روبابيكيا : قصة قصيرة – ريتا الحكيم – اللاذّقيّة – سورية

ريتا الحكيم

تنضو عن جسدها البضٍ وعثاء رحلتها، تستلقي عاريةً من كلِّ شيءٍ إلا من حزنٍ يغلِّف وجهها، تبدو كتمثالٍ من الشَّمع لا روح فيه، ولا حياة.
تتغلَّب على شرودها، وتنتبه إلى عُريها، تلفُّ جسدها بملاءة السَّرير البيضاء، وتسترجع أحداث يومها الثقيل.
تتساءل في سرِّها عن خلوِّ جدران غرفتها من صور أولادها، وزوجها، مع أنها كانت مكتظةً بها.

لم تعتد بعد على رؤية جدران شاحبة.. خالية من وجوههم الباسمة.
تعزو الأمر إلى أن “بياتريس” كسرتها وهي تمسح عنها الغبار، وأخفت آثارها كي لا تتعرَّض للتَّأنيب واللَّوم.

يعلو صوتها وهي تنادي على “بياتريس”:
– أين أنت؟ لِمَ لا تأتين إليَّ بالفطور كعادتك؟
تتذكر أنها استأذنتها في الذهاب إلى السوق لقضاء بعض الحاجات.. تعلم تمامًا أنها في طريقها .. ستلتقي بصديقةٍ لها، وتتسكعان قليلا في شوارع المدينة، ثم تعودان أدراجهما.. كل منهما إلى عملها، وربَّما تضيِّع بعض الوقت بتأمُّل واجهات محلات الألبسة.

تتساءل في سرِّها: مَن هي “بياتريس”؟ لماذا تتحدث عنها وكأنها شخص قريب منها؟ ربما قرأت عنها في إحدى الروايات؛ فاستحضرتها في اللاوعي في ذاكرتها لتكون عونًا لها في هذا المكان المظلم البارد.

يخيِّم صمتُ قاتل يشعرها بضيق الأنفاس.. تسري رجفة في جسدها تزيد من توتُّرها، تحرِّر شعرها على أمل أن يزول صداع رأسها الذي اشتدت وطأته بسبب ربطة الشَّعر تلك.

وهي في ذروة تخميناتها تسمع نحيبًا آتيًا من جهة الباب، تنصتُ بانتباهٍ لتميِّزَ صاحبَه، تخونها الذَّاكرة، تستجمع آخر خيوطها، وتستقرئ من خلالها نبرةً مألوفةً لديها لكنها تعجز عن تحديد هُوية الصَّوت، تشعرُ به يزحفُ على جسدِها وكأنَّه يتحدَّاها، تغرقُ في الذِّكرياتِ علَّها تتذكره؛ لتتفادى هذا الزَّحف الكبير، والإحساس بالخدر، وغموض الأشياء التي تطوِّقها، وتجعلها في حيرةٍ من سبب وجودها في هذا المكان.

كان الصوت ضعيفًا بعض الشَّيء مما اضطرها لأن تركِّز كل حواسِّها لتلتقط بعض الكلمات وتؤسِّس لحوارٍ يجري وهي خارج إطاره.. أو ربَّما تكون هي محوره.

تتحسَّس “رولى” براحة يدها الجانب القصيَّ من الفراش، تسري في جسدها برودة لم تعهدها من قبل، تمرِّر أصابعها على شفتيها، تجدهما أرضًا بورًا لم يُؤتَ حرثهما، تدعك فروة رأسها وكأنها تستحضر منه لحظاتٍ من زمن ما، تستجلب وجوهًا ألفتها، وابتساماتٍ حفظتها عن ظهر حُب، ترتِّب المشاهد بحسب تسلسلها الزَّمني.

لم تكن الحياة خيارها وإنما كانت ثمرة نشوة تشاركية بين ذكر وأنثى.. أخذت صفة شرعية تحت مسمى عقد الزواج، ربما لو خيروها لرفضت أن ترى نور الحياة الباهت.

وجدت نفسها بين خمسة إخوة ذكور، وكان عليها أن تكون تحت سلطة ذكوريتهم الموروثة أبًا عن جَد، وهذا وضع لم تستسغه أبدًا، وسعت جاهدةً للتمرُّد عليه، لكن دون أن تحدث خللًا في منظومة أبٍ متشدِّدٍ، وأمٍّ لا حول لها ولا قوة حتى مع أبنائها.

شهدت تحت سقف بيت العائلة حروبًا طاحنةً، حاولت فيها أن تنصر الحق لكنها لم تفلح في ذلك أبدًا.
كل هذه الذكريات تسهم في زيادة قلقها ممَّا يحدث خلف هذا الباب الموصد.

كم تكره الأبواب الموصدة! يمر في مخيلتها طيف
“أم ميخائيل” صاحبة المنزل الذي استأجرته منها هي وزوجها بعد نزوحهما من الحي الذي كانا يسكنان فيه، ورغم أنه كان من مخلفات أزمنةٍ قديمةٍ، ولا شيء فيه من وسائل الراحة لكنهما رضيا به لأنه في زقاق قريب جدًّا من وسط المدينة حيث تقيم أمها بعد وفاة والدها..

“أم ميخائيل” امرأة لا تشبه أيَّ امرأة عرفتها.. تتصبَّب عرقًا في كل خطوة تخطوها، يهتز جسدها صعودًا ونزولًا بسبب كتل الشحوم المتراكمة عليه، كانت قد احتفظت بغرفة في هذا البيت تضع فيها أشياءً خاصةً بها، وتبيح لنفسها أن تفتح باب البيت بمفتاح إضافي تحتفظ به بحجة أنها تأتي من حين لآخر لتفقُّد أغراضها التي لم تكن تعرف رولى ماهيتها.. في إحدى المرات جمعت أم ميخائيل بناتها.. اقتحمت المنزل كعادتها، فتحت تلك الغرفة السريَّة، وأخرجت ما فيها متذرِّعةً  بأنها تريد تهوية الملابس التي تخزِّنها فيها.. خاصة وأن الطقس مشمس.. فوجئت “رولى”بأن تلك المرأة الشحيحة تحتفظ بملابسها، وتلك التي تخص بناتها مذ كن طفلاتٍ صغيراتٍ وحتى يوم حدوث تلك الواقعة التي أثارت فضول رولى؛ فسألتها بدهشةٍ:

– لمَ تحتفظين بها إلى الآن؟ أغلبها بطلت موضتها ولا يمكن ارتداؤها اليوم.. حريٌّ بكِ أن تتبرعي بها منذ زمن بعيد لمَن هم بحاجةٍ لها.. كان رد “أم ميخائيل” صاعقًا:
– الموضة تتغير من وقت لآخر، ولكنها تعود إلى الظهور فيما بعد.. تاريخ الموضة يتكرر ويعيد تدوير نفسه.

ذُهلت “رولى” من ردِّها الذي ينمُّ عن لامبالاةٍ بأحوال الناس المزرية بسبب الحرب الدائرة في البلد.. شعرت بغصَّةٍ، ورغبةٍ بالتقيؤ في حضن “أم ميخائيل” انتقامًا منها لفقدان إحساسها وإنسانيتها.. تذكرت ما قامت به والدتها لتسهمَ في إعالة عائلة نازحةٍ من مدينة بعيدةٍ محى معالمها القصف المتكرِّر؛ فخلت من سكانها.

كم تشبه “رولى” أم ميخائيل في هوسها بعدم التفريط بأشيائها.. إنها تكدِّس ذكرياتها في خزانتها وكلما اشتاقت إلى بعض الهواء النقي تفتحها، وتنشر محتوياتها على حبال واقعها الحالي؛ لتحيك منها حكاياتٍ بأكسسوارات، ورؤى جديدة.

طيف شابٍّ من زمن بعيد كانت قد قابلته في ظروفٍ غير عاديةٍ بعد غيابه فترةً طويلةً دون أن تعرف السبب لكنها سمعت لغطًا مفاده أن جهاتٍ أمنيةً تلاحقه، إنه “عادل” زميلها في العمل.. وجهًا لوجه التقيا صدفةً في مدينة أخرى.. اندفع إليها بكل مودةٍ وألقى عليها التحية.. لم تخبر أحدًا عن الأمر حتى هذه اللحظة.. احتفظت بالسرِّ وعلمت فيما بعد أنه قد تم القبض عليه وبقي بضع سنواتٍ في السجن.. هذا الطيف مسح الغبار عن ذاكرتها وتربَّع بجانبها.. في لحظة ما شعرت أنها تسمع صوته، وتشعر بحركته وخطواته وكأنه يقول لها:
– نحن متشابهان يا رولى.. أنا كنت بين أربعة جدرانٍ مدةً كفيلةً بأن أتجمد من صقيع الوحدة والخوف.. وأنتِ الآن مثلي تناشدين جدرانًا باردةً تطبق على أنفاسكِ.

أناسٌ كثيرون خدشوا طيبتها.. الذين أحبتهم هجروها، والذين أحبوها هجرتهم.. هكذا هي حياتها، ما رغبت به لم تحصل عليه وبالعكس ما حصلت عليه لم تكن تريده.

تحسَّست جسدها العاري، وتمنت في تلك اللحظة أن تكون أثواب أم ميخائيل في متناول يدها لتتمكن من الخروج من الغرفة، وتفهم ما يدور خلفَ هذا الباب الذي لا تستطيع أن تتخطَّاه بحالتها هذه.. كل التكهنات والفرضيات التي وضعتها لم تكن كافيةً لتفسير ما يجري.

عادت مرَّةً ثانيةً إلى مناداة “بياتريس” بإلحاحٍ وجسدها يرتجف من البرد.. لم تسمع ردًّا أبدًا وكأن جدران الصمت المخيِّم في الغرفة الباردة قد فرضت عليها صراخًا مكتومًا لا تنفذ منها ذبذباته.. ها هي الآن تُفتِّش بين هلاهيل خيباتها المستعمَلة والتي لا تصلح لإعادة التدوير، علَّها تعثر بينها على أرواحٍ صمتت إلى الأبد منذ أمدٍ بعيدٍ وتركت لها باب الموتِ مُواربًا..

تنهض على عجلٍ بعد أن تناهى إلى سمعها بشكل واضح صوت أخيها وزوجها يتجادلان حول مكان الدفن.. في مدافن العائلة أم في تلك التي تخص طائفة عائلة زوجها؟
سقطت البلاد في الهاوية وما زالوا يختلفون على طقوس الدفن.. كم تمنت أن يعملوا بوصيَّتها، ويحرقوا جثتها ويذرونها في البحر!

الآن فقط عرفت بعد صحوةٍ خاطفةٍ أنها تحتضر، وأن كل ما سبق لم يكن إلا سكرات الموت التي اختصرت زمنًا مضى في لقطاتٍ خاطفةٍ استعادتها بين صحوةٍ وأخرى.. بصوتٍ عالٍ تحصي خطواتها على بلاط الغرفة المؤدي إلى بوابة السماء الواسعة، لم تعد تسمع النحيب والعويل، تجر خلفها ملاءة السرير البيضاء وتطأ عتبة العدم.
 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*