للمساءات ألوان : قصّة لأميمة إبراهيم – حمص – سورية

11074718_415329895310680_8921383249746428528_n
سألَها في فورة حبٍّ أو نكدٍ أو جنون عن ألوانها المفضّلةِ لمساءاتها العابقةِ بعطرِ النّارنجِ.
أجابَتْهُ: “ببساطةٍ لا شيءَ … لا لونَ محدداً يجذبُني أو يُغريني. فقد أنهيْتُ كلَّ الألوانِ منذُ مساءٍ بعيدٍ… بعيد.”
غيرَ مصدّقٍ ما يسمعُ، تتحرّكُ حدقتاه في دهشةٍ، وتشفُّ خطوطُ جبينهِ عن استغرابٍ . تنظرُ إلى عينيه العسليتين، وتبدأُ حكايةَ ما قبل ألفِ ليلةٍ ولهفةٍ:
_ ” منذ مساءٍ بعيدٍ، بعيدٍ … ضاعَ زمنُه من تقويم ذاكرتي، ارتديْتُ ثوباً ملوّناً بكلِّ ألوان الطّيفِ، ما أضاعَتْ فراشةٌ ألوانَها إلّا وجدَتْها في حديقةِ ثوبي. وتلاقى فيه البحرُ والجبلُ، السّماءُ والغيمُ، الشّجرُ، العشبُ، الزّهر، الوردُ، الطيرُ … وكنْتُ أعرف أني ما إن أبدأُ الرّقصَ والدّورانَ حتّى أتحوّلَ حمامةً بيضاءَ ترفُّ، وترفُّ، ثمَّ تهبطُ، تنقرُ الحبَّ، وتفزُّ برشاقةٍ لتتابعَ رفرفتَها، ودورانَها الحميمَ في فضائِها المثيرِ.
وهكذا كان… أنهيْتُ كلَّ الألوانِ منذُ أوّلِ دهشةٍ، ولم يعدْ هناكَ داعٍ  إلى البحثِ عن ألوانٍ أصبغُ بها ملابسي، أو مساءاتي أو صباحاتي. وصرْتُ أنتقلُ من يومٍ إلى آخرَ، ومن فصلٍ إلى آخر، ناسيةً علبَ التّلوين وغلالاتِ الرّقصِ التي أودعْتُها أدراجَ خزائني. ما حاجتي إلى الألوانِ؟! والفضاءُ – حيث أنا – لا يريدُ لغير الحمائمِ أن ترفَّ بأجنحتِها أو تعبرَ سماءَهُ!”.
بينَ مصدّقٍ ومكذّبٍ يهزُّ رأسَه: ” أنهيتِ كلَّ الألوانِ؟؟!”.
¬¬_”نعم … هل تحبُّ أن ترى وتتأكدَ… إذاً سأدورُ وأدورُ في رقصةِ الحمامِ. لن ترى إلا اللونَ الأبيضَ … بياضٌ يزهو فتصفو نفسُكَ، وتشعرُ بالأمانِ.
بياضُ ثلجٍ … اقتربْ ها هنا دفءٌ لذيذٌ. أما جرّبْتَ أن تفرَكَ يديكَ بكرةٍ ثلجيّةٍ لتنعمَ بدفءٍ عزَّ مثيلُه.
أم تراكَ تحبُّ بياضَ الغيمِ … تعالَ إليَّ أظللْكَ من حرِّ صيفٍ اشتدَّ لظاه”.
يهزُّ رأسَهُ نائياً عن البياضِ الثّلجيِّ، ويحثُّها  على  الاستجابة ليديه الدّافئتين. فتذوبُ الكرةُ الثّلجيةُ، وتنهمرُ في أرضهِ نبعَ ماءٍ!. لكنّها لا تجرؤ أن تتخلّى عن البياضِ الذي يختزنُ كلَّ الألوانِ فتمزجُ بالأبيضِ قليلاً من الأسودِ، لتصيرَ غيمةً ماطرةً تسقي تربتَه قبلَ أن يشقّقَها الجفافُ، ستغمرُه مطراً في ليالي الشّتاءِ الباردةِ. سيرتجفُ، ويتبلّلُ … لكنّه إذا ما اغتسلَ بمائها ستهيمُ روحُه في نشوةٍ غامرةٍ.
-” أتشعرُ بالبردِ؟ ما رأيُكَ بالأزرق والأبيض؟ أتريد أن تكونَ سمائي أم بحري؟ اخترْ ما شئْتَ… إن كنْتَ سمائي سأتحوّلُ طيراً أبيضَ أرفرفُ في فضاءاتِكَ، وإن كنْتَ بحري ترفّقْ بي ولتكنْ أمواجُك هادئةً فما أنا إلا نورسٌ مهيضُ الجناح.”
ينتفضُ غاضباً: ” تدورين وتدورين، تخلطين الجِدَ بالهزلِ وتعودين إلى الأبيض. كرهْتُ الحمائمَ والنّوارسَ … كوني أكثرَ حياةً، أشدَّ ألقاً وأنوثةً، تفجّري ألواناً وأنغاماً.”
يشتعلُ دمُها بنداءٍ غامضٍ، تتوتّرُ عروقُها، تفورُ الأنغامُ في حنجرتِها، تهرعُ إلى ألوانِها فتمزجُ الأحمرَ والأصفرَ لترتديه برتقالاً يتوقّدُ لهباً. تومئُ إليه: ” تعال تذوّقْ برتقالي، استمتعْ بطعمهِ الحائرِ بين الحلو والحامضِ، وإن رغبْتَ أتحوّلُ مشمشاً أو نارنجاً … جرّبْ مذاقَ النّارنجِ الغريبَ، المتأرجحَ بين حلوٍ ومرٍّ… كم أشبهُ النّارنجَ ويشبهُني، حتّى  إنَّ رائحتَه تخزّنَتْ واستوطنَتْ في شراييني.
أم تريدُني شمساً في عزِّ ظهيرةٍ؟ صدّقني لا أريدُ لشرايينِك اشتعالاً… أخافُ عليكَ من الحرائقِ تلتهمُ بيادرَ سنابلِكَ.”
–    ” أتريدين إسعادي؟ هيا ارقصي وتوهّجي”.
–    ” سأرقصُ بمرافقةِ الأحمرِ والأسود، سيمتزجان ليصيرا نبيذاً، خمراً…. سيُسْكِرُكَ لوني. فدعْ روحَكَ تنتشي، واشربْ كأسي  حتى  الثّمالة. لا تخفْ لن تنفدَ ألواني، من أجلِكَ سيتعانقُ الأحمرُ والأزرقُ ليتوحّدا بنفسجاً… هو اللونُ الشَّفيفُ الحزينُ… عتمةُ ما بعدَ الغروبِ، قبلَ سطوةِ اللّيلِ… هو أوانُ اللقاءِ في حقولِ الغموضِ، والأسرارِ الإلهيّةِ”.
–    ” غامضٌ ما تقولين… ما بين مدٍّ وجزرٍ تراوحين، ما بين رفضٍ وقبولٍ تحتار روحُكِ، وما بين واقعٍ وحلمٍ تتأرجحين. عجيبةٌ أنتِ تجمعين الموتَ والحياةَ. وأنا أريدُكِ تمورينَ بالحياةِ مثلَ شعلةٍ زرقاءَ … ما رأيُكِ دعي الأزرقَ يرتديكِ … جرّبيه”.
–    ” لا … فهو لا يُشبهُكَ… ليس لونَكَ… لكنّي سأستعيرُ لكَ قليلاً منه، وأمزجُه بالأصفرِ، فأهلُّ عليكَ ربيعاً … آتيكَ ربيعاً في سطوةِ الخريفِ… يتجدّدُ دمُكَ ويتدفّقُ في عروقِكَ. تفورُ الحياةُ ينابيعَ خصبٍ. أما قُلْتُ لكَ: بعضُ دفءٍ، بعضُ مطرٍ… تزهرُ الأفنانُ وينبثقُ النّرجسُ من شقوقِ الأرضِ، طاغياً بحضورهِ على كلِّ الزّهورِ البريّةِ”.
–    ” ذكّرني النّرجسُ بالأصفرِ … أشتهيكِ بغلالةٍ صفراءَ، وخطوةٍ راقصةٍ جريئة، يداعبُ قدميكِ الحافيتين ترابُ حديقةٍ طالَ انتظارُها للرّقصِ”.
–    ” سأرقصُ بعد أن يتماهى الأصفرُ والبنيُّ التُّرابيُّ في عناقٍ شغوفٍ، فيولدُ العسليُّ. العسليُّ لونُ عينيكَ العابثتين، الحزينتين، الغامضتين، لونُ عينيَّ الباكيتين، الرَّاحلتين نحو المجهولِ. شهدُ كلامِكَ حينَ لا تريدُ للزّمنِ أن يتوقفَ عند كلمةٍ. طعمُ الحياةِ حين يسكنُها فرحُكَ. لذّةُ اللّحظاتِ الهاربةِ المسروقةِ من غفلةِ الأيامِ. هكذا يا… دعني أقلْ يا صديقي… يا عصفوري… هكذا تتوالدُ الألوانُ وتزدهي لوحةُ الحياةِ. سأكتشفُ كلَّ مساءٍ لوناً جديداً. أرتديه، ويرتديني. وسأرقصُ بمؤازرةِ غيمٍ أو ضبابٍ، يشفُّ فتراني. يتكاثفُ فتبحثُ عني، ينجلي
تُمْسِكُ بي، فأفرُّ هاربةً مذعورةً أصدحُ بالأغنياتِ، وأدعوكَ لتبحثَ عني، فإذا ما اقتربْتَ، أو سمعْتُ نداءَكَ المنهمرَ في سمائي سرباً من العصافيرِ ضجّتْ في عروقي حرائقُ وخرائبُ حتى أنزفَ قصائدي. فأهرب على كفِّ الحكايةِ، حيثُ شرنقتي البيضاءُ تنتظرُني لأقبعَ فيها منتظرةً أن يأتيَ نَسّاجٌ ماهرٌ، يفكُّ خيوطَها، ويُلوّنُها بما رغبَ من الألوانِ، وينسجُها أقماراً تزيّنُ مساءاتهِ. أو يأتي عازفٌ ماهرٌ حنون لا تتركُ أنغامُهُ فرصةً للعزوفِ عن الرّقصِ، فأرتدي في مساءاتِ الخريفِ، ما توقّدَ وتأجّجَ من الألوانِ”.

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*