الخطاب العشقيّ المتعدّد الأوجه في شعر الشاعرة الأورغوائيّة جانيس مونتوليو : محمّد صالح بن عمر

جانيس مونتوليو

ليس ثمّة فائدة في تصدير هذا الفصل الأدبيّ الذي نخصّصه لدراسة الشّعر العشقيّ عند شاعرة معيّنة – وهي الشّاعرة الأورغوائيّة المعاصرة جانيس مونتوليو – بمقدّمة تاريخيّة مقتضبة في الحبّ وأنواعه المختلفة أو بعرض نظريّ في الغرض نفسه أو بكليهما معا.فالدّراسات الضّخمة التي لا تكاد تحصى والتي تناولته منذ القديم في متنوّع فروع المعرفة (الشّريعة ، الأدب،الفلسفة،علم النّفس،علم تحليل النّفس،علم الاجتماع، التّربية…) كافية لرفع هذه المؤونة عنّا.لذلك سنركّز عنايتنا ، بدلا من هدا التمشيّ ، على الموضوع المخصوص الذي نروم دراسته .وهو تجلّيات الحُبّ الرئيسة في قصائد هذه الشّاعرة التي غدت منذ بضع سنوات في شبكات الاتّصال الاجتماعيّ لا سيّما الفايسبوك منها أحد أبرز الأصوات المتغنّية بهذا الشّعور الإنسانيّ النّبيل في الشّعر اليوم.

إنّ الفحص الدّقيق للقصائد التي نشرتها منذ أن تعرّفت إليها سنة 2009 والتي قاسَمَتْها على نحو منتظم في صفحتي يبيّن أنّ هذا الغرض الذي اختارت أن تتفرّغ له تفرّغا شبه كلّيّ ليس من الصّنف التّرجذاتيّ النّابع من مجرّد تجربة عاطفيّة شخصيّة وإنّما هو بمنزلة شاغل فكريّ يشمل تجربة الشّاعرة مع هذا الشّعور الإنسانيّ المحفوف بالأسرار الذي يتداخل في صلبه ما هو شخصيّ و ما هو عامّ ، ما هو فرديّ و ما هو جماعيّ.فإذا هو يتبدّى في شعرها على هيئة جدول شامل أشبه ما يكون بحصيلة فحص طبيّ نفسيّ لكنْ مصوغ صياغة شعريّة، لا بلغة عالمة مملوءة مصطلحات تقنيّة. ولهذا السّبب نادرا ما تجد تشابها بين بعضٍ من قصائد جانيس مونتوليو العشقيّة .وتفسير ذلك أنّها تتناول في كلّ مرّة مظهرا محدّدا بعينه من هذه الظّاهرة .وهو ما يولّد لدى القارئ انطباعا بأنّها طبيبة متخصّصة في العلوم النّفسيّة، مباشِرةٍ لمرضاها، تنكبُّ دون كلل لكنْ بمنتهى الشّغف على عدد كثير جدّا من الحالات الشّديدة الاختلاف ربّما كانت إحداها حالتها هي نفسها باعتبارها امرأة عاشقة. وإذا كانت هذه النّزعة إلى التّنويع بلا حدّ في موضوعات العشق الفرعيّة تكشف لدى الشّاعرة عن رغبة في الإحاطة بالظّاهرة العشقيّة من كلّ جوانبها فإنّها تضع في طريقنا عقبتين : الأولى هي تقديم عرض شامل لها في هذا الفصل القصير .وما هذا بالأمر الممكن .لذا لن يكون في مستطاعنا إلا الاكتفاء بأمثلة مختارة من الظّاهرة المتناولة والأخرى هي إخضاع تمشّينا في معالجتها لرؤية جُملية شاملة لا يفلت منها أيّ عنصر مهمّ.وهذا في متناولنا. ولهذا الغرض سنعتمد تقسيما للظّاهرة العشقيّة موغلا في العموم بتصنيفه إلى نوعين كبيرين : نسمّي أحدهما الحبّ المعيش والآخر الحبّ المرويّ ، الأوّل حين تقدّم الذّات المنشئة للخطاب نفسها في بعض القصائد على أنّها العاشقة والثّاني حين تؤدّي دور الرّاوية وتكون العاشقة غيرها.وليس هذا التّقسيم بطبيعة الحال إلاّ تقريبيّا، لإمكان تقمّص الباثّ سواء في نصّ شعريّ أو في نصّ سرديّ شخصيّة غير شخصيّته مع تحدّثه بلسان المتكّلم. لكن قبل أن ننظر إلى هذين النّوعين من الحبّ نظرة تحليليّة لنحاول تحديد مفهومه عند الشّاعرة، معتمدين خاصّة بعض القصائد-البيانات التي خصّصتها لهذا الموضوع.

1- مفهوم الحبّ عند جانيس مونتوليو:

على الرّغم من ضخامة كمّ المباحث والدّراسات التي تناولت الظّاهرة العشقيّة لا نظفر بأيّ تعريف واضح لمفهوم الحبّ بل كان ولا يزال شعورا غامضا، متعدّد الوجوه،عصيّا على التّحديد.ذلك أنّه إذا كان عند بعضهم مفهوما مجرّدا ذا طبيعة روحيّة (1) فإنّ آخرين يرون فيه ضربا من التّسامي عن رغبة جنسيّة ليس غير (2) على حين أنّ الحبّ المنشود في حياة النّاس اليوميّة هو الذي يكون متناغما مع نواميس المجتمع ويتنزّل عندئذ في منزلة وسطى بين هذين النّقيضين (3).وهناك شقّ ثالث ينحو به منحى بعيدا كلّ البعد عن دائرة العلاقة الضيّقة بين الجنسين ، جاعلا إيّاه يشمل كلّ أفراد الجنس البشريّ بل حتّى كلّ الكائنات الحيّة والجوامد التي يحتوي عليها الكون(4). أمّا عند شاعرتنا فالحبّ في الأصل من إنشاء الخالق .فهو ، على حدّ قولها: “معدن نبيل” أشبه ما يكون بنَفَس نفيس نفخه الله في أرواح البشر لحظة الخلق لمساعدتهم على السّموّ بذواتهم عن أدران الطّين الأصلي الذي خُلقوا منه .لكنّ قلّة منهم استطاعت في ما بعدُ الحفاظ على هذا النَّفَس المخلّص القادر وحده على الارتقاء بهم إلى أعلى درجات التفتّح وتمكينهم من التّمتّع بكامل مواهبهم.

تقول الشّاعرة في هذا المعنى :

قليلةٌ جدًّا هي الأرواحُ التي لُطِّفتْ

ما إن مسّتْها النّارُ الأصليّةُ.

فالمعدنُ النّبيلُ ينشأُ كالماسِ

في صلبِ الطّينِ الذي منه خُلِقْنَا

ثمّ ينمو ويتلألأُ

ويتوزّعُ في دمِنا عبرَ عروقِنا.

أيّها المعدنُ النّبيلُ…يا مثالَ الصّفاءِ

هذه الأرواحُ تعبرُ جسورَكَ …

( قصيدة” المعدنُ النّبيلُ“)

على أنّه إذا كان الحبّ في الأصل روحيّا فهذا لم يمنعه من الانتشار بعد ذلك في الواقع المعيش ومن أن يمتدّ إلى الجسد فيكتسب من ثمّة شكلا حسّيّا مثلما تفصح عنه هذه الأبيات :

وهكذا أواصلُ الإحساسَ بعناقِكَ

حين أروي عطشي من قبلاتِكَ

وأنا عاريةٌ تمامًا

فتتيهُ يداكَ في جسدي المشتعلِ

باحثتيْنِ عن السّرِّ الكامنِ في كلِّ امرأةٍ

هذه المتعة الجسديّة تضفي، كما نرى، على الحبّ طابعا اندماجيّا.وهنا، في ما يظهر، يكمن الجواب عن تساؤلنا في شأن نوعيّة الحبّ التي تتعلّق بها الشّاعرة.

2- الحبّ المعيش : 

الحبّ المعيش هو، بلا ريب، على ضربين حسب كونه متبادلا أو أُحاديّ الجانب.وهذا ما يقتضي منّا دراستهما في شعر جانيس مونتوليو الواحد تلو الآخر، على الرّغم من أنّهما متضاربان ولا يمكن أن يجتمعا عند شخص واحد.

2 -1 : الحبّ المتبادل :

الحبّ المتبادل هو الذي سيتجيب إجمالا لشرطين :عرّف جورج سمّال ( Georg Simmel 1858 -1918 ) أحدهما بأنّه حركة تفاعليّة مزدوجة تنطلق من “الأنا” نحو”الأنت” ومن ” الأنت” في اتّجاه”الأنا”(5).أمّا الآخر فقد حدّهُ سبينوزا (Spinoza 1632 – 1677)بأنّه متعة أو فرح يضاف إلى التّفكير في شخص آخر(6). هذا النّوع من الحُبّ هو بلا جدال الرّابط العاطفيّ المثاليّ الأشدّ اجتذابا للرّاغبين في إقامة علاقات غراميّة .وهو يصادفه القارئ في عدد كثير من قصائد الشّاعرة كهذه القصيدة التي وسمتها ب” أنا هنا معكَ”وتصف فيها بأسلوبها الخاصّ عمليّة تجاذب عشقيّ قويّ :

أنا هنا معكَ

أنتَ هنا معي

أحملُكَ في روحي وقلبي إلى الأبدِ

وأعلمُ أنّكَ تحملني معكَ

في كلِّ القصائدِ الغزليّةِ

أو كما في هذه القصيدة الأخرى التي عنونتها ب” المتفرّجُ “وتقول فيها :

أنتَ أيّها المتفرِّجُ

تقتربُ منّي

وتصوِّبُ نظرَاتكَ

نحو نظراتي الحَرْبيّةِ المنتصرةِ

وتصوّبُها إلى نفسِكَ

بمهجةِ طفلٍ

*

تقيّدُ حرّيةَ فكري

وتشبكُهُ في فكرِكَ

فلنبحِرْ في محيطاتِهِ العميقةِ

دون أدنى تحفّظٍ

دونَ أدني رقابةٍ…

فأنتَ المتفرّجُ الوفيُّ عليَّ

أنتَ المتفرّجُ الذي به أَهِيمُ

أو كما في هذه القصيدة الثّالثة التي وضعتْ لها عنوان”رغباتٌ”. وممّا جاء فيها قولها:

منحتُكَ ابتسامةً

من شفتيَّ القِرمِزيّتيْنِ العذبتينِ

فابتسمتَ لي

فغرِقنا في اللّونِ الأحمرِ

وتداخلتْ نظراتُنا

وأحسستُ بكَ قريبًا منّي

كلَّ القربِ

وفي انتظارِ ما سيحصلُ

تسارعتْ دقّاتُ قلبي

على نحوٍ محمومٍ، مرعبٍ

أعلمُ أنّكَ انتابتْكَ الأحاسيسُ نفسُها

لكنّكَ رغمَ أنّكَ كنتَ جالسًا قبالتي

لم تستطعْ منحي القبلاتِ

التي كانتْ شفاهُنا متعطّشةً إليها تلكَ اللّيلةَ

على أنّ الحضور المكثّف لهذا الضّرب من الحُبّ في قصائد الشّاعرة لم يمنعها من تخصيص نصوص كثيرة أيضا لنقيضه أي الحُبّ من جانب واحد.وهذا ما قد يحمل على الاعتقاد أنّ طريقتها في تناول هذا الشّعور فكريّة وإشكاليّة لا ذاتيّة وتلقائيّة.

2-2:الحُبُّ من جانب واحد :

يتّسم الحُبُّ من جانب واحد بسمتين رئيستين: إحداهما هي صمت المعشوق- وهو ما ينجرّ عنه في العادة انخراط العاشق في هذيان طويل سمّاه جان روسي(Jean Rousset 1910 – 2002) “تبادلا من جانب واحد”(7).أمّا السّمة الأخرى فهي غياب المحبوب الذي وصفه رولان بارط ( Roland Barthes 1915 – 1980 ) كالآتي :” غياب الآخر يجعل رأسي مشدودا تحت الماء.فأحسّ شيئا فشيئا بالاختناق إذ يتضاءل هوائي.وبهذا الاختناق بالذّات أعيد بناء حقيقتي وأتهيّأ للحُبّ، ذلك المتصلّب الذي لا يلين”(8). ومثلما هو الشّأن في السّياقات التي تنتصب فيها الباثّة شريكة ضمن علاقة من نوع “الحُبّ المتبادل” تتواتر هاتان الحالتان في قصائد الشّاعرة تواترا عاليا أيضا ،منها على سبيل المثال هذان النّصّان اللّذان تقدّم فيهما الشّاعرة وصفا ضافيا لتينك الحالتين :أحدهما بعنوان “غيابُكَ”.وممّا جاء فيه قولها :

أنتَ بعيدٌ عنّي

الىوأنا بعيدةٌ عنكَ

أحفظُ غيابَكَ في حقيبتي

بكلِّ هدوءٍ وطمأنينةٍ

ثمّ أرحلُ بلا رجعةٍ

إلى مكانٍ ما في مشهدِ روحي

حاملة غيابَكَ معي حيثما أذهبْ

والنّصّ الآخر وسمته ب”الانتظار”.ومنه هذه الأبيات :

مضى الوقتُ

قلبي يُحْتَضَرُ

وهو ينتظرُكَ هذا الانتظارَ الطّويلَ المُمِضَّ

قلبي يغرَقُ في الصّمتِ

لكنّ نداءَكَ يا للأسفِ لا يصلُ

ولمّا أعياني الرّجاءُ

ونفدَ صبري من وعودِكَ الكثيرةِ

فمن الواردِ أنّي حينَ يرنًّ جرسُ الهاتفِ

لن أقوى على الردِّ

إنّ اجتماع هذين الخطابين المتعارضين تماما وشبه المتعادلين كمّيّا في أعمال شعريّة واحدة ، زيادة على كونهما لا ينتميان دائما إلى مرحلتين متباينتين من تطوّر محتمل لعلاقة واحدة عاشها شخص واحد – وذلك لتداول هذين النّوعين من الحبّ على نحو مكثّف في عدّة قصائد على امتداد فترة السّبع سنوات التي تغطّيها دراستنا ( 2009 – 2016) – من شأنه أن يدعم الفرضيّة التي صغناها منذ البداية وهي أنّ الحبّ ذا الوجهين الضّدّين لا يمكن أن يكون تَرْجَذاتيّا. ومن جهة أخرى هناك ملاحظة مهمّة قد تدعم هذه الفرضيّة .وهي أنّ الحبّ الذي تصفه جانيس مونتوليو في الكثير من قصائدها هو من النّوع المسمّى ” الحُبّ-التَّوْق” الذي سمته الأولى الارتباط بالآتي لا بالحاضر والذي يكون الشّعور به بمنزلة الفرح المأمول.وهو ما يجعله عمليّا ضربا من التّعويض العادي الذي يتحدّد الهدف اللاّواعي منه في القيام مقام الحبّ الحقيقيّ المُشبَعةِ رغباتُهُ. ومن المقاطع التي تصوّر هذا الحبّ أحسن تصوير نورد الأمثلة الثّلاثة التّالية :

عندما يقتربُ اللّيلُ

يستسلمُ القمرُ للنّومِ تحتَ معطفِ النّجومِ

فأهدهدُكَ بينَ ذراعيَّ

وبينَ أمواجي الهادئةِ…

وأظلُّ حتّى مطلعِ الفجرِ

أنظرُ إليكَ

أتأمّلُ ملامحَكَ.

وأبقى إلى الأبدِ أحرُسُكَ

لأنّكَ وصلتَ إلى مرفئي.

سأقضّي بقيّةَ حياتي

في انتظارِ وصولِكَ البهيجِ

يا مَرْكبي البحريَّ

أنا عشيقتُكَ

أنا آخرُ مرحلةٍ

من مغامرةِ الأوديسّا التي خضتَها

أنا ضفّتُكَ العاشقةُ

(قصيدة “أغنيةٌ عاطفيّةٌ لمركبٍ بحريٍّ وضفّةٍ” )

الرّجلُ الذي يعجبُني

يجبُ أن يكونَ رومنسيًّا

يرقصُ تحتَ البدرِ

رقصةَ العشّاقِ

يعطيني خاتَمًا بديعًا

قُدَّ من الحلازنِ الذّهبيّةِ

وينقشُ لي قلبًا

في قشورِ شجرةٍ

هذا الرّجلُ الذي يعجبُني

ينبغي ألاّ يكونَ إلاَّ كاملاً،

حالمًا ،

عذبًا عذوبةَ العسلِ

( قصيدة ” الرّجلُ الذي يعجبُني” )

سنتحابُّ

على الرّملِ الأشقرِ

في شاطئٍ قَفْرٍ

تحتَ جلبابِ اللّيلِ

وأنظارُنا مصوّبَةٌ نحوَ البدرِ

لتنزلقْ قبلاتُكَ

قطرةً قطرةً كاللّآلي

على بطني المُرتجِّ

على جلدي الأبيضِ بياضَ الزِّنبقِ

(قصيدة ” سنتحابُّ“)

3- الحُبُّ المرويّ:

في القصائد التي مدارها على هذا النّوع من الحبّ والتي تكون فيها العاشقة شخصية أخرى غير الباثّة يهمّنا أن نتفحّص أساسا صورة تلك العاشقة،خاصّة أنّ المتكلّمة تشير إليها دائما بضمير المفرد الغائب المونّث ( هي ). طبعا لا بدّ من الحذر هنا ، لأنّ التّلاعب بالضّمائر في الشّعر والسّرد قديم.ومن ثمّة فمن المحتمل جدّا أن يتخفّى وراء الضّمير “هي” الضّمير”أنا”.لكن لنبقى أوفياء للخطّة التي ضبطناها ولننظر إلى الضّمائر الواردة في شعر الشّاعرة كما لو أنّها استُعملت بمعانيها الأصليّة. وفي هذا الباب أوّل ما يسجّل هو أنّ كلّ العاشقات تقريبا يعشن حبّا متبادلا مع معشوقيهنّ. فهل الأمر حصل مصادفة ؟ أم هل لمّا كان هذا الحبّ مرويّا فانّ اهتمام القارئ به يكون أقوى بحكم طاقة الإدهاش القويّة التي ينطوي عليها لاسيما أنّ جلّ النّاس يمنّونَ النّفسَ بربط علاقة في إطار هذا الحبّ؟ ومن جهة أخرى تتوزّع هؤلاء العاشقات على أصناف عدّة : فمنهنّ ما هنَّ استُدعيت من حكايات شعبيّة ، كهذه البنت المراهقة التي تسقط على حين غفلة في ساقية عميقة الغور ثمّ لمّا حاول فارس أحلامها إنقاذها زلّت قدُمه أيضا فلحق بها في قاع الحفير ومات معها غرقا.ثمّ عندما اكتُشفت جثّتاهما دُفنا في ظلّ شجرةِ غارٍ.وبعد أيّام نبتت على قبر البنت وردة وعلى قبر الشّابّ قرنفلة. (قصيدة” الحبُّ الخالد” ) ومن العاشقات غير العاقلة ما هي نباتيّة قد وظّفتها الشّاعرة لغرض أليقوريّ كهذه الزّنبقة التي عذّبتها العزلة والتي جاءها فارس أحلام من جنسها –وهو ذَكَرُ ياسمينة – فأخرجها من حالة الإهمال التي هي عليها وحملها معه إلى سموات بعيدة .وفي هذا تصوير لمفهوم السّعادة عند الشّاعرة، ذلك الذي يتحدّد في التوحّد والحلم : الأوّل باعتباره الشّرط الضّروريّ ليكون المرء عاشقا ومعشوقا والثّاني هو الحالة المثاليّة الملائمة للجذل والنّشوة والانطلاق جوّا نحو عوالم من صنع الخيال(قصيدة”الزّنبقة وذَكَر الياسمينة”). وهناك صنف آخر استمدّته الشّاعرة من الواقع المعيش كهذه البنت التي وقعت في حبّ شابّ دون أن تعلم أنّه مصاب بمرض عضال وأنّ رحيله عن هذه الدّنيا قريب .والعنصر الأشدّ مأسويّة في هذه الحكاية هو أنّ ذلك الشّابّ يقاسم تلك البنت عواطفها إلاّ أنّه فضّل إخفاءها حتى لا يحدث لها صدمة بعد موته. هذه الحالة هي، لا محالة، نادرة لكنّها محتملة الوقوع، لأن المصابين بالأمراض الميؤوس من علاجها والمحكوم عليهم إذن بالموت آلاف مؤلّفة وبعضهم من الممكن أن يعيشوا تجربة عشقيّة أليمة .ولمّا كانت شاعرتنا متخصّصة في غرض الحُبّ عامّة فمن الطّبيعي أن تنشغل بموضوع كهذا. ومهما يكن من أمر فالأمثلة الثّلاثة التّالية كافية لتبيّن لنا أنّ العاشقة حين لا تكون هي نفسها الباثّة في شعر جانيس مونتوليو لا تختلف عنها كثيرا على نحو محسوس ، لأنّه حتّى إن كان الحبّ الذي تعيشه متبادلا فهو لا يجنّبها الآلام نفسها التي يتسبّب لها فيها الحبّ من جانب واحد .

4- الحبّ الإنسانيّ الكونيّ :

عُرِّف الحُبّ الإنسانيّ الكونيّ على النّحو التّالي : ” يُوجَّه الحُبّ الإنسانيّ الكونيّ إلى كلّ الأفراد باعتبارهم يشتركون في كونهم بشرا.وأن يصيبَ هذا الحبُّ شخصا مّا معناه أن يحبّ ما هو نمطيّ في الإنسان وهو ما يجعل كلّ فرد منضويا تحت مصطلح الإنسان”.(9) وإذا كان هذا الحبّ قد هُمّش دائما عبر القرون وجُرّد من كلّ أهمّيّة من جرّاء استفحال المشاعر القوميّة المتطرّفة والتعصّب الدّينيّ إلاّ لدى نخبة من المفكّرين والكُتّاب المستنيرين فإنّ ظهور شبكات التّواصل الاجتماعيّ والرّقمنة في أواخر القرن العشرين قد مكّنا من تقليص المسافات وكسر الحواجز بين حملة القلم نساء ورجالا في العالم بأسره.وهو ما ساعد على بروز وعي جديد يتأسّس على حبّ الآخر والاعتقاد في أنّ السّبيل الوحيدة لتجنيب البشريّة الانقراض من على وجه البسيطة هو تبنّي القيم الكونيّة وفي مقدّمتها الشّعور بالانتماء إلى مواطنة عالميّة . ولمّا كانت جانيس مونتوليو من الذين اكتشفوا الشَّابِكة ( الأنترنات) في وقت مبكّر – وهو ما مكّنها من ربط علاقات واسعة مع مبدعين ومثقّفين من القارّات الخمس،فسرعان ما نشأ لديها هذا الشّعور الكونيّ قبل أن يزداد مع توالي الأيّام قوّة ومتانة . فقد أحسّت به في البداية وسط حلقة أصدقائها الواسعة من أحبّاء القريض.وهو ما جعلها توجّه نداء إلى كلّ شعراء العالم ليتّحدوا في مواجهة ما أصاب القيم العليا من وهن ومنها قيمة القول والقول الشّعريّ تخصيصا ،من جرّاء الهيمنة المتزايدة للقيم السّلعيّة والتّجارية. وممّا قالته في هذا المعنى :

ما قولُكُمْ

لو جمعْنا قصائدَنا دونَ إمضاءاتِنا؟

فلو فعلنا ذلك لكنّا جميعا مؤلِّفيها

ولارتمتْ مقاطعُنا بعضُها بينَ أحضانِ بعضٍِ

في مهرجانِ ربّاتِ الشّعرِ

ولطارتْ نحوَ البرناسِ

وطنِ الفنّانينَ.

ما قولُكم

لو وحّدنا قوّانا ؟

أمّا إذا لم نفعلْ

فبعدَ سنواتٍ قليلةٍ

قد لن يكونَ للشّعرِ وجودٌ

(قصيدة ” ما قولُكُمْ لو” )

ثمّ يتّسع نطاق هذا الشّعور. فيشمل البشريّة بأسرها، كما نلمحه في هذه الأبيات :

في الشّاشة

عرَفتُ أصواتًا ونظراتٍ

وقلوبًا وأرواحًا ووجوهًا

لأشخاصٍ حقيقيّينَ.

ويمكنُني أن أقول لا محالةَ

وبكلِّ اعتزازٍ

إنّي

على امتدادِ الطّريقِ الذي أنهجُهُ

أحملُهم في قلبي قلبِ الشّاعرةِ.

(قصيدة” في الشّاشة“)

ومن الأهمّيّة بمكان القول إنّ بنية شاعرتنا النّفسيّة تؤهّلها على نحو كلّيّ للإحساس بمثل هذا الشّعور.وهو ما نجد له وصفا دقيقا في هذه الصّورة المقتضبة التي رسمتها لذاتها والتي تطفح صدقا وتلقائيّة .وقد رأينا من المفيد إيرادها في ما يلي كاملة :

روحي

ليستْ متنكّرة البتّةَ

لمغالطةِ الحياةِ.

فهي حينَ تعلو محيّاها ابتسامتُها العذبةُ الرّائعةُ

تلبسُ لباسَ خطيبةٍ

وحينَ تنصتُ إلى النّغماتِ الموقّعةِ

للحنٍ بديعٍ

ترقصُ حذوَ القلبِ رقصاتِ الفرحِ.

روحي لا تلبسُ أقنعةً

للاحتيالِ على الحياةِ

لكنّها تلبسُ ثيابَ الحِدادِ

حينَ ينتابُها الحزنُ

ويعلو نحيبُها من شدة الاحتضارِ

روحي تحملُ باقةَ أقحوانٍ

لتضعَها على قبرِ جزعِها

ثمّ تمشي بخطًى وئيدةٍ

بحثًا عن قلبٍ،

عن صديقٍ تأوي إليهِ.

روحي لا تتنكّرُ

و لا تتعرّى

بل تلبسُ ثوبيْنِ :

ثوبَ الموتِ

وثوبَ الحياةِ

لأنّها في قصائدي

تموتُ باستمرارٍ

ثمّ تُبعثُ إلى الحياةِ من جديدٍ

(قصيدة ” روحٌ غيرُ متنكِّرةٍ ” )

 

خاتمة:

حاولنا في هذه الدّراسة المقتضبة المتعجّلة تقديم صورة متكاملة لتجربة الشّاعرة الأورغوائيّة المعاصرة جانيس مونتوليو التي اتّخذت من صوتها الشّعريّ ، منذ سبع سنوات في شبكات التّواصل الاجتماعيّ وخاصّة منها شبكة الفايسبوك وفي عدد لا يكاد يحصى من قصائدها، لسان حال الإنسان المعاصر عامّة في حلبة الحبّ المزروعة ألغاما وما يعتوره فيها من السّعادة و الشّقاء، ومن الألم والفرح ، ومن الإخفاق والانتصار، مدرجة في ذلك تجاربها الشّخصيّة .ولقد تمخّض هذا النّشاط الإبداعيّ المكثّف عن عمل شعريّ راق، أنيق العبارة ،رائق المعنى والمبنى، يؤلّف كلاّ صُلبا متماسكا متكاملا يكشف عن ذات شغَلَها الحُبّ وملأ عليها فكرها ووجدانها .فإذا هي أحيانا تتقمّص شخصيّة الطّبيب النّفسيّ وأحيانا أخرى ترفع عقيرتها متغنّية بهذا الشّعور النّبيل وفي حالات ثالثة تهلّل للحبّ الإنسانيّ الكونيّ .وهذا ما جعلني أطلق عليها لقب” شمس الحبّ” الذي صارت تمضي به قصائدها .

 

الهوامش :

 

1Platon, Le Banquet, traduction française de Émile CHAMBRY, Classiques Garnier , Paris 1922

2 – على سبيل المثال تصوّر فرويد التّسامي على النّحو التّالي ” إذا كانت هذه الطّاقة في الانتقال هي طاقة الرّغبة الجنسيّة المحوّلة عن هدفها فيكون من حقّنا أن نسمّيها طاقة متسامية ،ما دامت تتكّئ دائما على نيّة الايروس الأولى في التّوحيد والرّبط .وذلك باستخدامها في سنّ قانون تخضع له هذه المجموعة الموحّدة الماثلة في الأنا أو في نزوعه “. انظر  :

 Le moi et le ça in Essais de psychanalyse , collection « Petite bibliothèque Payot », Paris 1981 p 259

3Hipper( Denis), « L’amour naissant : les ressorts dramaturgiques d’un élan sentimental », Sociologies [En ligne], Premiers textes, mis en ligne le 15 novembre 2012, consulté le 17 juin 2016 p 28

4Goarzin(Maël), « André Comte-Sponville, L’Amour en quatre leçons de philosophie. Amour et Bonheur (DVD 1) »,Lectures [En ligne], Les comptes rendus, 2013, mis en ligne le 12 novembre 2013, consulté le 17 juin 2016. URL : http://lectures.revues.org/12655

5Simmel( Georg), Philosophie de l’amour (traduction de l’allemand par S. Cornille et P. Ivernel), Edition Rivage, Paris, 1988 p 11

6Ibid. pages 203 – 257 -168

7Spinoza (Baruch), l’Ethique, trad. d’A. Guérinot, IVREA, Paris, 1993, Ethique III, proposition LVI

8Rousset(Jean), Forme et signification, Librairie José Corti, Paris1962 p 78

9Barthes (Roland), Fragments d’un discours amoureux, collection « Tel Quel », Editions du Seuil, Paris 1977 p 24

10Jamet (Samuel), Érotique et individualité, Une réflexion sur l’amour dans : Philosophie de l’amour de Georg Simmel, Séminaire de Philosophie morale et politique sur le thème de : « La relation à autrui sous la direction de Patrick Lang , Université de Nantes, Département de Philosophie, Année 2012 – 2013 p 12

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*