ ، حرصا منهم على إحداث الألْق الجماليّ – وهو ما يلجأ إليه شقّ آخر منهم بشيء من الاعتدال بالإبقاء على هيكل دلاليّ واضح ولا يكون مراس العدول من لدنهم إلاّ على صعيد التّفاصيل ومن هؤلاء محمد الهادي الجزيري ومجدي بن عيسى وإيمان عمارة – فإنّ له لدى عبد الفتّاح بن حمّودة سمتين خاصّتين مميّزتين : الأولى جنوحه القويّ إلى السّرياليّة *بل حتّى إلى الدّادّئيّة* و الأخرى هي انجذابه بضرب من الانتشاء القُصْوِيّ نحو التّفاصيل الفارقة ، الموحية ، المتناهية في الصّغر باعتبارها ” أحداثا شعريّة ” تتيح لناقلها فرصة الذّوبان في عشق الجمال وبلوغ قمّة الاستلذاذ . وها الجانب شبه الجنسيّ الذي يلوح في مراس الذّات الشّاعرة للفعل الكلاميّ يدعمه التّواتر المهمّ في شعره لمفاتن المرأة لكن في غير ابتذال .

2- خصائص النصّ الشّعريّ في البنى العميقة :

نصل الآن إلى المنطقة الأخفى في تجربة عبد الفتّاح بن حمّودة . وهي التي سمّاها بول ريكور(Paul Ricoeur ) الهويّة السّرديّة* . ومعناها أنّ الفرد إنّما يصنع ذاته عبر الحكي على نحو إراديّ واع، على اعتبار أنّه إنّما ينجز الفعل أيَّ فعل في اللّحظة الحاضرة، متسلّحا بتجربته الماضية ومهتديا بالأهداف التي يرسمها لنفسه في المستقبل ( 9 ). لكنّ ريكور يغالي أيضا في جعل هذه العمليّة صادرة كلّها عن العقل الواعي والحال أن جانبا مهمّا منها منبثق وجوبا عن اللاّوعي . وهو ما قضّى فرويد ويونغ كلّ حياتهما المهنيّة والبحثيّة في محاولة تبيانه. و قد حظيت معظم النتائج التي تمخضّت عنها أبحاثهما في هذا الباب بشبه إجماع عالميّ .
و بفضل هذه الأبحاث وغيرها ممّا أنجزه اللاّحقون لهما في ميدان تحليل النّفس وخاصّة منهم جاك لا كان (Jacques Lacan 1901 – 1981 ) قد غدا مقرّرا أنّ للذّات البشريّة ملامح سرّيّة تنشأ عن آلية الكبت الطّبيعيّة التي تلجأ إليها منذ عهد الطّفولة الباكر لقمع ما ينتابها من ميول جنسيّة غريزيّة ، انصياعا لنواهي الأنا الأعلى الصّارمة . فتٌبقيها ، نتيجة لذلك ، سجينة في غياهب اللاّوعي . لكنّ هذا لا يمنعها من أن تطفوَ ، من حين إلى آخر ، إلى سطح الوعي متبرّجة في أثواب رمزيّة ( 10 ) .
وتعدّ اللّغة والحلم الفضاءين الأكثر احتضانا لتلك الرّموز حيث يتردّد تواترهما على نحو مرتفع . وهي الظّاهرة التي اعتنى الناقد شارل مورون ( Charles Mauron 1899 – 1966) خاصّة بتعقّب آثارها في نصوص عدد مهمّ من الشّعراء ، مسمّيا إياّها ” الأسطورة الشّخصيّة *” (11 ) وإن غالى ، كما أسلفنا ، في تطبيق هذا المنهج لإغفاله أهمّيّة تدخّل العقل الواعي في الكتابة الأدبيّة .
وليس ثمّة شكّ في أنّ طبيعة النصّ الشّعريّ عند عبد الفتّاح بن حمّودة ، باعتباره يتوفّر على جلّ مواصفات الحلم ، تُيسِّرُ ، إلى حدّ مّا ، مهمّة الباحث في الكشف عن الخلفيّة التي يَصْدُرُ عنها . فبتأمّل معجم الشّاعر في مجموعة الفراشات ليلا يُلاَحَظ بكلّ سهولة التّواترُ المرتفع لوحدات حقل النّبات ( شجرة – عشب – عنب – شجرة اللّوز – صنوبر – نعناع – زهرة – وردة – شجرة التّين – زهرة الدّفلى – بنفسج – شجرة المشمش – شجرة الخوخ – شجرة الإجّاص – زيتونة – طُحلب – شجرة الرّمان – كرمة ) مع تنوّعها الشّديد.
وإلى جانب هذا الحقل المهيمن في معجم الشّاعر يلفت القارئ وجود ألفاظ مهمّة الحضور خارجه . وهي النّجمُ والقمرُ اللّذان ينتميان إلى حقل الفلكِ والطّائرُ والماءُ . ويجمع بينها كلّها الانتماء إلى حقل الطّبيعة العامّ .
فلنتوقّف أوّلا عند حقل النّبات في نصوص المجموعة :
2-1 : حقل النّبات في مجموعة الفراشات ليلا :
إنّ للنّبات عند علماء تحليل النّفس دلالات كونيّة ، لكونه رمزا نمطيّا مستقرّا في اللاّوعي البشريّ الجماعيّ منذ بداية الملحمة الإنسانية على سطح الكرة الأرضيّة . وجلّ هذه الدّلالات تصبّ في خانة الإيجاب . و أبرزها التّوازن والانسجام والسّكينة .ويفسّر ذلك بأنّ النّبتة تتألّف من جزأين متكاملين أحدهما تحت الأرض والآخر فوقها . فهي تستمدّ من باطن الأرض غذاء معدنيّا تحوّله إلى طاقة حيويّة تبثّها في جزئها الأعلى ، كما أنّها تسهم في إشاعة البهجة حولها بيُنُوعِها و حسن منظرها وبفاكهتها اللّذيذة إذا كانت شجرة مثمرة وبرائحتها الطيّبة إذا كانت زهرة . وهو ما تشترك فيه جلّ أنواع النّبات التي تتردّد في شعر عبد الفتّاح بن حمّودة ، ما عدا نَبْتتين لهما دلالة سلبيّة وردتا مرّة واحدة هما الطُّحلب الذي تقترن به معاني الوضاعة وثقل الظلّ والتثبّث المهين بالشيء والدّفلى التي يرتبط بها معنى المرارة ، على الرّغم من جمال زهورها . فلا يكون لهما من ثمّة أيّ ثأثير في مناخ الشّاعر العّام .
ولئن ميّز السّيميائيّون بين الدّلالات الرّمزية لكلّ من الأشجار والزّهور والأعشاب بل فرّقوا حتى بين معاني أنواع الشّجر المختلفة ( 12) فإنّ عدم غلبة أيّ جنس من هذه الأجناس النّباتيّة الثّلاثة ولا أيّ نوع من أحدها من حيث التواتر في قصائد المجموعة يجعل من المجازفة بمكان التّوقّف عند دلالات كلّ جنس ونوع فيها على حدة . فتنوّعها الشّديد مع تقارب درجات تواترها متفاصلةً يدفع ، على العكس ، إلى اعتبار الطبيعة العامّة التي تشترك فيها . وهي الطّبيعة النّباتية أي انتماؤها إلى حقل النّبات ليس غير .
وإلى جانب هذه السّمة العامّة للعالم النّباتيّ في شعر عبد الفتّاح بن حمّودة هناك خصيصة أخرى له هي وروده تارة في مقامات إيجابيّة وطورا في مقامات سلبيّة من وجهة نظر السّارد .
2-1-1 : صورة النّبات المشرقة :
في مواضع كثيرة من قصائد المجموعة يُذكر النّبات في مقامات تبعث على الانشراح والارتياح باعتباره عنصرا من عناصر إطار جميل بديع ، مثلما هو الحال في الأبيات التاّلية :
غزالةٌ لأشجارِ الصّنوبرِ وغزالةٌ لأشجارِ الزّيتونِ
( الفراشات ليلا ص 35 )
هل ثمّةََ طرقاتٌ مليئةٌ بالمِشمشِ والخَوْخِ والإجّاصِ ؟
( نفسه ص 37 )
سوفَ تدركونَ لاحقًا كم كانتْ طقطقةُ أغصانِ الأشجارِ عذبةً ومُسكرةً
( نفسه ص 37 )
لكنّني أثناءَ السّيرِ وسطَ كَوْكباتٍ من أزهارِ الصّباحِ
( نفسه ص 20 )
ثمّة أشجارٌ مُضيئةٌ فوقَ كفِّ امرأةِ الثّلاثينَ صباحًا
( نفسه ص 67 )
وطورا آخر يكون مصدرا للاستِيحاء والاستِلْهام . من ذلك قول الشّاعر :
خُذْ كرسيًّا تحتَ شجرةِِ سَرْوٍ واملأْ لوحاتِكَ عاطفةً
( نفسه ص 7 )
وقوله :
يجبُ أن تكتبَ شيئًا رائعًا عن أشجارِ اللّيلِ الحمراءِ
( نفسه ص 30 )
وفي أحيان أخرى تتماهى الذّاتُ الشّاعرة مع النّبات ، كما في هذا البيت :
كنتُ شجرةَ لوزٍ تضعُ رأسَها في البحرِ
( نفسه ص 10 )
2-1-2 : صورة النّبات المُحزنة والمُقْرِفَة :
لكن إذا كانت هذه هي القاعدة الأصليّة الصّلبة التي ينبني عليها عالم الذّات الشّاعرة الدّاخليّ فإنّها لا تحجب عن القارئ المتأمّل المنقّب الحصيف ما يعكّر صفاء هذا العالم ، من حين إلى آخر ، من غيوم سوداء . وهي عبارة عن أوضاع غير مريحة غالبا ما تطرأ على النّبْتات التي تنمو في رحابه .
فالنبتة تتعرّض أحيانا إلى الاعتداء أو تكون في حالة مثيرة للحزن والأسى ، كما في الأبيات التاّلية :
احتراقُ حبّةِ الرمّانِ تحتَ حذائي السّكرانِ
( نفسه ص 60 )
سوفَ تعوي أشجارُ اللّوزِ كثيرًا تحتِ حروفٍ يملؤها الدّمعُ
( نفسه ص 62 )
الشّاعرُ يعوي مثلَ قطّةِ ريحٍ وظلالُ الأشجارِ تولولُ
( نفسه ص 21 )
اُنظري أزهارَ الدّفلى وبكاءَ الأعشابِ
( نفسه ص 25 )
وأحيانا أخرى تكون ، على جمالها الطبيعيّ ، مثيرة للتقزّز و جلاّبة للحقد ، كما في قول الشّاعر :
تأتي سقائرُ بيضاءُ نَتِنَةٌ تملأُ أفواهَ الشّجرِ بريحٍٍ سوداءَ
( نفسه ص 43 )
الولادةُ القذرةُ للأشجارِ
( نفسه ص 45 )
الكلماتُ الضّائعةُ شَرْحُ قذارةِ الأزهارِ اليوميّةِ
( نفسه ص 31 )
يجبُ أن تدمَّرَ الأشجارُ وتضعَ مكانَ كلِّ شجرةٍ لَطْمَةَ موجٍ رائعةً في اللّيلِ
( نفسه ص 28 )
والجدير بالذّكر أنّ فرويد قد أر جع ظاهرة الأحلام المزعجة إلى فشل الفرد في تحقيق بعض رغباته المكبوتة بوساطة الحلم . وهي الرّغبات الأشدّ تعرّضا إلى القمع من لدن الأنا الأعلى فلا يسمح له بإشباعها حتّى في المنام ( 13) . ومردّ ذلك إلى سيطرة مبدإ الواقع* الذي يقف في حالات معيّنة عرضة دون الاستجابة لمبدإ اللذّة* (14 ) .
نحن إذن إزاء سجلّين متقابلين كلّ التقابل يشيان بوجود صوتين متباعدين ينطق بهما لسان الذّات الشّاعرة لا صوت واحد . وهو نوع غير مألوف من تعدّد الأصوات . لكن يونق ( Jung ) يؤكّد لنا أنّ حالة من ها القبيل حالة واقعيّة ، لاسيّما في العصر الحديث . وذلك لكون الرّوح البشريّة قد أضحت اليوم تحتوي على مقصورات* أو إن شئنا دروج* قد لا يفضي بعضها إلى بعض دائما . وهذا هو أحد الأسباب التي تتولّد عنها ازدواجية الشّخصيّة .
يقول يونق في هذا الصّدد : ” الإنسان المعاصر يحجب عن ناظريه هذا الانشقاق الذي يحدث في ذاته بوساطة نظام من ” المقصورات ” . فبعض المظاهر المحدّدة من حياته الخارجيّة وسلوكه تُحفظ في دُرُوج متمايزة لا يواجه بعضها بعضا أبدا (15) .
وفي تقديرنا أن للذّات الشّاعرة في شعر عبد الفتّاح بن حمّودة كيانين نفسيّين متباينين : الأوّل أصليّ ولاديّ يتّسم بالانبساط والتّوازن والانشراح والآخر عارض قوامه التوتّر والاختلال والتأزّم قد تخلّق عن العقبات التي نُصبت ولا تزال في طريق الشاّعر وحالت دون تمتّعه بالحدّ الأدنى من الاستقرار الاجتماعيّ والنّفسيّ . وهذا الجانب خصّص فرويد كتابا كاملا لتحليل أسبابه وأبعاده عنوانه البعد النّفسيّ المَرَضيّ للحياة اليوميّة ( 16) .
2-2 : حقلان تكميليّان : : الأجرام السّماويّة والمُجَنَّحات :
2-2-1 : حقل الأجرام السّماويّة :
يتصدّر هذا الحقلَ القمرُ والنّجمُ .واللاّفت فيهما أنّ جميع السّياقات التي وردا فيها هي سياقات مَحَبّة واستلطاف والصّفات التي أُسندت إليهما تنبع من صفتين رئيستين هما : الجمال والوداعة . من ذلك ما جاء في الأبيات التّالية :
منديلانِ زرقاوانِ يرفرفانِ فوقَ القمرِ
( الفراشات ليلا ص 55 )
أحبُّ القمرَ وأنساه تحتَ صدري المليءِ بعُشْبٍ بَرِّيٍّ
( نفسه ص 59 )
عاد الفارسُ فوقَ حصانِ اللّيلِ …
فوقَ سَرْجِهِ الأيمنِ شمسٌ وفوقَ سرجهِ الأيسرِ قمرٌ
( نفسه ص 54 )
تأتي نجومٌ خضراءُ من تحتِ ظلالِ الأشجارِ
( نفسه ص 43 )
أمسِ كانتِ النّجمةُ مَلِكَةً تحبّها العصافيرُ وعاشقةً تكرهُها السّيوفُ
( نفسه ص 92 ) .
لذلك يمكن القول إنّهما في تناغم تامّ مع الجانب الإيجابيّ المُشرق من عالمه النّباتيّ ، كما أنّهما يمنحانه بُعدا عُلْوِيّا لأنّ النّبات مقيّد بانغراسه في الأرض ، فضلا عن وظيفتهما التّقليديّة المتداولة . وهي مؤانسة المؤرّقين والمنعزلين في اللّيل .
2-2-2 : حقل المُجَنَّحَات :
إنّ المُجَنَّحات الأكثر تواترا في هذه المجموعة هي العصفور والفراشة والنّحلة .وذكْرها يقترن كذلك باللّطف والمحبّة . وهذا ما يجعلها أيضا مكمِّلة للجانب الإيجابيّ في عالم الشّاعر النّباتيّ لما تمتاز به من حركة حُرّة حُرِم منّا النّبات الملتصق وجوبا بالأرض .
ومما قاله الشّاعر في هذا الحقل :
الشّاعرُ نائمٌ مثلَ فَرْخِ حَجَلٍ في حقلٍ من ذهبٍ
( نفسه ص 10 )
صدرُكَ حُلْمُ فراشةٍ
( نفسه ص 23 )
يجبُ أن تمرَّ عصافيرُ الاستعارةِ بهدوءٍ تامٍّ
( نفسه ص 29 )
الفراشاتُ اللّذيذةُ فوقَ لساني الأحمرِ
( نفسه ص 51 )
عبرَ قضبانٍ رائعةٍ لنافذةِ مَشْرَبِ الإذاعةِ يمكنُكَ رؤيةُ أزهارٍ وفراشاتٍ
( نفسه ص 89 )
سوفَ تطرحُكَ الوردةُ البيضاءُ أرضًا بنَحْلِ الحديثِ ومَطَرِ الكلماتِ الغامضةِ
( نفسه ص 81 )
وهكذا فبفضل هذه العناصر الخمسة : القمر والنّجم والعصفور والفراشة والنّحلة يغطّي مِخْيال الشّاعر في جانبه الأصليّ المشرق كونًا بأرضه وسمائه ، آهلا بكائنات جميلة، لطيفة ، وديعة .
3- ازدحام فضاء النص بالصّور السّريالية :
لقد تولّد عن ازدواجية الذّات الشّاعرة وما تبعها من تخلّق صوتين فيها متقابلين تداخلٌ شديدٌ لسِجِلّين هما في الأصل متفاصلان ، متعازلان . وهو ما وسم خطابها في المستوى البلاغيّ على نحو عميق بطابع سرياليّ كثيف .
وإذا كان التيّار السّرياليّ* ومن قبله الدّادّائي* قد ظهرا بأروبّا زمن اندلاع الحرب العالميّة الأولى وبعده ، إدانة للعقل البشريّ الذي لم يفلح في كبح جماح النّزعة العدوانيّة المتمكّنة من ذات الإنسان على الرّغم من التقدم العلميّ والتكنولوجيّ الباهر الذي حقّقه ( 17 ) فإنّ له عند عبد الفتّاح بن حمّودة ورفاق دربه من الشّعراء التّسعينيّين التّونسيّين دلالة أخرى هي ردّ الفعل التلقائيّ اللاّواعي على قيام النّظام العالميّ الجديد الذي كان من نتائجه العاجلة في التّسعينات الإجهاز على القضيّة الفلسطينيّة و تبخّر أحلام العرب في الوحدة وتدمير العراق أفظع تدمير .
ومن أمثلة هذا الطّابع السّرياليّ المكثّف الذي لا يكاد يخلو منه بيت واحد في قصائد المجموعة المقطع التالي :
كنتَ تعرفُ أنّ جنازةً كبيرةً سوفَ تخرجُ قربَ الملعبِ البلديِّ لتدخلَ المراحيضَ .
كانتْ صديقةُ الشّاعرِ تهشُّ عن شاعرِها الذّبابَ وحشراتِ الصّيفِ .
لا …لا لستُ غبيًّا !
قلتُ لصديقةٍ تحيا داخلَ قفصٍ ميّتٍ منذُ عشرةِ أعوامٍ : أنتِ فراشتًهنّ .
قلتُ لصديقةٍ مزّقوا ضلوعَها باكرًا ورَمَوْا ساقَها اليُسرى لقططِ اللّيلْ .
قلتُ لها : اُنظري ساقي اليسرى . لعنةُ اللهِ عليكِ !
( نفسه ص ص 107 – 108 )

الخاتمة :
لئن كان عبد الفتاح بن حمودة يشترك مع سائر الشّعراء التّسعينيّين في التّوجه العامّ القائم على الأخذ بثلاثة مبادئ رئيسة في الكتابة الشّعريّة هي : أولويّة الإيحائيّ المطلقة على التّصريحيّ المرجعيّ والإبحار في خضمّ الذّات المتلاطم البعيد الغور والغرف بسخاء من الحلم والخيال واللاّوعي فإنّ نصوصه في هذا الأنموذج على الأقل الموسوم بالفراشات ليلا تكشف عن خصوصيّة بها يتميّز عن كتابات رفاقه هي المِخْيال النّباتيّ الذي يَصدر عنه . وهذا المخيال يلوح في معظم قصائد الشّاعر منشطرا إلى شقّين متقابلين : أحدهما يحاكي في صورته والأجواء السّائدة فيه جنّة النّعيم وللآخر على العكس كلّ مواصفات الجحيم الأرضيّ .وتجاور هذين المخيالين في الذّات الشّاعرة مع وجود قطيعة تامّة بينهما قد جعلا خطابها يصدر ، على نحو متّصل ، عن صوتين متباينين يعبّر كلّ صوت منهما عن كيان نفسيّ مستقلّ . وقد تجسّد ذلك على صعيد الخطاب في تداخل سجلّين لا يمتّ أحدهما بصلة إلى الآخر . وهو ما وسمه بطابع موغل في السّرياليّة لعلّ دلالته الأولى عند منشئ الخطاب هي أنّ الواقع في تأزّمه قد تجاوز الخيال . وهكذا يلوح عبد الفتّاح بن حمّودة واحدا من الشّعراء التّونسيّين الأكثر استيعابا لمرحلة انهيار الإيديولوجيات وقيام النّظام العالميّ الجديد وتأثّرا في مستوى أساليب الكتابة بنتائجهما الكارثيّة على الصّعيدين المحليّ والعربيّ . وهو أولا وآخرا أحد المبشّرين بثورة المثقّفين المهمّشين أولئك الذين قادوا انتفاضة الرابع عشر من جانفي 2011 ولم يجنوا فوائدها .
الهوامش :
1- ابن حمّودة ( عبد الفتّاح ) ، الفراشات ليلا ، على نفقة المؤلّف ، سوسة – تونس 2003
2- انظر على سبيل المثال القواميس التالية :

– Chevalier ( Jean ) , Dictionnaire des symboles, PUF, Paris 1986
– Cazenave (Michel ) , Encyclopédie des symboles, Librairie générale française, Paris1996
– Fontana (David ) , Le Langage secret des symboles , Solar , Paris 1994
– Julien (Nadia ) , Dictionnaire des Symboles, Marabout , Bruxelles 1989
– Normand ( Henry ) , Dictionnaire des symboles universels , Devy , Paris 2007
3- Jung ( C.G) , Essai d’exploration de l’inconscient , Editions Gontier , Paris 1964 p70
4- Ibid.p70
5- انظر :
– الصّباحات ، الدّار العربيّة للكتاب ، تونس – ليبيا 1996
– آنية الزّهر ، الجاحظيّة ، دار التّبيين ، الجزائر ، 1998
– وردة السّماء، نادي الجمرة الأدبيّ، الدوحة، 2001

6- Proust ( Marcel ) , À la recherche du temps perdu, Gallimard ,Paris 1909 7 tomes
7- Jung ( C.G) , Essai d’exploration de l’inconscient, p 33
8- Ibid. p 39
9- Ricoeur ( Paul ) ,Soi-même comme un autre , Editions Du Seuil , Paris 1990 p 138 et p 178
10- Freud ( Sigmund ) Introduction à la psychanalyse , payot 1965 pp 22-23 et pp 38- 39
11- Mauron (Charles ) , Des métaphores obsédantes au mythe personnel, Introduction à la psychocritique, Paris, Corti, 1962, p p 6-11
12- انظر على سبيل المثال :
– George Frazer (James ) , Le Rameau d’or, trad., coll. “Bouquins”, Robert Laffont ,Paris de 1907 à 1915 t. I : Le Roi magicien dans la société primitive, chap. IX : “Le culte des arbres”, pp 268-289 « esprits des arbres» pp 289-296
– De Gubernatis ( Angelo ) , La mythologie des plantes , Plants Publisher, Paris1872 Tomes I et II.
– Malineau ( Jean-Hugues ), Les arbres et leurs poètes, Actes Sud junior, Paris 2002
13- Freud ( Sigmund ), La psychopathologie de la vie quotidienne, Petite Bibliothèque Payot,1973 p 238
14- Freud ( Sigmund ),Essais de psychanalyse , Petite Bibliothèque Payot,1971 p 8
15- Jung ( C.G) , Essai d’exploration de l’inconscient, p 115
16- Freud ( Sigmund ), La psychopathologie de la vie quotidienne ( 1901 ) , Petite Bibliothèque Payot,1973
17- Histoire de la littérature française  ( Collectif ) ,Bordas , Paris 1973 Chap. sur le surréalisme pp 610-613

المصطلحات :
*التّسريد ( Narrativisation )
*رمز نمطيّ ( Archétype )
*المخيال النّباتيّ (L’imaginaire végétal )
*علم تحليل النّفس ( La psychanalyse )
*الرّمزيات ( La symbolique )
*فنّ التّأويل (L’herméneutique )
*موت المؤلّف (La mort de l’auteur )
*السّرياليّة ( Le surréalisme )
*الدّادّئيّة (Le dadaisme )
*الهويّة السّرديّة (L’identité narrative )
*الأسطورة الشّخصيّة (Le mythe personnel )
مبدأ الواقع (Principe de réalité )
*مبدأ اللذّة (Principe de plaisir )
*مقصورة (Compartiment )
*دُرْج (Tiroir )

عبد الفتّاح بن حمّودة :
ولد بريف الهمامّة ( المَهديّة ) في 19 مارس 1971. درس بكلّية الآداب بمنّوبة إلى حدود سنة 1996 . يشتغل مراسلا لعدّة صحف عربيّة . بدأ ينشر الشّعر في أواخر الثّمانينات .
مجاميعه الشّعرية :
الصّباحات ، الدّار العربيّة للكتاب ، تونس – ليبيا 1996
آنية الزّهر ، الجاحظيّة ، دار التّبيين ، الجزائر ، 1998
وردة السّماء، نادي الجمرة الأدبيّ، الدوحة، 2001
أجراس الوردة، على النّفقة الخاصّة، تونس 2002
المَلِكة التي تحبّها العصافير ، دار الإتحاف للنّشر ، سليانة – تونس 2002
عندما أنظر في المرآة لا أفكّر، دار الإتحاف للنّشر، تونس 2003
الفراشات ليلا، على النّفقة الخاصّة، تونس 2003

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*