علاقة الشّعر بالفنون البصريّة في “ليس سوى أغنية” للشّاعر التّونسيّ محمّد بوحوش :محمّد عرش – المغرب

محمّد بوحوش

محمّد عرش

 

يدرك قارئ ديوان” ليس سوى أغنية”، وجود علاقة وطيدة، بينه وبين الفنون البصريّة؛ وقبل تحديد طبيعة هذه العلاقة، يعمد الشاّعر إلى توزيع ديوانه إلى كتابين:”كتاب الذّات”، ويحتوي على ثلاث وثلاثين قصيدة، و”كتاب الآخر” ويشتمل  بدوره على إحدى وخمسين قصيدة، والفارق بينهما ثمانية عشر نصّا؛ إذن ما بين “كتاب الذّات” و”كتاب الآخر”، مسافات واستعارات، وطرق شتّى متّسعة وضيّقة، حسب طبيعة الحمولات والمرجعيّات. تتعدّد الوجوه والأقنعة، ويبقى في نهاية المطاف وجه واحد يرى، ويبصر الأشياء والرّوح، لتحديد الفرق بين الهويّة والغيريّة عطفا على الفيلسوف الفرنسيّ ‘إيمانويل ليفيناس’، أي رؤيتي للآخر لا تنفصل عن وجهي بأيّ وجه من الوجوه.  إذن ما الّذي ينوب عن الذّات، في تحديد إطارها وعلاقتها بالمكان داخل وخارج الإطار؟ وما الّذي يجعل السّؤال يدنو من رغبة الفكر؟

إنّ الأداة الّتي تنوب عن هذه الأسئلة المطروحة، بالنّسبة إلىالمبدع، هي اللّغة الّتي يشكّلها تبعا لنفسيته، ومرجعياته. ويزداد الأمر تعقّدا، إذا جعلنا اللّغة، تدنو من عالم الفنون البصريّة، دون تحديد، لتشمل الصّورة الشعريّة، السّينما، والنّحت والفراغ والرّقص والحركة؛ فهل يتوفّر كلّ ذلك، أو بعض ذلك في “ليس سوى أغنية “للشّاعر محمد بوحوش؟.

مهّد الشّاعر لمنجزه بمقدّمة، تؤكّد انفتاحه على ثقافات العالم بشتّى أنواعها وأجناسها، وتقاطعاتها مع ما هو فلسفيّ وحضاريّ، وكذلك تمكّنه من التّراث لغة وتركيبا؛ باعتبار هذه المقدّمة مرشدا، أو فنارا يهدي من يضلّ، أو على وشك أن يضلّ في سراديب شعريّة النّصّ، ولكن يتعيّن على من يقرأ محمد بوحوش، ألاّ يبدأ بقراءة المقدّمة، بل عليه التّعامل مع “الأغنيات”، المجتمعة في صلب “أغنية “، أي أنّ هذه النّصوص الشّعريّة أغنية، وكلّ أغنية تتقيّد بآلات موسيقيّة، ومقامات، وحين الانتهاء من مرافقة النّصوص، عليه أن يعود إلى حضن المقدّمة. إنّ التّعامل مع المشروع الشّعريّ، يتطلّب التّمييز بين المفاهيم الماديّة على مستوى المعجم، والمفاهيم العلائقيّة على مستوى نحويّ للّغة، أو التّمييز بين مستوى الاختيار، ومستوى التّوزيع، وهذا ما انتبه إليه عبد القاهر الجرجاني في كتابيه :”دلائل الإعجاز “و”أسرار البلاغة ” بخصوص الجمل، وتحوّلها إلى علائق نحويّة في الخطاب الشّعريّ. كلّ ذلك يتطلّب تعاملا خاصّا مع كتابي “الذّات”و “الآخر “، ثمّ علاقة العين بالمكان الموجود داخل الإطار، وخارجه، نظرا  الى اختلاف نوعيّة الرّؤيا، ودور الخيال والذّاكرة، أي ما يتطلّبه الكشف عن كيفيّة توظيف اللّغة، وقلق المبدع وتوتّره أثناء الإبداع. في “كتاب الذّات “تتمّ أنسنة الأشياء، والطّبيعة، وخلق علائق بين المجرّد والمحسوس، حتّى تتحرّك الجمل، حسب الفضاء أي حسب تمددّها أو تقلّصها في البياض، وتحرّكها ما بين ماء النّصّ، وعاطفة الشّاعر، وتتنوّع النّوافذ الّتي يطل منها الشّاعر والمتلقّي، ويطلّ منها النّصّ تبعا لطبيعة الإطار.

ففي نصّ “إيقاع صوفيّ “، يتمّ الترّكيز على الحواسّ بشكل لا يمكن فصله عن ثقافة الشّاعر، وتعامله مع الطّبيعة واللّغة “المرج الأشقر/والعينان الخضراوان،/شهد الثّغر الطاعن في القبلات …/سيجارتان،/ودخان يملأ أرجاء الغرفة،/دخان مزدحم بالذّكريات/لهب الشّراشف أيضا/السّرير الدامع “ص11. إنّ المتأمّل في هذا المقطع، يدرك تفاعل كلّ من الطّبيعة ،مع حاسّة البصر “عينان خضراوان” والجوّ العابق بالدّخان، داخل المكان “الغرفة”، وتراسل خيوط الذّكريات، وهذا التّفاعل تمّ بشكل كيميائيّ، عن طريق اللّغة، وبراعة التّوظيف. في “وحدي سأحرس بسمة الموناليزا” تتشابك الذّات مع الشّكل الهندسيّ، من أجل التّقارب والتّوازي بين بسمة الحبيبة، وبسمة الموناليزا والجامع بينهما الخجل تبعا للحالة النّفسيّة، ولا يكتفي الشّاعر بذلك، بل يوظّف حاسّة الشمّ، الّتي تضفي مسحة جماليّة على المشهد البصريّ. إنّ نصوص “كتاب الذّات “تتفاعل مع ما هو ذاتيّ، وتلتقط تفاصيل الطّفولة، بشكل نوستالجيّ، يجعل كلّ ما التقطته ذاكرة الشّاعر، يأتي على حاله كمادّة خامّ، ببراءته، وحميميته.

أمّا “كتاب الآخر” فلا يلغي”كتاب الذّات”، بل يتساوق معه، ويتمّم ما خجلت الذّات عن البوح به “مائل على كتف وردة، أمشي باهتا… وأفكّر في وطن شحّاذ” ص51 ، حيث تنفتح الكوّة على اليوميّ والواقعيّ، بطريقة غير تقريريّة وباردة، بل بلغة شعريّة أخّاذة، وهنا يفسح الشّاعر المجال للّغة لتتعانق مع الأشياء والحيوانات، والحشرات، كرموز لتكمل طبيعة المشهد البصريّ، وتجعله واقعيّا، رغم سرياليته “مسرفا في العدو أقطع اللّيل كسلحفاة، قدم في المجاز، وأخرى تخبط في الحياة” ص52 . إنّ نصوص “كتاب الذّات “و”كتاب الآخر” أغنيات، يغلّفها صوت فيروز، بعاطفة ترفع كلّ شيء إلى مقام صوفيّ بعيد، يضفي طابع التّخييل الواقعيّ، من حبّ وموقف، وتأثّر وتأثير، قصد الرّجوع إلى مائنا ونبعنا، لتتآخى الذّات مع الآخر أفقيّا وعموديّا، ويطلّ الشّاعر محمد بوحوش من خلال ذلك على أفق شعريّ آخر.

إنّ قارئ النّصوص، يقف حذرا أمام شاعر، يؤسّس لرؤيا جديدة، تنطلق من الواقع، وتعود إليه في أبهى شاعريّة.

* المرجع: بوحوش محمّد، ليس سوى أغنية (شعر)، دار مقاربات للنّشر والصّناعات الثّقافيّة، فاس، المغرب، 2017

 

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*