ممّا ينبغي أن نتعلّمَهُ من الألمان (2) : محمّد صالح بن عمر

في بيت العائلة الألمانيّة التي استقبلتني في أثناء زيارتي الأخيرة لبلاد قوته وشيلّر ،استغربتُ ألاّ أرى على مائدتها عند تناول وجبات الطّعام الثّلاث أيّ قطعة من الخبز.ولمّا كنت من بلد ،الخبز فيه سيّدٌ ما دامت اندلعت فيه يوم 3 جانفي 1884 ثورة بأكملها – وهي ثورة الخبز الشّهيرة التي اندلعت على إثر الزّيادة في هذه المادّة الغذائيّة الشّعبيّة وأدّت إلى سقوط أكثر من 400 ضحيّة، سألتهم قائلا ” “ألا تأكلون الخبز؟” فأجابوني بصوت واحد : ” لا نأكلُه”.فقلت:” هل هو محرّم في دينكم ؟ على حدّ ما أعرف قد ورد ذكره في الإنجيل .فقد قال المسيح عليه السّلام :” لا يعيش الإنسان بالخبز وحده”.قالوا:” نحن لا نأكله لأسباب دينيّة بل لأنّه مضرّ بالصّحّة ، إذ مؤشّر السّكّري فيه (90) وهو من أعلى المؤشّرات من هذا القبيل في الأطعمة التي يستهلكها الإنسان.”. قلت: ” لكنّي رأيت عدّة مخابز في المدن الألمانيّة التي زرتها”.فقالوا: “لا يوجد في ألمانيا الألمان وحدهم ثمّ إنّ مخابزنا تعدّ عدّة صنوف من الأطعمة المأخوذة من الحبوب نستهلكها” .
قلت : “اعذروني أنا دون خبز لا أحسّ بالشّبع أبدا.فلتسمحوا لي أن أشتري خبزة صغيرة أتناول بعضها في الوجبة القادمة”.فقالت ربّة البيت:”لا أبدا ،أنت ضيف عندنا وسنوفّر لك الخبز”.
وفي وجبة العشاء وضعوا بجانب صحني شريحتين صغيرتين مستديرتين من الخبز.فذقت إحداهما فوجدتها في غاية الملوحة .وعلى الرّغم من أنّ مؤشّر ضغط الدّم عندي عاديّ ( 12 على 7) دون تناول أيّ دواء فقد حرصتُ دائما من باب الوقاية البحتة على ألاّ آكل الأطعمة المالحة.فأفضيت إليهم عندئذ بهذه المشكلة الصّغيرة .وكم كان تعجّبي شديدا حين قالوا لي :” في ألمانيا كلّ الأطعمة المصنوعة من الحبوب تحتوي على الملح.وذلك لأنّ الملح مادّة مهمّة للبدن وأنّ النقص في السوديوم يتسبّب في القصور الكلويٍّ و قصور القلب و اختلال وظائف الدّماغ “.والإفراط في استهلاك الملح هو وحده الواجب اجتنابه” ”
فسكتُّ .لكنّي لم أستطع أكل شريحتي الخبز .فقالت لي أستاذة لغة فرنسيّة من العائلة : ” انظر إلى صحافنا.لقد أكلنا كلّ ما فيها .فلتفعل مثلنا”.فلم أستطع إلاّ أن انضبط لأمرها رغما عنّي .وقد فسّر لي أحدهم في ما بعد أنّه من المخجل حقّا أن يوضع على المائدة أكثر ممّا يحتاجه الآكل ،في حين لا يجد ملايين البشر في العالم ما يأكلونه. ثمّ إنّ بقايا الأطعمة اذا ما أُلقِي بها مع القاذورات تسبّبت في إلحاق ضرر بالغ بالمحيط “.
هاتان الملاحظتان ذكّرتاني بكمّيّات الخبز وبقايا الطّعام الضّخمة التي تُلقى كلَّ يوم عندنا في الطّريق العامّ مع القاذورات وجرّتاني إلى المقارنة بين شعبنا الذي هو من أقلّ الشّعوب إنتاجا وأكثرها استهلاكا بل وتبذيزا في العالم والشّعب الألمانيّ الذي هو من أكثر الشّعوب إنتاجا و ترشيدا للاستهلاك “.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*