بين سيرة الشّاعر التّونسيّ مصطفى خريّف ( 1910- 1967) و مسيرته الشعريّة: تكامل أم تعارض ؟ : محمّد صالح بن عمر

 

لقد ولّى عهد كان منهج الانعكاس القاتم على الربط الآليّ بين حياة المؤلِّف و آثاره هو المُهيمن على الدّرس النقديّ باعتباره المنهج العلميّ الموضوعيّ الذي يمكّن من الكشف عن الحقائق المتخفّية داخل النص وهي مقاصد مُنشِئه . وهذا المنهج الذي وضعه سانت بوف ( Sainte-Beuve )( 1804 – 1869) في القرن التاسع عشر قد نقله آليّا الطلبة العرب الذين تخرّجوا في جامعة السربون بباريس حتى ستّينات القرن الماضي لأن هذه المؤسّسة الأكاديميّة قد هبّت عليها رياح التّغيير في النصف الثاّني من تلك الفترة فتخلّت تدريجيّا عن ذلك المنهج إلى أن تخلّصت منه نهائيّا.
و بعد أن أطاح المنهج البنيويّ بدءا من أواخر الستّينات بمنهج الانعكاس – وهو ما تجسّد في إعلان الناقد الفرنسيّ رولان بارت ( Roland Barthes ) ( 1915 – 1980 ) سنة 1968 مقولته “موت المؤلِّف” و شيوع مقولات أخرى تفرّعت عنها من قبيل “استنطاق النصّ” “و البحث عمّا يقوله النصّ لا عمّا قصده المؤلّف”- جاء المنهج التداوليّ المستوحى من إحدى النظريّات الفلسفيّة اللأنقلوسكسونيّة ليكبح من جماح هذا التيّار الذي كاد يقضي على جوهر العمليّة الإبداعيّة . وهي ، على حدّ التعريف الشهير لبول فاليري” (Paul Valery) ( 1871 – 1945 ) ، ” تعبير فنيّ عن تجربة معيشة ” ، كما كاد يطمس حقيقة ساطعة لا غبار عليها .وهي أن كبار الشّعراء و الكتّاب السرديّين الذين أنجبتهم الإنسانيّة نادرا ما يوجد تنافر بين سِيَرهم و أعمالهم الأدبيّة.
لكن التداوليّة لم تعد الاعتبار، في حقيقة الأمر، لمنهج الانعكاس و إنما رشّدته كما رشّدت المنهج البنيويّ نفسه .و ذلك بأن نظّرت للأثر الأدبيّ على أنّه خطاب لا نصّ مغلق. و معنى كونه خطابا أن فهمه الفهم الجيّد مرتهن بالرّبط بينه و بين شخــــصيّة الباثّ و مقاصده من ناحية و بين شروط التّواصل التي أنشئ فيها من ناحية أخرى . و من أهمّها شخصيّة المتقبّل و السياق التاريخيّ العامّ و ما ينطوي عليه من أوضاع اجتماعيّة و تياّرات فكريّة و فنّية و أدبيّة و ما إلى ذلك.
و يترتّب على هذا التّرشيد أن النّاقد مدعوّ إلى إجراء عمليّة انتقاء دقيقة على سيرة المؤلّف ليختار بمقتضاها ما يلائم الأثر الذي يقبل على دراسته. وهو المنهج الذي سنسعى إلى تطبيقه – و ما هذا بالسّهل الهيّن- في محاولتنا هذه التي نروم فيها دراسة العلاقة بين سيرة مصطفى خريف و مسيرته الشعريّة.
فما هي العناصر المفيدة الوثيقة الصّلة بشعره فيما جُمع عن سيرته من معلومات ؟
يستوقفنا أولا معطىً بيئيّ ثقافيّ لافت في سيرة مصطفى خريف . وهو أن هذا الشاعر أصيل منطقة الجريد عامّة و مدينة نفطة خاصّة.
أما نفطة فقد كانت قبل الاستقلال مركزا علميّا ثقافياّ يؤمّه الطلبة من المناطق المجاورة سواء من القطر التونسيّ أو من القطرين الجزائريّ و الليبيّ لدراسة علــوم الدّين و علوم العربيّة. و هو ما جعلها تعرف ب “الكوفة الصّغيرة “.
فالجريد أنجب نخبة من الأدباء في الشّعر و السّرد و النّقد كان لهم و لا يزال حضور فاعل في الحركة الأدبيّة التونسيّة و العربيّة لعلّ أهمّهم محمد الخضر حسين ( 1876 – 1958 ) الذي برز في علوم الدّين إلى حدّ أن اضطلع بمهامّ شيخ جامع الأزهر بالقاهرة و أبو القاسم الشابيّ( 1909 -1934 ) الذي ارتقى إلى مصفّ الشعراء العالميّين و الشعراء الميداني بن صالح ( 1929 – 2006 ) و منوّر صمادح ( 1931 – 1998 ) و محيي الدِين خريّف ( ولد سنة 1932 ) و عبد الحميد خريّف ( 1950 – 2005 ) و الكاتبان السرديّان البشير خريّف ( 1917 – 1983 ) و إبراهــــــــيم الدرغوثي ( ولد سنة 1954 ) و الناقد محمّد صالح الجابري ( 1940 – 2009 ).
و المعطى الثاني عائليّ .وهو أن والد مصطفى خريّف الشّيخ إبراهيم خريّف ( 1862 – 1937 ) كان أديبا و باحثا .فقد ترك كتابا في تاريخ أدب الجريد عنوانه المنهج السّديد في أدب الجريد ينير لنا جانبا مهمّا من تاريخ أدب هذه المنطقة من البلاد التونسيّة.
و ليس ثمّة شكّ في أنّه كان لمكتبة هذا الوالد المثقّف المتأدّب دور بعيد المدى في إطلاع الشاعر منذ طفولته على كنوز الشعر العربيّ و إيقاظ مواهبه و صقلها.
و المعطى الثالث هو انتقال مصطفى خريّف مع عائلته سنة 1921- وهو في الثانية عشرة من عمره- إلى العاصمة التي كانت تحتضن وقتذاك حركة فكريّة و صـــــحفيّة و أدبيّة نشيطة.
و تشير المعلومات التي جُمعت حول سيرة الشّاعر إلى أنّه لم يقدر على التماسك- وهو طالب بجامع الزيتونة – أمام جاذبيّة تلك الحركة التي كانت قويّة إلى حدّ أن تسبّب إقباله اللّهيف عليها في فشله الدراسيّ و فصله عن التعليم. فخسرت تونس بذلك عالما أو مدرّسا . لكنّها ربحت شاعرا.
و منذ تلك الحادثة – وهي انقطاع مصطفى خريّف عن الدّراسة و اتّجاهه نهائيّا إلى النّشاط الأدبيّ – تغيم الصورة العامّة للعلاقة بين سيرة هذا العلَم و مسيرته الشعريّة. فتتطابقان في نواح و تتنافران في أخرى. وهي ظاهرة تحتاج منّا إلى إمعان نظر و طول تدبّر.
لعلّ أهمّ ناحية تطابق فيها سيرة مصطفى خريّف أعماله الشعريّة روحه الوطنيّة. و هذه الروح من المرجّح أنّه ورثها عن والده الذي كان مناهضا فكرياّ للاستعمار و متعلّقا بالمبادئ التي كان ينشرها رجال الإصلاح في العالم العربيّ الإسلاميّ و في مقدّمتهم جمال الدين الأفغانيّ و محمّد عبده. وهي مبادئ الوحدة الإسلاميّة و إحياء قيم الـــسّلف و استعادة الأمجاد الآفلة.
فقد كان مصطفى خريّف قريبا من قادة الحزب الدّستوري الجديد منذ إحداثه سنة 1934 بمؤتمر قصر هلال . ففتح لهم صفحات جريدته “الدّستور” التي أنشأها سنة 1937- وللاسم الذي اختاره لها دلالة واضحة صريحة – ووظّفها في الدّفاع عن آرائهم و نشر دعوتهم، مسهما بذلك في خدمة القضيّة الوطنيّة.
وقد انعكس هذا الالتزام السياسيّ بوضوح في شعره المجموع ضمن ديوانه شوق و ذوق(1965) (1) – وقد أودعه ديوانه الأوّل الشعاع (1949) –(2). و هو ما تجسّد في تخصيصه قصائد لرثاء سبعة مناضلين تونسييّن و عرب هم ابن خلدون و محمِد البشروش و المنصف باي و محمّد محيي الدّين القليبي و أبو القاسم الشّابي و عبد العزيز الثّعالبي و شكيب أرسلان وأخرى لتخليد أحداث نضاليّة وطنيّة و قوميـّــــــة منها قصائد “يوم النـّـــــــــصر” و “يوم البعث” و ” القيروان” و ” عشيرة الحقّ” و ” تحيّة تونس إلى محمّد الخامس” و ” رثاء فلسطين”…

ولعلّ من أجود ما كتب الشاعر في هذين المحورين قصيدة ” تحيّة لعيد العروبة ” التي يقول فيها :

عيدَ العروبةِ، عُدْ، فدَتْكَ دمانا
واقْبَلْ تحيّتَنا ومَحْضَ هوانا
عُدْ بالبشائرِ، ناشرًا علَمَ المُنى
طَلْقًا طروبًا ضاحكًا جذلانا
عدْ كالمجاهدِ جاءَ من ميدانِهِ
ثَمِلاً بخمرةِ نصرِهِ نشْوانا
عُدْ كالرّبيعِ إذا تبّسمَ نورُهُ
وكسا الرّبوعَ بحُسنِهِ ألوانا
عُدْ كالرّياضِ ترنّمتْ أطيارُهُ
وتبادلَتْ في أَيْكِها الألحانا
عُدْ كالغمامِ الجَوْنِ سَحَّ ربابُهُ
فيْضًا عميمًا دافقًا هتّانا

 

لكنّنا إذا تجاوزنا هذا الجانب الشّديد الوضوح الذي يتماشى فيه السيريّ مع الإنشائيّ هالتنا كثرة النواحي التي فيها يفترقان بل حتّى يتعارضان.
و أولّ ناحية من هذا القبيل انتماؤه إلى جماعة “تحت السّور” الذين كانوا منشقّين عن الثّقافة السائدة. وهي الثّقافة التي كان يعمل على نشرها جامع الزّيتونة و قوامها الوفاء التامّ للتّراث العربيّ الإسلاميّ. فكتبوا شعرا ينتمي جلّه إلى اللّون الغنائيّ بلغة قريبة من لغة الصّحافة تنفتح في أحيان كثيرة على لغة الحياة اليوميّة.
أمّا مصطفى خريّف فقد فارق رفاقه أولئك، بإخضاعه قصيدته لضوابط النّظم الخـــــــــليليّة و انتقائه ألفاظه من معجم الفصيح و صياغة صوره طبقا لقواعد البيان البلاغيّة القديمة.
و إذا علمنا أن المعظم الأغلب من الشعراء التقليديّين كانوا يتحلّقون حول الشيخ العربيّ الكبّاديّ1880 ) – 1961 ) بمقهى “البانكة العريانة” الكائن حتّى اليوم بنهج باب المنارة  بالعاصمة، فإنّنا لنتساءل كيف كان مصطفى خريّف – وقد كانت له حساسيّتهم الكلاسيكيّة- يجالس خصومهم بمقهى “تحت السور”؟ و تقودنا هذه المفارقة إلى تسجيل مفارقة ثانية وهي أنّ أدباء “تحت السّور” كان معظمهم الأغلب يعيشون حياة بوهيميّة قوامها الانغماس في الملذّات و خاصّة منها تناول المخدّرات . وهو ما شغلهم، بوجه عامّ، عن الحركة الوطنيّة. لكن مصطفى خريّف على الرغم من مشاركتهم الإقبال على تلك الحياة فإنّه لم يتخلّ عن واجباته النضاليّة. و أهمّ من ذلك توظيفه شعره في خدمة تلك الواجبات. فكان – و يا للغرابة !- بوهيمياّ اجتماعيّا و مناضلا ملتزما سياسيّا و شعريّا!!
و الناحية المفارقة الثالثة هي أخذه تصريحا في المستوى النظري بمفهوم للشعر قريب من المفهوم الذي كان يأخذ به أبو القاسم الشابي لكنه في الممارسة كان أقرب إلى الكلاسيكيين . فبالعودة إلى ديوانه شوق وذوق يطالعنا في قصيدة “يا ليل الصبّ….” التي عارض بها قصيدة علي الحصري ( توفي سنة 488 ه ) واقتبس عنوانها من مطلعها شبه بيان شعريّ يمتدّ على الخمسة والعشرين بيتا الأخيرة. وحين نتأمّل هذه الأبيات يلفتنا أن مفهوم مصطفى خريّف للشعر لا يختلف كثيرا عن المفهوم الذي نظّر له أبو القاسم الشابي في محاضرته الشهيرة ” الخيال الشعريّ عند العرب ” . وهو أنّه تجربة ذاتيّة عميقة تتأسّس على أربع دعائم هي : الصدقُ و التعلّقُ بالمثل العليا و الإلهامُ و الإبداعُ .
وفي هذا يقول :
سأغنّي للأيّامِ نشيدي والأيّامُ تردّدُهُ
فالشّعرُ لسانُ القلبِ وصْو
تُ الحقِّ وجَيْشٌ يُنجِدُهُ
والشّعرُ من الأعلى قبَسٌ
لظلامِ الشّكِّ يبدّدُهُ
والشّعرُ بيانٌ مبتدَعٌ
هيهاتَ يجوزُ مقلّدُهُ
والشّعرُ دَمٌ يجري في الشَعـْ
بِِ يقوّمُه ويسدّدُه
والشّعرُ طُموحٌ مطّردٌ
طوبَى لفتًى يتزوّدُهُ
يتوجّهُ للمثلَ الأعلى
والكونِ جميعًا يَنْشُدُهُ
(المصدر نفسه ص ص 202-203)َ
بل إنّ هذا المفهوم للشعر مطابق كلّ المطابقة لمفهومه الأشدّ حداثة اليوم . وهو الذي يأخذ به العرفانيّون. ومحصّله أنّه ثمرة نشاط لغويّ مخصوص يصدر عن ملكات الإنسان الإبداعية في حال نمائها الشديد وهي المخيّلة والحدس والحساسيّة والإدراك والعاطفة. وهذا ما كان يشار إليه عند العرب قديما بلفظ”القلب” الذي كان يقابل عندهم”العقل” أو “الفكر” . وقولنا ” النماء الشديد” نقصد به أنّ الابتكار الخالص للصور الشعريّة وعناصر الإيقاع الداخلي في القصيدة لا يقدر عليه الناظم العاديّ مهما كانت درجة امتلاكه للّغة وعلمي العروض والبلاغة أو لتقنيات قصيدتي التفعيلة والنثر. لذلك وضع مصطفى خريف ” الإبداع” شرطا أساسا للقول الشعري يحصره ضرورة في الصفوة الموهوبة المتمتّعة بالقدرات الإبداعيّة الخارقة.
لكنّ هذه الشروط ،على حد قول الشاعر، قد أخلّ بها ناظمو الشعر من معاصريه ، إذ حوّلوه إلى صناعة متكلّفة خالية من الصدق والحرارة والعفويّة والعمق. وفي هذا يقول:
ما الشّعرُ كما أصبحتُ أرى
في قريتِنا مَنْ يُنشِدُهُ
يا ويحَ الشّعرِ لقد هَزُلتْ
دُنيا بالخَسْفِ تُراودُهُ
أكفانُ الموتى قد نُشرتْ
تقتادُ الشّعبَ وتُرشدُهُ
أقزامٌ قد رَكِبُوا خُشُبًا
والمرءُ وما يتعوّدُهُ
انظر يعجبْكَ خيالُهُمُ
كدًمَى التّمثيلِ مُسنّدُهُ
قد ماتَ زعيمُ الشّعرِ فمَنْ
يرعاهُ ومن يتقلّدُهُ؟
وخلا الميدانُ فقامتْ دَوْ
لةُ ياجوجٍ تتصيَّدُهُ
لا كان الشّعرُ ودولتُه
إن ظلّ الزُّورُ يُسوِّدُهُ

(المصدر نفسه ص ص 203-205)
لكننا في المستوى الإجرائي نجد شعر مصطفى خريّف بعيدا كلّ البعد عن شعر الشابيّ لا من حيث الرؤية ولا من جهة تماسك التّجربة وعمقها . ولا أدلّ على ذلك من جمعه – وهو أمر شديد الغرابة – بين الغزل الروحيّ طبقا للنمط العذريّ و الغزل الماديّ الجسديّ الإبـــــاحيّ وفقا للنمط العُمَريّ و على نحو متقارب جدّا كميّا. وهو ما يثير تساؤلا مشروعا عن مفهوم الحبّ عنده إذا كان له مفهوم معيّن لديه أصلا.
لقد أدرج الشاعر قصائده الغزليّة – وعددها ثماني عشرة قصيدة – في الباب الثاني من ديوانه الذي وسمه ب” صفحات من ديوان الصّبابة” (المصدر نفسه ص ص 159-266).
وإنّ أوّل ملاحظة تعنّ للمتأمّل في قصائد هذا الباب هي أنّه يتجاذبها محوران متقابلان تقابلا كليّا هما: الحبّ الروحيّ الخالص والحبّ الحسّىّ الجسديّ . وهو ما يثير منذ البدء تساؤلا مشروعا عن مفهوم الحبّ الذي يأخذ به الشاعر ويصدر عنه في شعره .
ففي قصائد المحور الأول – وقد جاءت بعناوين «المحراب” و”الذّكرى” و”نجوى النّجوم” و”بعد الوداع” و”ندم” و”ابتهال” و”أين قلبي” لا يكاد يقف القارئ على لفظ واحد يحيل على الحبّ الحسّي. وإنّما تطالعك فيها جميعا صورة الصبّ الولهان الذي تشغله قوّة الوجد عن التفكير في مفاتن المحبوبة الجسديّة. من ذلك قوله:
يا نجوَ اللّيلِ قد أبلى فؤادي
طولُ بُعدي واشتياقي وسُهادي
فتّشي عن أهلِ ودادي
عن شذى وردي وعن غُصني الرّطيبِ
يا نجومَ اللّيلِ بالله أجيبي
بعدَ يومِ البينِ ما حالُ حبيبي؟
(المصدر نفسه ص ص 174-175)
وقوله:

متى أرعوي عن غيرتي وجنوني
وأنسى دواعي عَبرتي وشجوني
لكم تِهتُ في وادي الهوى مترنّما
كما غرّدَ الشّحرورُ فوقَ غصونِ
وغنّيتُ في تقديسِ حبّكِ مُخلصًا
فأرخصْتِ شعري وازدريتِ لحوني

( المصدر نفسه ، ص 213 )
لكنّ هذه الصّورة تختفي تماما في القصائد التالية : ” حامل الهوى” و”وهج الحبّ” و “أغنية حبّ” و” راقصة” و”لا أبالي” و”حوريّة الموج” و”موسم العشّاق” و”نشوة” و”إلى معــنية” و” الحب المفلس” لتحلّ محلّها صورة مُحبّ مفتون بالجمال الجسديّ حيثما وجد ومهما كان مصدره ، طبقا للنمط الذي أسسه وعرف به عمر بن أبي ربيعة وقد شبّهه بعض النقاّد ب”الانتقال من زهرة إلى زهرة”.
ومن هذا اللّون قوله :
الرّؤى مجنّحةٌ والطّيوفُ تصطخبُ
والمُدامُ دائرةٌ “حَفَّ كأسَها الحَبَبُ
والقدودُ مائلةٌ تنثني وتقتربُ
والشُّعورُ مائجةٌ حولَ موجِها سُحبُ
والعيونُ غامزةٌ في لِحاظِها العطبُ
والصّدورُ ناهدةٌ من ثمارِها العِنَبُ
والخُصورُ ليّنة والرّوادفُ الكثُبُ
(المصدر نفسه 169)
وقوله:
وهَجٌ يحمَرُّ فوقَ الوجنتيْنِ ليتني أصلاهْ
وهيامٌ رفَّ حولَ الشّفتينِ آهٍ ما أحلاَهْ !
أيُّ سُكْرٍ هزّني من رَشْفِ شَهْدِكْ ؟
أيُّ غيٍّ وفتُونٍ تحتَ نهدِكْ؟
(المصدر نفسه ص ص 176-177)
إذا سلّمنا بأنّ العشق الحقيقيّ لا يكون إلا لمعشوق واحد وبأنّ مثل هذا العشق يمكن أن يجمع بين الافتتان بالرّوح والهيام بمفاتن الجسدَ – وهو ما نجد بعض آثاره جليّة حتّى عند الشّعراء العذريّين أنفسهم – فإنّ التّنقلّ بين معشوقات شتّى يلغي حتما إمكان وجود الحبّ الرّوحيّ.
ففي أيّ خانة يُصنفّ إذن شعر مصطفى خريّف الغزليّ: خانة الغزل العفيف المقتصر على معشوقة واحدة طبقا للنّمط العذريّ أم في خانة الغزل الإباحيّ الذي يتغنّى بمفاتن أيّ حسناء مهما كانت وَفقا للنهج العُمريّ؟
إنّ الجواب عن هذا السؤال ضروري للبتِّ في هذه المسألة الشّائكة .وهي مدى وجود تجربة شعريّة لدى مصطفى خريّف . وذلك لأنّ الشّاعر ذا التجربة مهما كان ،لا يكتب أبدا في اللّون ونقيضه ولا تتضارب مواقفه من قصيدة إلى أخرى.
إنّ بعض المعلومات التي جُمعت حول سيرة الشّاعر من الممكن أن تسهم في إنارة هذا الجانب الغامض من شعره .
إنّ مصطفى خريّف حسب هذه المعلومات – وقد توفّي في السّادسة والخمسين من عمره – لم يتزوّج بل لم يعرف عنه أنّه ارتبط بامرأة، إلاّ إذا وُجد هذا الحبّ واحتفظ به الشّاعر سرّا دفينا حتى وفاته. وهو احتمال بعيد لأنّ الرّجل كان اجتماعيّا، كثيرا التّردّد على النّوادي والمجالس الأدبيّة ومقرّ الإذاعة، معروفا لدى الخاصّ والعامّ في السّاحة الثقافيّة التي استمرّ حضوره فيها أكثر من أربعين عاما تلاحقه الأنظار في غدّوه و رواحه حيثما حلّ.
كلّ هذا يدفعنا إلى اللّواذ ثانية بمدوّنته الشّعريّة علّنا نعثر فيها على الجواب الشّافي عن تساؤلنا.
إذا تأمّلنا شعر مصطفى خريف الغزليّ الإباحيّ من النّاحية الإنشائيّة وجدناه شعرا وصفيّا خالصا صادرا عن ذات لا تبرحُ موقع النّاظر ولا تلتحم أبدا بالموصوف أو حتّى تلمسه.
من ذلك قوله :
وعلى الرِّدْفِ اتّزانٌ واكتمالٌ تجبّرْ
وتمطّى قدُّها ثمّ تدانى فتحدَّرْ
في انكماشٍ وارتعاشٍ واندهاشٍ وتحبُّرْ
يتداعى الجيدُ والزّندانِ في أبدعْ منظرْ
ويفيضُ الصّدرُ من وَجْدٍ وشوقٍ وتأثُّرْ
وحوالي شفتيْها قبلاتٌ تتخطَّرْ
وغرامٌ رفَّ في حاجبِها لمَّا توتَّرْ
وعلى الأهدابِ تذييلٌ عن الحُبِّ يُعبِّرْ
يتوارى الجسمُ إذْ يَزورُّ حينًا ثمّ يُسْفِرْ
فتَرى عندَ انفراجِ الذّيلِ مُرجانًا ومَرْمَرْ

(المصدر نفسه ص 186)
وزيادة على كون جلّ هذه الصّفات من الصّنف البصريّ فإنّ الشّاعر لم يتعدّ نقل المفاتن الخارجيّة التي تلوح لأيّ ناظر. وهو ما يجعل وصفه خاليا من الإباحيّة المشطّة. إنّها إباحيّة لا محالة. لكنّها من النّوع المقبول عُرفيّا على الأقلّ. والدّليل على ذلك أنّ الشّاعر بعد أن رسم هذه الصّورة الفاتنة للمرأة التي يصفها لم يمنّ النّفس بوصال صاحبتها وإنّما أنهى قصيدته بتعظيم الخالق الذي أبدعها قائلا:
يا لتشتيت النّهى يا للهوى اللّهُ أكبرْ
(المصدر نفسه ص 187)
ومن الأمثلة الأخرى الكثيرة لجمع الشّاعر بين وصف جمال المرأة الجسديّ وتعظيم الخالق قوله:
يا رعى اللّهُ قوامًا سَمْهريّا
أبلجَ الغُرّةِ وضّاحًا سَرِيّا
لو يُعيدُ الدّهرُ ما فاتَ إليّا
أبذلُ العمرَ وهو غالي
أنا في الحُبِّ كريمٌ لا أبالي
(المصدر نفسه ص 190)
هذا ولا نزعم أنّ شعر مصطفى خريّف الإباحيّ خالٍ تماما من تصوير الاتصال الجسديّ المباشر بالمرأة المتغزّل بها. لكنّ هذا النّوع من التّصوير فيه قليل جدّا لا يتعدىّ سياقات محدودة عددا ومساحةً تلوح بمنزلة الحالات الاستثنائيّة التي تجرّه إليها قوّة الانتشاء بالجمال الجسديّ عند وصفه إيّاه فينساق إليها انسياقا. ومع ذلك فهذه الحالات لا تتعدّى مستوى المأمول إلى مستوى المِراس الحقيقيّ في صميم الواقع. وهو ما يفصح عنه الشّاعر مثلا في قوله:
في سُهادي أرصُدُ النّجمَ وأصفيه ودادي
وأنادي يا حبيبي أحرقَ الشّوقُ فؤادي
واصليني
وامنحيني رشفةً تَروي شبابي
من ثناياكِ العِذابِ
(المصدر نفسه ص 181)
أو قوله على لسان المعشوقة :
يا حبيبي أنتَ لي وحدي
فاقتربْ واشمُمْ شذى نهدي
وارمِ بي للموجِ وارجِعْ فالتقِفْني
واحتضِنّي واعتنِقني واختطٍفني والتقِمني وارتشِفني
(المصدر نفسه ص 187)
إنّ مثل هذه الأحلام والأماني ليست، في تقديرنا، سوى ضرب من التّعويض الذي تلجأ إليها النّفس المحرومة المكبوتة للتّفريج عن كربتها. وهو ما يدعمه المعطيان الخارجيّان اللّذان سبق أن أشرنا إليهما: عزوبته وعدم ارتباطه عاطفيا بامرأة خارج الزّواج.
فالقصيدة “العُمَريّة” عند مصطفى خريّف تنطلق من رصده الصّفات الخارجيّة الجذّابة في الجسد الأنثويّ لتصوير أثرها في نفس الشاعر ثمّ يتدّرج في وصف هذا الأثر إلى حدّ أن يدرك درجة الانتشاء. وهو ما يجعلها تسير منذ البدء في خطّ تصاعديّ يُتوّج بإشراقة على هيئة شعور مضخَّم. وهذا ما يعرفُ في الإنشائيّة بتقنية التّفخيم .
أمّا إذا نظرنا إلى القصيدة المصوغة عنده على النّمط العذريّ وجدناها لا تختلف عن القصيدة المنتمية إلى اللّون السّابق إلاّ من جهة غياب الأوصاف الجسميّة الصّريحة لأنّ الجمال يبقى فيها هو المنطلق أيضا وإن لم يُفصّل . ولو فُصِّل ولو جزئيّا لصارت إباحيّة .
يقول الشاعر في قصيدة “في المحراب” مخاطبا الحبيبة:
أنتَ بدعٌ من الجمالِ فَريدٌ
أنتَ صرحٌ من الجدلِ مُجرَّدْ
وفي قصيدة ابتهال:
إنّه فتنةٌ وسحرٌ وفنٌّ
ذو دلالٍ ورِقّةٌ ونجابَهْ
ناعمٌ مشرقُ الشّبيبةِ ريّا
نُ المحيّا كزهرةٍ في غابَهْ
وكذلك شأن سيرورة الخطاب. فهو يسلك هنا إمّا خطّا تصاعديّا يُتوّج بإشراقة تكون على هيئة شعور مضخّم بالانتشاء ، كما في قصيدة “المحراب” التي ينهيها الشّاعر بصورة شبه صوفيّة، قوامها التّوحّد مع روح المعشوقة فيقول:
أنا لم أقتحمْ عوالمَكَ الزُّهْرَ وأنّى للكلِّ أن يتحدَّدْ؟
بل توزّعتُ هائمًا تائهًا فيها مُشاعًا مثلَ الهَباءِ المُبدَّدْ
وتركتُ الهوى يقودُ زِمامي
سالكًا نحوَكَ الطّريقَ المُمهَّدْ
فأعِذْني من شرِّ بُعدِكَ عنّي
إنّني مؤمنٌ مُنيبٌ مُوحَّدْ
(المصدر نفسه ص 163 )
وإمّا يأخذ الخطاب شكلَ منحنًى بالتّداول على وصف المشاعر المتولّدة عن عشق الحبيبة الشّعورَ تلو الآخر. وفي تصوير كلّ شعور يكونُ الصّعود من قاعدة إلى قمّة. ويتحقّق ذلك أحيانا على صعيد كلّ بيت، كما في قصيدة “ابتهال” حيث نجد المنطلق شبه آليّ من الصّدر ثم يكون بُلوغ الذروة في العجز.
يقول الشاعر :
أيّها النّسيمُ هُبَّ رخيّا
سَجْسَجًا حوله ولاطِفْ جنابَهْ
وترفّقْ في حملِ أشواقِ قلبٍ
جائشاتٍ مشبوبةٍ صَخّابهْ
واروِ عنّي محبّةً وغرامًا
ودموعا ثجّاجَةً سكّابهْ
كلّما مرَّ بي سمعْتُ له في
كلِّ عضوٍ منّي صدًى واستجابَهْ
وتغنّى بمهجتي طائرُ الحُـ
بِّ لحونًا رخيمةً مطْرابهْ
ذاتَ شجوٍ مقدّسٍ يملأُ النّفسَ خشوعًا وخِشيةً ومهابَا
( المصدر نفسه ، ص ص 216 – 217 )
كلّ هذا يقودنا إلى نتيجة يتراءى لنا أنّ لها نصيبا قويّا في الإقناع . وهيّ أن شعريّة القصيدة الغزليّة عند مصطفى خريّف هي في المستوى العميق شعريّة الانتشاء. وهذا الانتشاء يسعى الشّاعر بكلّ جوارحه إلى طلبه في الموضوع واللّغة معا. فالموضوع هو المرأة الجميلة باعتبارها مثيرا. ولا فرق لديه عندئذ بين أن يكون منطلق الإثارة مظهرا من مظاهر جمالها الجسديّ أو شخصها من حيث هو كلّ متكامل أو روحها مجرّدة عن جسدها مادامت كلّ هذه العناصر المحسوسة والمجردة تحقّق له غايته المنشودة. وهي قمّة النشوة .
ولسنا بغافلين طبعا عن كون هذه النتيجة تثير إشكالا معرفيّا. وهو استحالة جمع الشخص الواحد بين الأفلاطونية( 3 ) التي تحدّد المجال الأمثل للرّغبة فيما هو روحيّ محض والأبيقوريّة (4) التي تحصر اللّذة فيما هوّ حسّي خالص. ومن ثمّة فإذا تعاورت هاتان النّزعتان معا شخصا واحدا فإنّ التذبذب والتردّد بين متناقضين لا يمكن أن يفسّرا إلا بأسباب نفسيّة أقواها الكبت والحرمان.
وهناك معطى آخر لابدّ من الإشارة إليه هنا في انتظار العودة إليه في بحث لاحق مستقلّ وهو أنّ النشوة الفعليّة التي كان الشاعر يطلبها في شعره الغزليّ بنوعيه ربّما كان يجدها في القصيدة نفسها من حيث هي فضاء لغويّ يجمع بين الإيقاع والصّــــورة و الدّلالة : ينشئ فيه بخياله امرأة ورقيّة تستجيب صورتها لحالته النّفسيّة في لحظة الكتابة . فتكون تارة جسدا جميلا جذّابا وطورا روحا مجرّدة شفّافة وطورا ثالثا جســدا و روحا معا.
ومهما يكن من أمر فقد كان مصطفى خريّف واعيا كلّ الوعي بهذه التّناقضات في رؤيته للواقع و أحاسيسه وشعره. فقد صرّح في مقدّمة ديوانه الأوّل خواطر :” “إنّي نشأت وتعلّمت على غير نظام بل كانت حياتي ومشاعري مثالا للفوضى واجتماع النقائص ” ،كما صرّح في مقدّمة ديوان شوق و ذوق :” أمّا إذا لم يظفر كتابي بإعجابك فلا شكّ في أنّه سيرمي بتعجبّك و هو أمر يقنع طموحي ففيه البركة، و سبب التعجّب ـ و هو إن لم تكن هذه المجموعة متجانسة ، بل هي تحتوي على أشتات من الأساليب و المضامين و الألــــــــــوان و الطعوم… بحيث ستجد تباينا واضحا بين القصائد المتجاورة و لعلّ في ذلك شحذا لغريزة التطلّع و حبّ التنقّل من جوّ إلى آخر”.

الخاتمة

نخلص في خاتمة هذه المقاربة إلى القول إنّ مصطفى خريّف و إن كانت تنكشف لقارئ مجموع أشعاره عدّة نواح لا تنسجم مع النّمط السّلوكي الذي اختاره لحـــياته و أخرى متنافرة داخل مدوّنته فإنّ ذلك لا يمنع مبدئياّ وفاءه لنفسه، إذ التّذبذب و إن كان فكريّا ظاهرة سلبيّة فإنّه يمكن أن يشكّل في الفنّ عامّة و الشعر خاصّة مصدرا للإبداع، فضلا عن كون النّظر في الأسباب التي أدّت إليه من شأنه أن يكشف عن تكامل التّجربة و تماسكها في المستوى العميق . وهو الأهمّ.
فمصطفى خريّف كان فاشلا في دراسته .لذلك اختار المجموعة التي يشترك معها في هذه الصّفة – وهي جماعة “تحت السّور” – على الرّغم من حساسيّته الشعريّة التّراثـــــــــــــيّة و حساسيّتهم الحداثيّة .وقد كان محروما من المرأة. لذلك فمن الطبيعيّ أن يتّسم موقفه منها بالاضطراب. فكتب فيها قصائد غزلية روحيّة و أخرى إباحيّة.
لكنّ هذه التناقضات اللاّفتة سواء بين سيرة الرجل و شعره أو بين أجزاء مدو”نته الشّعرية لم يكن لها أي تأثير في فكره حيث ظل طيلة حياته وفيّا لمبادئ الوطنيّة و القوميّة العربيّة.

الهوامش:
1-انظر : مصطفى خريف، شوق وذوق، الشركة التونسية لفنون الرسم، تونس 1965 ، ” ذكريات ومراث”و” صفحات من ديوان الحماسة”.

2- مصطفى خريف، الشعاع، مطبعة المنار، تونس 1949
3-الأفلاطونيّة نسبة إلى أفلاطون ( توفّي سنة 346 أو 347 ق. م ) الفيلسوف اليوناني الذي قامت نظريتّه في الجمال على تصوّر ثلاث درجات فيه : أعلاها الانفصال التامّ عن الحسّي المؤهل لبلوغ مستوى الأفكار المجرّدة . للمزيد من التوسع انظر :
Bernard Williams, Platon. L’invention de la philosophie, traduit de l’anglais par Ghislain Chaufour, Paris, Éditions du Seuil (coll. « Points Essais », série « Les grands philosophes », n°421), 2000.
4-الأبيقورية نسبة إلى أبيقور Epicure ) ( ( توفي سنة 270 ق. م ) . وهو فيلسوف يونانيّ قامت نظريّته على اعتبار اللذّة الحسيّة أرقى مظهر من مظاهر الخير. وهي تتجسّد عنده في غياب الألم. للمزيد من التوسع انظر مثلا :
Jean-Marie Guyau, La morale d’Épicure, Encre Marine, 2002.

من هو مصطفى خريف ؟

ولد بنفطة بالجريد التونسي في 10 أكتوبر 1910. وتوفي بتونس في 11 مارس 1967. زيتوني التكوين. درس بقريته ثم بالعاصمة بمدرسة “السلام”. ثم واصل دراسته بجامع الزيتونة. امتهن منذ صغره الصحافة. ونشر بها مقالات أدبية وقصائد. جرب قلمه في ألوان شتى من الشعر : الكلاسيكي، الكلاسيكي الجديد، الرومنطيقي، الشعر المنثور. من جيل أبي القاسم الشابي. تواصل عطاؤه بعد الاستقلال. بلغ أوج نشاطه الأدبي في النصف الثاني من الثلاثينيات وعلى امتداد الأربعينيات. أحسن قصائده في اللون الوجداني. رشّحه شيخ الأدباء محمد العربي الكبادي لتبوّؤ المنزلة الثانية في الشعر التونسي بعد أبي القاسم الشابي.

صدر له :
– الشعاع، مطبعة المنار، تونس 1949.
– شوق وذوق، الشركة التونسية لفنون الرسم، تونس 1965.

 

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*