ألسنَا بخيرٍ؟: (مقطعان من قصيدة طويلة) : شعر: محمّد مراد أباظة – شاعر سوريّ مقيم بأبخازيا

محمّد مراد أباظة

 

أَلستَ بخيرٍ صديقي؟

ألسنا جميعاً بخيرٍ؟

فمازالَ كوكبُنا القُزَحيُّ يَجولُ كَعادتِهِ الأزليَّةِ في مَلَكوتِ الخيالِ

ويَمضي بنا في رحابِ العجائبِ دونَ كَلَلْ

وما زالتِ الشَّمسُ تُزهرُ كلَّ صباحٍ

مُلبيَّةً رَغَباتِ الصّغار وصَبْوَ الطّيورِ ونَزْوَ الفَراش

وترحلُ حينَ ترشُّ حكاياتُ جَدّاتِنا في جفونِ الط”فولةِ ألوانَها

وتُنمنمُ فوقَ وسائدِهم أغنياتِ النُّعاسِ

وتذبلُ كلَّ مساءٍ ودونَ ملَلْ.

ومازالتِ الأنجُمُ الرّافلاتُ كأُسطورةٍ في ضبابِ الخُرافةِ

ترسو على شاطئِ السُّهدِ أُنساً

وتأسو الذينَ نَفَتْهُمْ سآماتُهُمْ في زحامِ الشُّجونْ.

ومازالَ ليلُ العُذوبةِ يوقظُ في العاشقينَ لُغاتِ تواصُلهمْ

وفُنونَ تَاَلُّقهمْ وطُقوسَ تَفَرُّدهمْ بالبراعةِ

كي يُفعموا وقتَهُمْ بسُلافِ ابتكاراتِهمْ ورَذاذِ الذُّهولْ.

وجَمرُ التَشرّد مازالَ يُشعلُ في الشُّعَراءِ دَفينَ احتشاداتِهمْ

كي يَصوغوا جُنونَ اعترافاتِهمْ في نشيدِ الرَّحيلْ.

ومازالَ فَيْضُ الرَّغائبِ يَنسجُ للحالمينَ بما قد يجيءُ، وقد لا يجيءُ،

فضاءاتِهمْ في مرايا المنامْ.

وكلُّ الفُصولِ تُجَدّدُ دوماً مواعيدَها

وتَمُنُّ علينا احتفالاتُها كي تُذَكّرَنا كلَّ عامْ

بأنَّ قوانينَ هذي الطّبيعةِ راسخَةٌ لا تَزوغُ

وأنْ لا مَخافةَ منْ أنْ يَحُلَّ اضطرابٌ بها قد يُخلُّ بسرِّ تَناغُمِها

وثَباتِ حَصافتِها المطلقةْ.

أَلَسْنا جميعاً بخيرٍ إذاً يا صديقي؟

فبالرّغمِ ممّا نَنُوءُ به منْ هواجسَ سوداءَ مُلْغَزَةٍ تستَبدُّ بنا فَجأَةً

ووَساوسَ مُحرجةٍ تَستفزُّ نوازعَنا في مَهَبّ الظُّنونْ

وبالرَّغمِ من بوصلاتٍ تُحايدُ سَمْتَ اشتهاءاتِنا

وتُخاتلُنا في متاهاتِنا المغلَقَهْ

وتُومي إلى حيثُ لا نبتغي أنْ نكونْ

فثَمَّةَ رَجْوٌ، خلافاً لما يَدَّعي الأشقياءُ -كأمثالِنا المولَعينَ بفكِّ رموزِ الرؤى المقلِقةْ

يُهَيّئُ للمُتعَبينَ وَثيرَ الأرائِكِ كي يستريحوا أخيراً

وهَدْهَدَةً من هديلِ الهوى كي يناموا عميقاً.. عميقاً

ويَنسَوا خسائرَهُمْ في احتلاكِ السّنينْ.

وثَمَّةَ أُفْقٌ، وطبقاً لما يوقنُ (الحُكَماءُ)،

يُوَطّدُ للخائفينَ ملاذاً حصيناً

يُحرّرُهمْ من مخاوفِهمْ، ويُباركُ فيهمْ طُمأنينةً لا تَروغُ

وثَمَّةَ ضوءٌ يُمَهّدُ للهائمينَ دُروبَ الخلاصِ

ليُنقذَهُمْ من إسارِ مآزقِهمْ واختلاطِ الشُّكوكِ بجَدوى اليقينْ.

فلا خَوفَ من أيِّ خوفٍ، فنحنُ بخيرٍ

ووَحْيُ البَداهَةِ يَقضي بألاّ نخافْ

وممَّ نخافُ؟ أليسَتْ أزقَّةُ هذي الحياةِ سَتوصلُنا ذاتَ يومٍ

إلى مُستَقَرٍّ لَنا آمنٍ في ختام المطافْ؟

لماذا إذاً لا نكونُ بخيرٍ وكُلُّ الأُمورِ تسيرُ بلا عَوَجٍ و(تَمامَ التَّمامْ)؟!!

 

(2)

ألَستُ بخيرٍ صديقي؟

وكلُّ شؤوني أليستْ تسيرُ إلى ما يُرادُ لها أنْ تسيرْ؟

وإنْ كانَ في الصَّدرِ شَكٌّ بأنَّ الطريقَ

إلى ما أُريدُ الوصولَ إليه يَسيرْ.

ألَستُ بخيرٍ؟

فما زالَ قلبيَ يَخفقُ، لَوْ باضطرابٍ نَزقْ

ويَشرَعُ في الرَّقصِ مُنتشياً كَسُنونُوَّةٍ أفلَتَتْ

من كَمينِ الصَّقيعِ وسَطْوِ الكآبة

إنْ زَقزَقَتْ ضحكةٌ في بَراحِ الطُّفولَةِ ذاتَ أمانْ.

ومازالَ يَجمَحُ مثلَ حصانٍ نَفورٍ يُجَنُّ

ويَصهلُ تَوقاً إلى صَولَةٍ يستردُّ بها روحَهُ الجبليَّةَ

بالرَّغمِ منْ عثَراتِ انكسارٍ تُباغتُهُ كلَّ حينْ

وبالرَّغمِ منْ خَلَلٍ في لُهاثِ الدّماءِ

وخَلخَلَةٍ في التّوازُنِ تَفجَؤُهُ في مضائقِ هذا النّهارْ.

وما زالَ يُطلقُ، كالعادةِ، القهقهاتِ الطَّويلةَ منْ عُمقِ أعماقِهِ

لتَرُجَّ دُخانَ اللّفائفِ في جَنَباتِ المكانْ

وتنبُشُ في سَهَراتِ الرَّزانَةِ رُكنَ الصَّخَبْ

إذا ما رَوى أحَدٌ منْ رفاقِ كُهولَتِهِ نُكتَةً بذكاءٍ ولَمْزٍ خَبيثَيْنِ

بالرَّغم منْ تَوأمَيْه اللَّدودَيْنِ: حزنِهِ والتَّعَبْ.

أَلَستُ بخيرٍ صديقي؟

فما زلتُ أقوى على خَلْس شيءٍ منَ النَّومِ

في غَفلَةٍ منْ جُموحِ الصُّداع

وأقوى على حُلُمٍ مُزمنٍ مُؤْتَلقْ

وفي كلّ صبحٍ أُفاجئُ نفسيَ بالاندهاشِ

لأنّيْ استطعتُ الإفاقةَ ثانيةً

بعدَ ليلة وَجْسٍ ثقيلٍ وهَذْيٍ طويلٍ.

وأقوى على بعضِ صبرٍ، لَوْ لوقتٍ،

وَوَقتيَ يَصدأُ في هُوَّةِ الانتظارْ.

وأقوى على الاعترافِ بأَنّيْ ألوذُ ببَعضِ البكاءِ

إذا ما خَلَوْتُ بيأْسيَ في لَحَظاتِ الحصارْ.

ألَستُ بخيرٍ صديقي؟

فقلبيَ هذا العَجوزُ الشَّغوفُ الشَّرودُ القَلقْ

وبالرَّغمِ منْ عَبَثيَّةِ أيّامِهِ

لا يَزالُ يُقَدّسُ سرباً منَ الأُغنياتِ النَّبيلةِ

تلكَ التي يَحتسيها مُعَتَّقَةً كنبيذِ القصائدِ في حانةِ الرُّوحِ

ويُدمنُ نُبْلَ الجَمالِ الأنيقِ يُرَنّمُ في كلِّ لونٍ شَفيفْ

ويعشقُ -مُحتَفلاً بصُداحِ الشَّذى-

مَيَسانَ الأُنوثَةِ في كلِّ خَطوٍ رهيفْ

ويَنسى -لبعضٍ منَ الوَهمِ- أو يَتناسى حُلولَ الخريفْ

على وجنتَيْهِ قُبَيْلَ الأوانِ

خُلاصةَ حشدٍ منَ الذّكرياتِ الحميمةِ لم يبقَ منها

سوى رَعَشاتِ صَدًى

وإرثاً منَ الأمنياتِ الفريدةِ قد صوَّحَتْ وتلاشَتْ سُدًى

وبالرَّغمِ منْ كلِّ هذا أَلَستُ بخيرٍ كما أدَّعي يا صديقي؟

وكلُّ أُموري أليسَتْ تسيرُ على ما يُرامْ؟

 

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*