سو زان إبراهيم تتّشحُ بالأملِ في ديوانها طريقٌ أبيضُ : قصائدُ سويديّةٌ بقلم : ديما الخطيب – جريدة “تشرين” – دمشق – سورية

ديما الخطيب

 

البعد الإنسانيّ الذي يدور في فلك وجوديّ ويصطبغ بصبغة صوفيّة عميقة من دون أن يقطع صلته بالواقع، هذه هي مناطق الجمال المشترك القادرة على تجاوز كلّ الخنادق والحدود وحتّى اللّغة ومعطيات الثّقافة المختلفة..
الشّاعرة سوزان إبراهيم ابنة حمص البارّة وسليلة «جوليا دمنا» كما يحبّب لها أن تقول، تحمل إجازة في اللّغة الإنكليزيّة ودبلوم التّأهيل التّربويّ، وهي عضو في اتّحاد الكتّاب العرب وجمعيّة القصّة والرّواية، ولها الكثير  من الإصدارات الشّعريّة نذكر منها «لتكن مشيئة الرّبيع- حمص 2003» و«كثيرةٌ أنتِ- دمشق 2010» و«إكواريل- دمشق 2014»، و«صرت الآن غابة السّويداء2017» الذي ترجم، وديوان «قلبي الطّائر» إلى الفرنسيّة..
وصفها النّاقد التّونسيّ محمّد صالح بن عمر في كتابه «وجوه شعريّة من العالم» بأنّ قصائدها تتميّز بوضوح المعنى لكن مع التّسامي عن الوقوع في فجاجة الدّلالات المرجعيّة، ويرجع الفضل في ذلك إلى استخدامها الومضات المباغتة على نحو مكثّف داخل القصيدة الواحدة .ومثال ذلك قولها «من خزانتي أخرجت قمصاناً.. فجاءت كائنات الوجد.. تبحث عن ألوانها”.

حين استقرّت سوزان إبراهيم في السّويد منذ ما يزيد على العام، اكتفت بدايةً بمساحة زمنيّة من التّأمّل الرّوحيّ، فصامت عن كتابة الشّعر بعد أن كتبت الحرب لحين من الزّمن في ديوانها «أكواريل» حتّى اتخمت لغتها بالبكاء والدّم والمأساة: « أصابع لغتي المدماة صارت تدهمني في الحلم، فقرّرت تعقيم الشّعر من لغة الصّراع ومن لون الدّم، لقد كتبت الكثير من القصائد عن الحرب.. التّماهي مع الطّبيعة جعلني ألوذ كثيراً بالصّمت، والصّمت غالباً ما يستدرج العقل للعمل عبر نوافذ الحواسّ أي إلى التّأمّل ويفتح للخيال آفاقاً غير محدودة».
سوزان إبراهيم أيقنت أنّ ذاتها الشّعريّة مازالت ولّادة تضجّ بالخصوبة، وبعد أن شاركت في الكثير من الأماسي الشّعريّة في المدينة التي استقرت فيها، فاض قلبها غبطةً بردّ فعل الجمهور على أعمالها فظنّت بداية أنّ سببه التّعاطف لكونها سوريّة، لكنّها أيقنت لاحقاً أن قصائدها البعيدة عن الحرب لامست قلوب الجمهور الذي بدأ يطالبها بالمزيد من المشاركات، تقول سوزان إبراهيم: «بعد وصولي إلى السّويد بفترة لا بأس بها انتابني خليط مدهش وغريب من المشاعر والأفكار والخيالات، كانت المدينة بيضاء تماماً عند وصولي.. حتّى البحيرة الشّاسعة فيها كانت مساحة جليد أبيض.. بعد ذلك بدأتُ اكتشاف تضاريسها وبيوتها وشوارعها وكلّ تفاصيل الجمال الذي ألتقيه أوّل مرّة.. هذا كلّه جعلني في حالة مدٍّ شعوريّ وتأمّليّ، وهذا ما يسبق الكتابة عادةً”.
اللّون الأبيض تغلغل في سوزان إبراهيم ونفخ في قلبها من روحه حتّى ملأها بياضاً، فقرّرت خوض غمار الكتابة مجدداً لكن هذه المرّة بوحي من بيئة البلد المضيف، وبعد أشهر أبصرت مجموعتها الشّعريّة «طريق أبيض.. قصائد سويديّة» النّور على يد المترجم محمّد صالح ابن عمر الذي نقله إلى اللّغة الفرنسيّة مقدّماً إيّاه ببعض الكلمات على الغلاف الخلفيّ: «بعد أن عاشتِ الشّاعرةُ السّوريّةُ سوزان إبراهيم المقيمةُ منذ قرابةِ السّنةِ في السّويدِ سبعَ سنواتٍ طويلةٍ من الحربِ ببلدِها، نجتْ في أثنائِها أكثرَ من مرّةٍ بأعجوبةٍ من موتٍ محقّقٍ، وبعد أن نحتتْ لنفسِها أسلوباً يجمعُ بين اللاّ معقولِ والواقعيّةِ على خلفيّةٍ وجوديّةٍ وصوفيّةٍ، بدأتْ مرحلةً جديدةً من مسيرتِها الشّعريّةِ أبرزُ مميّزاتِها رؤيتُها للعالمِ وخاصّةً لعالمِها الأصليِّ انطلاقاً من الضّفّةِ الشّماليّةِ، ولغتُها الشّعريّةُ التي أضحتْ على نحوٍ أوضحَ أكثر إيغالاً في التّجريدِ والإيحاءِ وتمثُّلها الأعمقُ لتناقضاتِ الوجودِ الإنسانيِّ”.

القصائد البيضاء اجتاحت الأسود الذي سكن قلبها بسبب الحرب على بلدها الأمّ، لكن سوزان إبراهيم لم تخرج بعيداً عن أسلوبها في الكتابة، فبقيت كلماتها متفجّرة بطاقة الإدهاش الماثلة فياستخدام الكثير من الصّور:
نيٌّ داخلي بالزّوايا الحادّةِ.. لكنّي لا أجرحُ!.. مدوّرةٌ كحصاةِ سيلٍ.. كلّي جهاتٌ “
ذاكرتها الطّفوليّة لم تفارقها، بل كانت روحها المعمّدة بجمال الطّبيعة ترفرف من بين كلماتها قبل أن يفرض الثّلج سطوته على سطورها:
“أيلولُ.. لم يُفقِدهُ ذهبُهُ حكمةَ التّواضع» «ملايينٌ من إبرِ الصّنوبرِ.. ولا نعرفُ كيفَ نخيطُ جرحَ الغابة!.”.
تَغزلُ سوزان إبراهيم كلماتها بعناية مدهشة، تُجبرنا على مرافقتها رؤياها مشهداً تلو آخر، وتَذوّقِ نبيذ سُكَرها بالطّبيعة البيضاء، حتّى يكاد البرد يصقع أطراف أصابعنا رغم شمس الرّبيع الدّافئة، ونحن نلاحق خطواتها حرفاً حرفاً متلم”سين الكلمات بأصابع رقيقة من خيال:
“حوافرُ غزالِ الرّنةِ.. ترسمُ قلوباً على الثّلجِ.. بينَ قلبٍ وقلبٍ خطوةٌ.. خطوةٌ تُتلِفُ أخرى.. وكُلُّها تُدركُ حدودَ الغابةِ.. للغابةِ شكلُ بئرٍ.. البئرُ لا قاعٌ لها”.
تشتاق شمس بلادها وتغازلها من خلف ستار نوافذِ الاغتراب، وتتنقّل بقدمين حافيتين بخفة فراشة فوق كلّ ما تراه عيناها من دون أن تجرح نقاء الثّلج الذي زاد شعرها دفئاً:
“في الصّيفِ ينمو بغزارةٍ!.. في الشّتاءِ.. هل يقصُّ الضّوءُ شَعرَهُ؟! “
في «طريق أبيض» نرى سوزان إبراهيم أكثر تحرّراً من قيودها السّابقة، وأكثر هدوءاً وراحة، لا يهدّد سكينتها إلاّ طيف الاغتراب المتّشح بالحزن، الذي يقبع على حرف نافذتها، ويلوّح لها كلما أشاحت بوجهها عن قلمها:
“الغيابُ طيورٌ جارحةٌ.. طيورٌ تُفضِّلُ الحزنَ طازجاً”.
تغلب على النّصوص الجديدة النّفحة الصّوفيّة والتّأمّليّة. فهدوء طبيعة المدينة وجمالها والبيئة الجديدة التي عاشت تفاصيلها اليّوميّة انعكست كلّها في روح النّصّ:
“ضوءٌ وكونٌ.. من يملأ الآخر!.. من يرى الآخر؟”
بعناد وبحث مستمرّ عن ذاتها الوجوديّة، تواصل سوزان إبراهيم سيرها على الكلمات من دواوينها السّابقة إلى «طريق أبيض» تاركةً بصمتها في مزج السّرد القصصيّ بالشّعر، وهو ما نراه في كلّ زاوية معبّقة بنفحات روحها المتصالحة مع الطّبيعة:
بعضيَ حطبٌ.. هل أقصدُ صالونَ التّجميلِ.. أم منشارَ الحديقةِ!؟
الإنسانيّة المترامية الأطراف والمتأصّلة في نصوصها التي حلّقت بها بعيداً عن حدود الجغرافية إلى شساعة الكون، والمتزيّنة بفرادة اللّغة وجماليّة العبارة من خلال تطوّر واضح للشّاعرة في ديوانها الأخير عبر استخدامها أدوات دلاليّة في الحديث عن كلّ صراع إنسانيّ ممكن وعلى امتداد اللّغة:
وإنْ صرتُ حجراً.. فلا ترمِ بي أحداً“.
يضمّ ديوان «طريق أبيض.. قصائد سويدية» ٤٤ نصّاً شعرياً، جميع النّصوص التي كتبتها خلال إقامتها في السّويد جديدة، ولم تنشر في مجموعة شعريّة باللغة العربية بعد.
صدر الديوان عن دار نشر أديليفر في باريس في آذار ٢٠١٩، وهو الدّيوان الثّالث المترجم لها بعد «قلبي الطّائر» و«صرت الآن غابة»، وهما للمترجم نفسه محمّد صالح ابن عمر وصدرا عن دار النّشر نفسها.

 

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*