صورة الشّاعر العاشق القتيل في ” ليس لي ما أضيفُ “(1) للشّاعر التّونسيّ محمّد الهادي الجزيري : محمّد صالح بن عمر

12799307_10206113965751391_754044878639640884_n

محمّد الهادي الجزيري

332586_2161360596805_217004469_o
محمّد الهادي الجزيري هو واحد من ثنائي تألّف منه هو ، في تسعينات القرن الماضي ، ومن رفيق دربه شمس الدّين العوني . وقد لفت هذا الثنائي الانتباه إذّاك بمنحىً في كتابة الشّعر جديدٍ تجسّد في قطع الصّلة تماما بالتّقسيم الذي كان ساّئدا محلّيا حتّى ذلك الوقت لهذا الفنّ إلى شعر ملتزم وشعر ذاتيّ : الأوّل قوامه الخطابة الرّامية إلى بعث الحماسة في نفس المتلقّي من منطلق وطنيّ عامّ أو إيديولوجيّ معيّن والآخر مداره على هموم الذّات الفرديّة وأحوالها المتقلّبة . وتتراوح القصائد في هذين اللونين على حدّ سواء بين اعتماد الأسلوب المباشر والاشتغال بشعريّة اللّغة الماثلة في الإيحاء وابتكار الصّورة و البحث عن عناصرَ من صلب النصّ لتوفير الإيقاع الدّاخليّ .
وقد تحدّد تجاوزُ هذه القِسْمة عمليّا في إنشاء لون من الشّعر تتحوّل فيه القضايا المصيريّة التي يُقْصِرُ شعراء الالتزام همّهم عليها إلى موضوعات ذاتيّة تَطرَقُ من داخل الأنا في مستوييه الواعي واللاّواعي في خطابات يتّحد فيها الباثّ والمتقبّل . وهو ما يجعلها تنزاح في وقت واحد عن الشّعر الذّاتي التّقليديّ القائم على البوح والرّامي إلى كسب تعاطف القارئ وعن الشّعر الملتزم الذي يسعى منشئه إلى إلغاء شواغله الشّخصية وحمل المتلقّي على اتّخاذ موقف مّا من الواقع الموضوعيّ .
ولم يكن اختيار محمّد الهادي الجزيري ورفيقه – و كانا قد خطا خطواتهما الأولى في أواسط الثّمانينات لذلك عُدّا أقدم الأصوات الشّعريّة التّسعينيّة في السّاحة الأدبيّة التّونسيّة – الكتابة في هذا اللّون المستحدث من باب المصادفة وإنّما كان ثمرة إنصاتهما إلى وقع التغيرات الخطرة التي بدأت تطرأ على المنظومة الأمميّة بقيام النّظام العالميّ الجديد وما تبعه من انهيار الإيديوجايات وانفراد قطب واحد بالهيمنة على العالم بأسره، مقابل تصدّع الصفّ العربيّ باندلاع حرب الخليج الثّانية التي انقسم العرب من جرّائها إلى شفّين متعاديين و أفضت إلى ضرب حصار جائر على العراق .

لقد عرفتُ محمّد الهادي الجزيري في بداية التّسعينات – وقد كان إذّاك موظّفا بمؤسّسة ” بيت الشّعر ” – فلفتني أن وجدته منشغلا انشغالا كلّيا بالقضيّة العراقيّة ، جاعلا منها قضيّته الأولى فلا يكاد يتحدّث إلاّ عنها ولا يستوحي موضوعات قصائده إلاّ منها . و هو ما تجسّم منذ ذلك الحين في زيارات كثيرة أدّاها إلى هذا القطر بعضها بدعوات إلى مهرجان المربد وبعضها على نفقته الخاصّة .
و بإطلالة سريعة على محتوى مجموعتيه الأوليين اللّتين أصدرهما في التّسعينات واللّتين وسمهما بزفرات الملك المخلوع ورقصة الطّائر الذبيح يتّضح الحضور القويّ لهذه القضيّة في معظم القصائد . لكنّ لهذا الحضور فيها صيغة خاصّة . فلا تنديد بالأمريكان وحلفائهم ولا استنهاض لهمم العراقييّن حتّى يغيروا من وضعهم ولا دعوة إلى العرب ليتكاتفوا ويقضوا على أسباب الشقاق الذي يصدّع صفوفهم وإنما مُضِيّ في عمليّة تَعَرٍّ واسعة النطاق تتماهي فيها الذّات الفرديّة مع الذّات الجماعيّة ويقترن فيها التفجّع بمركّب الذّنب ويتّحد صوت الشّاعر مع صوت الضمير الجمعيّ العربيّ المكلوم . فإن شئنا هو لسان الأمّة لكن من داخل ذات عربيّة فرديّة تقدّم نفسها على أنها تختزل الذّوات العربيّة كلّها لا راهنا فحسب بل على امتداد القرون الطويلة المتلاحقة التي أفل فيها نجم العرب . وما مصائبهم اليوم سوى حلقات جديدة من سلسلة نكباتهم الساّبقة القريبة منها والبعيدة .
وهكذا لم يبق لدى الشاّعر أيّ همّ فرديّ غير موصول بالهمّ الجماعيّ ، بما في ذلك أشدّ الشّواغل ارتباطا بالذّات . وهذا بحكم كون الفاجعة التي حلّت بالعراق ليست سياسيّة أو عسكريّة محدودة في المكان والزمان وإنّما هي نتيجة من نتائج أزمة حضاريّة شاملة لا فصل فيها بين الذّاتيّ والموضوعيّ .
ومن ثمّة فإنّ كلّ فكرة تخامر ذهن الشّاعر وكلّ إحساس يعتمل في نفسه وكلّ فعل يقوم به وكلّ شيء يبصره وكلّ حدث يقع قريبا منه أو بعيدا عنه تصطبغ تلقائيا بلون تلك الفاجعة القاتم . ومن هنا ندرك أنّ عالم محمّد الهادي الجزيري الشّعريّ عالم يلفّه الظّلام الحالك والذّات الشّاعرة داخله تتخبّط في كلّ الاتّجاهات لا تستقرّ على حال كالدّيك الذّبيح ( عنوان المجموعة ) قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة . وفي هذه الغمرة من الاضطراب والتّعييث يكون تلمّس الشّاعر أيّ كوّة ضوء مهما كانت ضئيلة أمرا طبيعياّ بل لا محيد عنه حتّى لضرورة التموقع و تحديد الاتّجاه . لذلك يمكن القول إنّ تجربة محمّد الهادي الجزيري الشّعريّة تتلخّص في بحث مستمرّ عن منافذ النّور في محيط يلفّه الظلام الدّامس . ولئن كان هذا التوجّه العامّ ينطبق على شعره كلّه فإنّنا سنقتصر هنا لضيق المجال ولرغبتنا في الاقتراب أكثر ما يمكن من تجربة الشاعر على تعقّب آثار ذلك التوجّه بين ثنايا أنموذج منه .وهو مجموعته الموسومة بليس لي ما أضيف .
إنّ هذه المجموعة هي الثالثة بعد مجموعتي زفرات الملك المخلوع ورقصة الطّائر الذبيح اللتين ألمحنا إليهما وقصائدها كلّها مستوحاة من الوضع السّائد في العراق حتّى زمن الكتابة ( 2003 ) . ومثلما هو الشّأن في مجموعتيه السّابقتين لم ينْسَقْ إلى تصوير ذلك الواقع تصويرا بيانيّا ولا إلى التّنديد به في لهجة خطابيّة مثلما هو الحال في الشّعر الذي وُصف بالملتزم وإنّما انصرف إلى الكشف عن آثاره العميقة في ذاته . فإذا هي ذات مصدومة ، مفجوعة ، مأزومة ، مكلومة تلقّت حدث احتلال العراق على أنّه كارثة فمضت من جرّاء ذلك في ضرب من النَّدْبِ والعويل المتّصلين يرافقان القارئ من أولى قصائد المجموعة إلى آخرها وفي عملية تَعْرِيَة للذات واسعة النطاق بصراحة وشجاعة نادرتين تكشف عمّا تعانيه من عُقد مستحكمة وما يتجاذبها من ميول متناقضة وما تتّسم به من هشاشة وتذبذب . وفي هذا اعتراف بمسؤولية المثقّفين في استشراء الأزمة العامّة التي تتخبّط فيها الأمّة و في مقدّمة هؤلاء أهل القلم ومنهم الشّعراء .
إنّ التعرّي فيما سمّاه جان جاك روسو ( Jean Jacques Rousseau ) “اعترافات ” * والذي يفضى بالمرء إلى البوح بأخطر ما ارتكبه من أخطاء و ما تعرّض إليه من أقذر ضروب الاعتداء هو في تقدير محمد الهادي الجزيري خطوة لازمة قبل التطلّع إلى امتلاك القدرة على نقد الآخرين أو توعيتهم . فما بالك بقيادة الجماهير . وعلى هذا الأساس فإنّ البعد النّفسيّ هو الأشدّ حضورا في شعره . وهو ما يتيح للقارئ إمكان الغوص في أعماق الذّات الشّاعرة كما تتبدّى من خطابها والإبحار في مناطقها القصيّة والخفيّة . وقد اختار الشّاعر أن يعرض علينا في هذه المجموعة من مجاميعه ثلاثة أوجه منها هي : الشّاعر والعاشق والقتيل . فلتحاول التفرّس في قسمات كلّ وجه منها .
1- الوجه الأوّل : الشاّعر :
أن يولد المرء شاعرا في محيط غاية في التردّي والتّدهور محنة وأيّ محنة .وذلك لأن المرء لا يختار أن يكون شاعرا ، تماما كما لا يختار والديه ولا مسقط رأسه ولا لون بشرته ولا طول قامته .وهنا يكمن الفرق بين الشّاعر والنّاظم أو كاتب الشّعر . فالأوّل تأتيه القصيدة فتستبدّ به فلا يستطيع إلاّ قولها ليستريح من عبء ثقيل على حين أنّ الآخر يذهب إليها ويتوسّل بالثّقافة التي حصّلها لترويضها فلا يجد إلى ذلك سبيلا فيجيء ما يكتبه متكلّفا ، متصنّعا ، ثقيلا على النّفس ، لا يحرّك فيها ساكنا .
ومن ثمّة لا يكون الشّاعر شاعرا إلاّ إذا كان يعاني اختلالا نفسيّا أو ذهنياّ ظاهرا أو خفياّ حتّى إذا قال الشّعر كان ذلك على نحو شبه آليّ لاستعادة توازنه المفقود و إن مؤقّتا في لحظات الانخطاف ثمّ يعود الاختلالُ فقولُ الشّعر فاستعادةُ التّوازن فعودة الاختلال وهكذا دواليك .
وإذا تأمّلنا قسمات وجه الشّاعر في هذه المجموعة انكشفت لنا ثلاثة مظاهر اختلال هي : التشظّي ومركّب الاضطهاد والشّعور بالذّنب .
فالإحساس بالتشظّي الذي هو ضرب من ضروب الذُّهان * طاغ على معظم قصائد المجموعة . وهو يفصح عنه إدراج اللّفظ ” مِزَق ” ( جمع ” مِزْقَة ” وهي القطعة من الثّوب الممزوق ) في ثلاثة من عناوين الأقسام الأربعة الكبرى للمجموعة . وهي ” مِزَق الشّاعر ” و ” مِزَق العاشق ” و” مِزَق القتيل ” . ولعلّ هذا الشّعور من أثر حالة التّجزئة التي تسم الواقع العربيّ على كلّ الأصعدة بلا استثناء . فتفكّك أوصال الوطن الكبير يقابله تمزّق الذّوات الفرديّة ذاتا ذاتا وخاصّة منها الذّوات المثقّفة . ومن البَدْهِيّ أن تكون الذاّت الفاقدة للتّماسك عاجزة عن التأثير الإيجابيّ الفاعل في الواقع .
ومظهر الاختلال الثاّني – وهو مركّب الاضطهاد – منشؤه في حقيقة الأمر تعطّش المثقّف عامّة والشّاعر خاصة بحكم طبعه الانفعاليّ إلى النّجومية وحبّ الظهور والبروز من جرّاء ما يعانيه من النرجسيّة والمركزيّة الذاتيّة *. فيخيّل إليه أنّه محطّ كلّ الأنظار في محيطه وأن لا شغل لمن هم حوله سوى التربّص به شرّا والكيد له ، حسدا على تألّقه والحال أن لا وزن له في نظرهم بل لا حضور له في أذهانهم ما دام لا يحمل همومهم ولا يشاركهم شواغلهم .
يقول في هذا المعنى :
ليس صديقي هذا المتشبّث بي
يتبعني من منفاي الوطنيّ إلى وطني اللّغويّ
يتفحّص آثاري الخضراء
وينبح من غيظ
فيدلّ الصّحراء عليّ لكلّ غبيّ
( ليس لي ما أضيف ص 129 )
وأماّ الشّعور بالذّنب فمردّه إلى إحساس المثقّف بالتّقصير والعجز عن القيام بالواجب الذي يفرضه عليه انتماؤه الوطنيّ والقوميّ . ويبلغ هذا الشّعور ذروته حين يصل إلى حدّ الإحساس بالإجرام في حقّ الوطن . فيتماهى وشخصيّة قابيل بعد قتله لأخيه هابيل .
يقول :
طافح بالصّدى
وقيل عنّي الكثير
قيل إنّي سرقت من الله تفّاحة
فنفاني إلى وطني
وقتلت أخي لأفوز بأختي
فجاء الغراب
يعلّمني كيف أٌهمَل في حفرة بدني
قيل ما قيل عنّي
ولا أتذكّر إلاّ القليل القليل
إنّما جنّتي الأرض وهي الجحيم
( نفسه ص ص 126 – 127 )
هذه العقد الثلاث أثّرت تأثير بالغا في سلوك الشّاعر ونوعيّة الكتابة التي يمارسها .فيرسم له صاحب المجموعة صورة حالكة انطلاقا من نفسه . فهو مشارك في الجريمة والفساد :
لأنتَ الفتى الشّاعر الأوّل الآخر البَيْنَ بَيْنَ
ولكنْ أرٌمْحٌ بيمناك يا سيّدي أم قلم ؟
ثيابك دم وخلفك ألفُ حُسين وبين يديك ثمار القُمامة
( المصدر نفسه ص 32 )
وهو الإمّعة ، النّعّام ** ، التابع ، الذّلول ، الذي لا رأي له ولا موقف والذي لا يملك أدنى رؤية نقدية .
يقول الشّاعر :
تعي أنّك الببّغاء ولكن
أماّ علّموك من الأبجديّة إلاّ ” نعم ” ؟
…………………………………..
أتجهل ” لا ” ولماذا وهل ومتى وعَلام ؟
أتجهل ” لا ” يا بشير القتامة ؟
( المصدر نفسه ص 33 )
وتقوده هذه الصّورة الحالكة التي يرسمها لذاته ومن خلالها للشّعراء العرب قاطبةً ومعهم جمهور الشّعر الغائب إلى التّساؤل على نحو أليم عن جدوى الكتابة :
ما جدوى إهداري لدمي
في رسم الموتى للموتى ؟
ما جدوى تبذيري لحياتي
في بيت اللّغة المهجور
وبيوت الدّهشة شتّى ؟
( المصدر نفسه ص 57 )
لكن لمّا كان الشّعر ، كما أسلفنا ، محنة لا يختارها الشّاعر – وفي هذا يقول :
لأنت الفتى ابن هذا الظلام العظيم
ولكنّه الشّعر لا يتغمّد إلا اليتامى
( المصدر نفسه ص 33 )
فإنّه لا يملك إلاّ الخضوع لشيطان هذا الفنّ ، مدفوعا بقوّة قدريّة قاهرة :
غير أنّي لم أكن إلاّ لأكتب
ثمّ أكتب
ثمّ أكتب
ثمّ أرحل ذات صيف
(المصدر نفسه ص 20 )
ولن يثنيه عن ذلك حتّى وضعه الماديّ المتدهور :
ما في الجُبّة غير الطّين
ما في القُفّة غير الدَّيْن
ولكنّي لن أسلّمكم هذا الإنسان
لن أمحو وجه الفنّان
( المصدر نفسه ص 20 )
وما هو في الحقيقة واع كلّ الوعي بموقعه الحقيقيّ في عمليّة الكتابة . فتارة يحسّ بأنّه مفعول لا فاعل يقوده القلم نحو الوجهة التي يشاء:
أين ضيّعتَ وجهك ؟
في غابة الخبز أم في قِفار الكتابة ؟
و إلى أين تمضي بك الأبجديّة والحزن ؟
( المصدر نفسه ص 24 )
وطورا يخيّل إليه أنّه الكتابة ذاتها :
يقول :
أنا الأبجديّة
روحي المعاني وأعضاء جسدي الحروف
( المصدر نفسه ص 26 )
ولا تحسبنّ الكتابة – والحال هذه – مأوّى يلوذ إليه الشّاعر هروبا من جحيم الوضع الأليم الذي يتخبّط فيه وإنّما هي منفى لغويّ ينتقل إليه من منفى المكان :
ليس صديقي هذا المتشبّث بي
يتبعني من منفاي الوطنيّ إلى منفاي اللّغويّ
( المصدر نفسه ص 129 )
إنّها إذن لعنة الكتابة أو الكتابة اللعينة . وهل توجد كتابة إبداعية – وضديد الإبداع الأوحد هو التصنّع – غير لعينة ؟ كلاّ ! ويلتقي في اعتقاد ذلك و القول به وتأكيد صحّته اليونانيّون القدامى إذ اشتقّوا لفظ ” العبقريّة ” ( Genius ) من الجذر ( gen ) المطابق للجذر العربيّ ” ج ن ” الذي منه ” الجنّ ” وعرب الجاهليّة حين أخذوا كلمة ” العبقريّة ” من اسم وادي” عبقر ” الذي يسكنه في تصوّرهم الجنّ و جعلوا لكل شاعر هاجسا يلقّنه الشّعر.و مثل أولئك وهؤلاء علماء العرفانياّت * المعاصرون الذين عدّوا العبقريّة صفة ولاديّة لا تكتسب من المحيط وحدّدوها في النّماء الشديد لملكات الخيال والحساسيّة والإدراك والانتباه والحدس وفصلوا بينها وبين التفوّق الذّهنيّ الماثل في النموّ غير المعتاد للمُفكّرة .
ولعلّ أدقّ صورة وأفصحها عن وضع الشّاعر التّسعينيّ العربيّ هذه التي يرسمها محمّد الهادي الجزيري في البيتين التّاليين :
هكذا نحن ما بين موت و موت نُغنّي
ونرقص من ألم الذّبح كي نتفادى السّقوط
( المصدر نفسه ص 39 )
2- الوجه الثّاني : العاشق :
إنّ من الأسباب العميقة لحالة الشّاعر الذُهانيّة المتأزّمة ، حسب ما جاء في المجموعة من إشارات متعدّدة ، النكبة التي حلّت بالعراق رمز العزّة والسّؤدد والإبداع لا للعرب وحدهم بل للبشريّة جمعاء . أ ولم تشرق منه شمس هذه الحضارة الإنسانيّة الحديثة في الألف الخامس فبل الميلاد قبل أن تشعّ على مصر وسائر مناطق الشّرق ثمّ تنتقل إلى اليونان ومنه إلى الغرب كلّه ؟ وألم يحمل آمال العرب في استعادة وحدتهم وقوّتهم وتقدّمهم العلميّ وازدهارهم الحضاري التي كانت لهم في العهد العبّاسي الأوّل ؟ وهذا التعلّق بالعراق يصل عنده إلى أعلى درجة من درجات العشق لا طمع للمرأة المعشوقة مهما كانت في أن تحظى بها . وهو ما يفصح عنه قوله :
بعد طول فراقْ
ضمّها وبكى
فتداعت له
غير أن الفتى
ظلّ يبكي ويهذي العراقْ
العراقْ
العراقْ
( المصدر نفسه ص 101 )
بل يصل عشقه لهذا البلد إلى درجة العبادة :

يا ريح يا مُعربدة
والغصن في الترابْ
والوردة المجاهدة
والله والشّيطان والدّم المُراق ْ
إنّي على دين العراق
( المصدر نفسه ص 115 )
ومن هنا ندرك أن حبّ المرأة لديه لا يمكن أن يرتّب إلاّ في درجة دنيا .وهذا ما تُبين عنه سياقاتٌ كثيرة تكشف عن كون العلاقة التي يقيمها بها أبعد ما يكون عن الحبّ .
فهي أوّلا عنده أنثى لا امرأة مخصوصة .
يقول :
هل تحبّ النّساء ؟
نعم لا أطيق فراق الحياة
( نفسه ص 61 )
ويقول :
يوم دُختُ أحاطت إناثُ المدينة بي
( نفسه ص 68 )
وهذه الأنثى تتنزّل عنده في منزلة الأداة من أدوات اللّعب ليس غير ، كما في قوله :
يا الأنثى لي لعبة
أنت الوردة وأنا الماء
( نفسه ص 68 )
لكنّه وإن كان يعترف باستحالة وفاء الرّجل للمرأة ( إذ هو يتساءل مخاطبا نفسه : هل أنتَ وفيٌّ حقّا ؟ ، نفسه ص 84 ) فإنّه من باب الأمانة يخصّص بعض القصائد لتصوير وفاء المرأة العربيّة وصدقها وتفانيها في خدمة الرجل الذي تحبّه .
وفي هذا يقول :
إنّي الضليل تبعتُ القلبَ إلى أنثى
دائمةِ البسمة خرساء
لا تنطق إلاّ كي تشهد أنْ لا يوسف إلاّيّ
وتخيط قميصي والأحلام المهترئة
وتهدهد عند صياح الديّكة
رجلا يشبهني
لكنّه مشلول أعمى يتوسّل للكأس
( نفسه ص 97 )
لكلّ هذا و إن كان حبّ الوطن والغيرة عليه ممّا يحسب للشّاعر التّسعينيّ فإنّ اختلاله الذّهنيّ يعوقه عن إقامة علاقة سليمة بالمرأة . فإذا هو عاجز عن حبّها رغم ما تكنّه له من عاطفة صادقة ووفاء .
3- الوجه الثاّلث : القتيل :
إن الوجه الثّالث – وهو القتيل – مثلما هو شأن الوجهين السالف بيانهما – وإن أفرده صاحب المجموعة في قسم خاصّ فإنّ الإشارات إليه مبثوثة في المجموعة كلّها زيادة على كونه حصيلة اجتماعهما لديه . وذلك لأنّ المقصود بالقتل إنّما هو القتل المعنويّ . وهو يتجسّم في الاختلال الذّهنيّ والنّفسيّ الذي يعانيه الشّاعر في محيطه المتدهور والذي يجعله يتصرّف على نحو مَرَضِيّ سواء مع ذاته أو مع الآخر وخاصّة المرأة . ولهذا فانّ القصائد التي أودعها المؤلّف في هذا القسم الخاصّ قد استغللنا الكثير منها في تبيان وجهي الشّاعر والعاشق .
4- عنوان المجموعة ودلالاته وأبعاده :
لعنوان المجموعة ليس لي ما أضيف معنيان محتملان يؤولان إلى معنى واحد أحدهما اختياري والآخر إجباري .فالاختياري دلالته ” أنّي وضحت بما فيه الكفاية ولا داعي إلى أن أضيف أكثر ” والإجباري معناه “أني غير قادر على الإضافة لأن الفاجعة أفظع من أن تحيط بوصفها اللغة ” .
وسبب عدم الحاجة إلى الإضافة أو عدم القدرة عليها هو أن النكبة التي حلّت بالعراق من بداية التّسعينات إلى زمن الكتابة ( 2003 ) لم تحلّ بأي قطر عربيّ منذ الاحتلال الصّهيونيّ لفلسطين سنة 1948. وذلك من حيث التّقتيل والتّدمير والتّشريد ونهب الثّروات الأثريّة .
ومعنى ذلك أن ما أفصح عنه الشّاعر في قصائد هذه المجموعة يقع في الحد الفاصل بين ما تتيحه اللّغة للشّاعر وما تقصر عنه من إمكانات القول والتّعبير .
5- الخواصّ الإنشائيّة لقصائد المجموعة :
يمكن إرجاع النّسيج البلاغيّ في قصائد المجموعة برمّتها إلى نواتين دلاليّتين رئيستين : الأولى صورة المُعتدي وما يقترن بها من شراسة ووحشيّة ودمويّة وإجرام وإفساد وتدمير والأخرى صورة المعتدَى عليه وما يرتبط بها من أوضاع كارثيّة تشمل المكان والبشر .
وهناك نَوَيَاتٌ أقلّ حضورا لعلّ أهمّها صورة الحياة اليوميّة الرّازحة تحت ثقل الرّتابة والملل وضيق ذات اليد وصورة الذّات الشّاعرة الهاربة من جحيم الواقع الكابوسيّ الثّقيل السّائد والمحتمية بالله أو بالمرأة أو بالخمر. وهي ملاذات متناقضة تشي بمدى اضطراب الشّاعر وعدم مسكه بزمام أمره .
والقاسم المشترك بين سلاسل الصّور التي ولّدتها مخيلّة الشّاعر من هذه النّوى الدّلالية هو القُتْمة والحُلْكة والبشاعة والفظاعة . وهو ما يجعلها تصبّ في مشهد مأسويّ عامّ بلغ في تأزّمه درجة الكارثة ووصل الإنسان في صلبه إلى حدّ الانكسار والانهيار والموت المادّيّ والمعنويّ .

خاتمة
لقد استطاع محمّد الهادي الجزيري في هذه المجوعة – وهي الثاّلثة في رصيده – أن يقدّم لونا جديدا من الكتابة الشّعريّة جسّد عدولا تامّا عمّا كان سائدا في الساحة الشّعريّة التّونسيّة قبل تسعينات القرن الماضي . وذلك بإنزاله الشّاعرَ من عليائه الوهميّة التي كانت تزيّن له الإطلال على الواقع من فوق وتغريه بأداء دور الخطيب المصلح أو الزعيم المبشّر بالمدينة الفاضلة أو النبيّ المجهول الذي لم يعترف له قومه بالعبقرية . وهي نماذج تعكس في واقع الأمر جهل الشّاعر العربيّ حجمه الحقيقيّ أو تجاهله إيّاه لاقناع نفسه بعكسه .
ومقابل هذه النماذج التي لا صلة حقيقيّة لها بالواقع انبعث صوت محمد الهادي الجزيري من أسفل دركات القاع الاجتماعيّ حيث يقبع الملايين من أبناء شعبه وأمّته ، مُعرّيا دونما تردّد أو خجل وبشجاعة فائقة كل أقطار ذاته ، كاشفا عن عيوبها وعقدها بصراحة نادرة .
على أنّ ما لم يقله في خضمّ هذا السّيل الجارف من الاعترافات هو أنّه ليس ، في نهاية الأمر ، سوى أنموذج للمثقّف العربيّ المعاصر الذي يمنعه تضخّم ذاته وشغفه بأداء أدوار البطولة حيث لا بطولة من التأّثير الإيجابي في الواقع لأن هذا مرتهن وجوبا بامتلاك القدرة على النّقد الذّاتيّ .

الهوامش :
محمّد الهادي الجزيري، ليس لي ما أضيف ، دار أديكوب للنّشر ، تونس 2003
مصطلحات :
*اعترافات ( Confessions )
*الذُّهان ( La psychose )
*العِرْفانيات ( La cognition )
شروح لغويّة :
*النّعّام : الذي يكثر من قول كلمة ” نعم ” .

من هو محمّد الهادي الجزيري؟ :
ولد محمّد الهادي الجزيري في 6 أكتوبر 1962 بتونس . يشتغل في حقل الإعلام . نظّم عدّة عروض شعريّة فرجويّة وأنتج الكثير من البرامج الإذاعيّة والتّلفزيّة الثّقافيّة والأدبيّة . تعدّ تجربته الشّعريّة مع تجارب زمرة من الشّعراء الشبّان من جيله في ثمانينات القرن الماضي نقطة تحوّل فارقة في مسيرة الشّعر التوّنسيّ .وذلك بإنزال الشّاعرَ من عليائه الوهميّة التي كانت تزيّن له الإطلال على الواقع من فوق وتغريه بأداء دور الخطيب المصلح أو الزعيم المبشّر بالمدينة الفاضلة أو النبيّ المجهول الذي لم يعترف له قومه بالعبقرية ، مفضّلين مخاطبة القارئ من أسفل دركات القاع الاجتماعيّ حيث يقبع الملايين من أبناء شعبهم ، مُعرّين دونما تردّد أو خجل وبشجاعة فائقة كل أقطار ذواتهم ، كاشفين عن عيوبها وعقدها بصراحة نادرة.

مجاميعه الشّعريّة:

زفرات الملك المخلوع 1994 – رقصة الطائر الذبيح – ليس لي ما أضيف 2003 – أرتميدا 2006 – لا شيء في مكانه 2009 – العاشق لا من يُنجده 2013 – يا … يا 2013 ( شعر بالدّارجة التّونسيّة ) – نامت على ساقي الغزالة 2014 (على جائزة ” أثير ” لأفضل مجموعة شعريّة عربيّة لسنة 2014 ).

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*