حوارات مجلّة “مشارف” :17 – مع الشّاعرة السّوريّة ليندا عبد الباقي

ليندا عبد الباقي

 من هي يندا عبد الباقي؟

ولدت ليندا عبد الباقي بسورية سنة 1962.وهي تجسّد الأديبّة بالمعني الكامل لهذه الصفة .فهي صاحبة دار نشر عتيدة لم يتوقّف نشاطها طيلة سنوات الحرب وتصل منشوراتها إلى أكثر الأقطار العربيّة .ولها منتدى ادبيّ يلتئم كلّ شهر ويحضره الأدباء والفنّانون من كلّ الاتجاهات ومن كلّ أنحاء سورية. وهي رئيسة مؤسّسة جمعيّة النّقاء الثّقافيّة الكائن مقرّها بمدينة السّويداء ورئيس مجلس إدارتها. تتميّز كتابتها الشّعريّة الطافحة معاني حافّة وألوانا من العدول المُستَحدَث بالبحث الدّائم عن الصّور الرمزيّة المباغتة . مُجملُ ما كتبته إلى حدّ الآن يُحلّ شعرَها في صميم شواغل الإنسان المعاصر الوجوديّة ويشفّ عن مزيج من كآبة خفيّة وتشاؤم في حالة كُمون.

مجموعاتها الشّعرية :

وردة النّار- لمن ينحني الحُور؟ – أغنية لمساء أخير – يخاصرُني الاخضرار- صهيل صمتي – على سرير يقظتي.

السّؤال الأوّل  :أخاطب أوّلا ليندا الشّاعرة ثمّ سأنتقل إلى ليندا النّاشرة والمنشّطة الثّقافيّة .أنت من الشّعراء الذين انحازوا  إلى قصيدة النّثر وكادوا يقتصرون على الكتابة فيها وقد بلغ عدد مجموعاتك حتّى اليوم السّبع مجموعات. وهو ما يجعلك اليوم من أهمّ ممثّلي هذا اللّون من الكتابة الشّعرية في سورية .فكيف تفسّرين هذا الاختيار ؟ هل يرجع إلى تأثّرك بالعَلّمين السّوريّين محمّد الماغوط وأدونيس ؟ أم هل مردّه إلى موقف فكريّ من الشّعر الموزون أم هل المسألة مزاجيّة وذوقيّة بحتة؟

ليندا عبد الباقي : أنا كتبت في دواويني السّابقة الشّعر بأنواعه: الكلاسيكيّ وشعر التّفعيلة وقصيدة النّثر والومضة. لكنّ معظم شعريّ  من جنسي المنثور والومضة .وذلك لأنّ الشّعر، في تقديري، حقل من حقول الوعي البشريّ بل هو نبض المبدع .وهو ولعٌ ميتا- جماليّ بالمدهش واللاّ معقول واللاّموجود والمغاير. لهذا كان التّفريق بين الشّعر والنّثر .وهو ما يجعلني أحاول وخز النّسيج الشّعريّ  بغية إيقاظه بابتكار أشكال شعريّة أدخلها جسدَ الشّعر في إطار عمليّة  إنعاش وتجديد لكي تختمر الحالة الشعرية .ولا بدّ لي هنا من التعايش لكي لا أخسر أي مرحلة من المراحل الثّلاث التي يجسّدها كلّ نوع من أنواع الشّعر لأهميتها  اليوم .ولكن مع كلّ ذلك  أكثر ما أكتبه في قصيدة النّثر والومضة.

إنّي أعرّف  قصيدتي بأنّها فضاءات، غابات، ينابيع، إنّها بصمة نفسي ولغة  مشاعري…فأنا أكتب مكنوناتي وما أراه في مرآة نفسي .والرأي عندي أنّ أعذب الشّعر أصدقه، خلافا لما يقال ووظيفة الشّعر هي تحقيقُ الاختلاف عمّا هو سائد والكفاحُ ضدّ جمود اللّغة ، حفاظا لها من خطر التّكلّس وزرعُ أجنّة جديدة في أحشائها  مع مرايا ساطعةٍ تعيد إليها بهاءها لكي يبقى الشّعر الحارس الأمين لأرواحنا ولتتحقّق المطابقة بين جماليّة اللّغة والحياة التي نعيشها وأخيرا كشفٌ المجهول دون التّعريف بالمعروف و دون اصطياد الغزالات المحنّطة ،على أنّي ، كما قلت ، أعترف بأنّي أبتعد في أكثر الأحيان عن الشّعر الكلاسيكيّ  .وما يبعدني عنه هو موقف ناظمي الشّعر المتحجّر  وتشدّدهم المفرط ومعاداتهم للحداثة وتسميتهم  النّظم شعرا ودفاعهم  المستميت عنه بدلا من الشّعر وكأنّهم يراوحون في مكانهم ويحنّطون قصائدهم .

سيبقى شعري لغة شعوري  نابعا من صراخ صمتي… سأبقى عشتار….ديميتير  تزرع الحرف ليعمّ  الخصب وتنبت القصيدة بقوامها السّاحر ورشاقتها فتصعد بي بأجنحتها إلى السّماء الثّامنة. لم أنفكّ وسأظلّ أحاول عدم التّأثّر بكبار الشّعراء  حتّى يمنحني الشّعر هويّتي الخاصّة.

السّؤال الثّاني: يغلب على شعرك من حيث الغرض والموضوعات  الطّابع الوجوديّ .فهل هذا التّوجّه من آثار الحرب التي تدفع الإنسان على التّفكير بعمق  في المصير وعلاقة الذّات بالآخر وعلاقتها بالكون أم هل هو ناتج عن طبيعة بِنْيَتِك النّفسيّة والذّهنيّة ؟
ليندا عبد الباقي Lأنا أتألّم إذا أنا موجودٌ) :هذا هو الطّابع الذي اجتاحنا في سنوات الأزمة والحرب. لذا أنزفَ خطى القصيدة ووسم َحروفَنا بمياسمه المأسويّة وباتت معظم قصائد الشّعراء تعجّ بمفردات الحرب ،إلاّ أنّ قصيدتي قد اجتاحتها مفردات المحبّة والحبّ وسيطرت عليها .وستبقى كذلك لأنّها مرآة روحي ونبضي و صوت الأنثى في داخلي وصراخ صمتي بلغة شعوريّة وجوديّة وتعبير حسّيّ .وهذه الحالة التي أصفها هي حالة انهمار القصيدة كمطر صيفيّ دافئ يهطل فيُنبت الحروف. إنّ  أيّ قصيدة رشيقة  ،في تقديري، ينبغي أن تتأسّس على الثّقافة والموهبة والمعاناة واللّغة المتينة. لذلك أحرص دائما على أن تكون قصيدتي بصمة نفسي .وهو ما جعلني لا  اكتب أبدا  عن الأشخاص .والسّبب في ذلك  أنّي أخاف إن كتبت عن شخص مّا  قد يتغيّر في يوم من الأيّام فتعاتبني عندئذ قصيدتي.  لذلك فالشّخص الوحيد الذي كتبت عنه   هو والدي  على إثر موته .ومن جهة أخرى  فإنّ الشّعر الحقيقيّ ينبغي أن  يتعامل مع الحسّيّ والرّوحيّ  على نحو متعادل ،لا مع أحدهما على حساب الآخر كالنّسغ الصّاعد الذي  ينقل عناصر الطّبيعة ويحوّلها إلى مجرّدات وعناصر قوى ما ورائية. وهكذا يتوهّج النّص ويكون ما نراه على السّطح هو نفسه  بناه العميقة . ولقد بات مقرّرا اليوم أنّ الرّؤية الجديدة هي التي تخلق شعرا جديدا وهذه الرؤية ينبغي أن تشمل الكون والوجود والإنسان واللغة وتصورا مخصوصا  للوجود والمعرفة.

وختاما  فإنّي بتخصيب الحوار وتعميقه مع عصري وجيلي سأبقى أعمل على حلّ لغز الشّعر، هذا الفنّ  المستعصي الشّريد،البعيد عن أيّ تعريف دقيق للإسهام في تطوير الرّوح الإنسانيّة نحو الأرقى.

السّؤال الثّالث : يرتكز شعرك  على تقنية الإبهار والمباغتة بالصّور المبتكرة  .وهي من أعسر التّقنيات في فنّ الشّعر .فكيف تستعملينها عند الكتابة ؟ هل تخطّطين للأفكار والصّور التي تودعينها في قصائدك ؟ أم هل تفدُ على ذهنك تلقائيّا ؟

ليندا عبد الباقي : شعري هو روحي في مجريات الكلام ونبضي. بيني وبينه مشيمة لا تسقط ،لانسجام كلمتي مع الموسيقى الدّاخليّة. ومخزوني الشّعريّ الذي تكوّن عبر عشرات السّنين تنبعث من أمواجه ، حين أكتب، موجةٌ أبثّها في صميم تجربتي مع اللّغة .ومن جهة أخرى لشعري لون أو مسحة أو شحنة تمتزج بخصوصيتي الوجدانيّة فتعطيني هويّةً أو نمطاً أو أسلوباً مخصوصا. وهكذا حين أمتلك أدواتي وصوتي ولوني الخاصّ أمتلك لمستي السّحرية الشّاعريّة فتنتظم أصوات حروفي  في شكل هندسيّ داخلي ، معلنة  عن  ميلاد قصيدتي وتألّقها.

لقد كنت دائما ولا أزال أعتقد أنّ الشّاعر هو  الذي يخلق مادّته ولغته الخاصّة  به وتكون له تجربة متميّزة  يحلّق بها عالياً، على شرط أن يتحاشى صياغة  النّص  والجملة صياغة مفتعلة كما يفعل عادة النّظّامون. وذلك لأنّ الدّفقة  العاطفيّة  المنبعثة من أعماق الذّات هي التي تضمن  الصّدق ورشاقة المعنى ،لا سيّما إذا عاضدها عقل فلسفيّ يعيد تشكيل الحياة بعينين مفتوحتين على العصر. أمّا النّصّ في حدّ ذاته  فهو يتألّف عندي  من طبقات بنائيّة متراكبة… و  هذه الهيكلة معرفيّة .لذلك لا سبيل إلى تحقيقها إلاّ إذا توفّرت لدى الشّاعر التجربة والثّقافة اللاّزمتان.وهكذا فإنّ هذين العنصرين : العاطفيّ والثّقافيّ يمنحان معا النّصّ  صوتا ونبضا وإيقاعا داخليّا مخصوصا ويمكّنان الشّاعر من الإبداع وحقن اللّغة بزخم تجديديّ وإنشاء بلاغة مبتدعة تماما  ، كما يمكّنانه من نحت الكلام  على النّحو الذي يتلاءم أكثر من غيره مع روح القصيدة .والملاحظ في هذا الصّدد أنّه ليس من السهل جعل الشّعر فنّا خالصا . إنّما يحتاج ذلك إلى طاقة شعريّة هائلة تنطلق من أعماق ذاتٍ مؤمنة بأنّ الخلاص لا يكون إلاّ في  الشّعر وعليّ أن أضيف أيضا أنّه قد يكون من السهل أحيانا الوصول إلى الذّروة لكن من الصّعب  البقاء فيها وامتلاك القدرة على اجتناب الهبوط. وختاما فإنّ هدفي الأسنى ممّا أكتب هو أن أنشئ شعرا مدهشا ،جميلا ،غريبا ،مبتكرا.

السّؤال الرّابع : أخاطب الآن ليندا النّاشرة .أرى شخصيّا أن مؤسّستك دار ليندا للنّشر لم يتأثّر نشاطها بالأوضاع الصّعبة السائدة في البلاد من جرّاء الحرب.وهذا يعني أنّ القارئ السّوريّ يواصل إقباله على اقتناء الكتاب رغم هذا الوضع الصّعب أم ثمّة أسباب أخرى ؟

ليندا عبد الباقي :ليندا الشّاعرة لا تختلف عن ليندا النّاشرة لأنّني أعمّق تجربتي من خلال النّشر. وقد اخترت ذلك لأبقى مع الكاتب والكتاب وبين السّطور والحروف  سواء أكانت شعرا  أم نثرا  أم نقدا .ربّما أصبح الكتاب منذ اندلاع الأزمة الملاذ الآمن  لأنّه يوفّر حالة من الهروب من كلّ ما يقلق و ما يحدث  حالة من التّوتّر كالظّروف الاجتماعيّة والمعيشيّة والتلفزة والأخبار والتّفجيرات إلى صفحات ناصعة تأخذ القاري إلى شاطئ الأمان والسّكينة، إلى عالم هادئ ينساب بين أنامله بهدوء ورفق. فيدخل عوالم قصيّة عن الدّمار فيها الكثير من الحياة والجمال. وقد ساعد على ذلك أيضا الانقطاع المستمرّ للكهرباء .فخير أنيس في الظّلام شمعة تنير الحرف وكتاب ينير العقل ولأنّ الأزمة منتشرة كذلك في معظم أقطار الوطن العربيّ.

ولم تتأثّر دار النّشر لا على صعيد سورية ولا الوطن العربيّ  من حيث الطّباعة والنّشر ولكنّها تأثّرت  من ناحية التّوزيع لأنّ الكتاب السّوريّ كالمواطن السّوريّ اضطر إلى الاقتصاد والتّقشّف وحلّت به مثله لعنة الأزمة. ولا ننسى أيضا ابتعاد الإعلام عن الثّقافةو الإصدارات الجديدة و المبدعين بحجّة أنّ الأولويّة لمواجهة الأزمة .وهذا  العزوف  جعل الأزمة تحتلّ الصّدارة على حساب كلّ ما هو إبداعيّ وجميل و نابض بالحياة. ومن حسن الحظّ أنّ هناك  طبقة مهووسة بالقراءة لها علاقة حميميّة بالكتاب ولو على حساب رغيف الخبز .وهذه الطبقة هي  عماد المجتمع السّوريّ ومكمن قوّته. وأنا  باعتباري صاحبة دار ليندا للنّشر تحدّيت هذا الوضع بكلّ جبروت الكلمة  التي اعتبرتها السّلاح الأقوى في المعركة بإقامة المعرض الدّائم للكتاب في مقرّ دار النّشر، بالإضافة إلى المراكز الثّقافيّة وكذلك إقامة حفل توقيع لكلّ كتاب يصدر عن الدّار بفضل وجود لفيف من الكتّاب والمبدعين وكذلك أقامة معارض للكتاب وتوقيع مجموعة من الكتب لكتّاب من الوطن العربيّ  في مهرجانات مهمّة أقمتها  في أثناء الأزمة تحدّيا للوضع وتثبيتا للثّقافة ولجذب  فئات كثيرة من الشّبّان إلى السّاحة الثّقافيّة بعيدا عن الدّمار والسّلاح.

 

السّؤال الخامس : المشكلة الكبرى التي يواجهها الأدب العربيّ اليوم هي انقطاع الكثير من مسالك التّوزيع بين الأقطار العربيّة .فكيف تواجهين هذا الوضع ؟وهل لديك فكرة عن مدى انتشار كتب مؤسّستك في تلك الأقطار؟

ليندا عبد الباقي : طبعا  إنّها معاناة كبيرة ومن أصعب الأمور أن تكون الثّقافة والكتاب تابعين للسّياسة كأن ترفض إحدى الدول الكتاب السّوريّ أو تتعامل مع دور النّشر السّوريّة بطريقة ما لا علاقة لها بالثّقافة والأدب أو أن تغصّ دور النّشر بالكتب الدّينيّة لمواكبة الحدث.فهذه  كلّها أشياء تشدّنا مئات السّنين إلى الخلف،  فضلا عن غلاء الشّحن وتذاكر الطّائرة والحجز وقلّة زوّار المعارض والحالة الماديّة المتردّية للزوّار.لقد  كانت المؤسّسات سابقا تسهم في شراء الكتب واليوم هي تشكو الفقر والعوز. وبسبب  ما نعد به الكتّاب الذين ننشر لهم بإنّ كتبهم تعرض في المعارض الخارجيّة أصبحنا نحن دور النّشر نتقايض  فيما بيننا .فكلُّ  منّا يسافر ويأخذ كتب الآخر ولو بنصف السّعر التزاما بانتشار الكتاب في الأقطار العربيّة  .

السّؤال السّادس :لمّا كنت من شعراء قصيدة النّثر فهل يؤثّر ذلك في ما تنشره مؤسّستك من دواوين  أم هل تنشر أيضا لشعراء  القصيدة العموديّة وشعراء قصيدة التّفعيلة ؟
ليندا عبد الباقي:أنا كتبت الشّعر بأشكاله . لكنّي أميل إلى قصيدة النّثر وقد أطلقوا عليّمنذ أكثر من عشر سنوات(شاعرة الومضة) .وقد ِسُمِّيتْ   بهذا الاسم  لما تحمله من اختزال للفكرة وعمق في المعنى وما يتوفّر فيها من عنصر الدّهشة. فقصيدة النّثر نظام شعريّ يتميّز بالوحدة العضويّة وكثافة  المعنى و ببساطة  التّركيب، إذ هي لا تميل  إلى الشّرح والاستطراد ولها أشكال إيقاعيّة مخصوصة  تمحو الزّمان والمكان وتتجسّد خاصّة في إيقاع المعنى والإيقاع الشّكليّ  . فيأتي الإيقاع فيها على أنحاء  متعدّدة  منها الاستعارة والتكرار والتوازي والمفارقة والمقاطع المنتظمة والبناء الدائري .وهو ما يمكّنها من الاكتفاء بذاتها. ولقد  كتبتها بكل تلك الأشكال ومن خلال ترجمة نصوصي وهو ما لاحظه شخصك النّبيل  حين ترجمت نصوصي . كتبتُها  وفق تواترات ناعمة كسرت المطلق ليلمع الشّعر من بين طيّاتها وليبدوَ مربكا وأخّاذا .فلم  أنفكّ  أشحذ الخيال وأخصّبه باللّغة والبلاغة والتّشبيه والاستعارة والكناية بعيدا عن عكّازة الوزن  أي ما يسمّى بالموسيقى العروضيّة والقافية والشّكل الهندسيّ الرّتيب المنتظم  الذي تحوّل  عند معظم الشّعراء إلى نظم  ، على حين أنّ الشّعر الحقيقيّ تمرّد على اللّغة وقول ما لم تقله، فهو منطقة الخطر في الوعي ومنطقة الشّرارة في اللّغة واهتزاز خلايا الحروف لانبثاق جديد. فشعراء الشّطرين راوحوا في مكانهم وحاربوا التّجديد وانعزلوا عن اللّغة الشّعريّة الحديثة  و قد فاتهم أنّ  الشّعر يكون شاحبا هزيلا إذا خلا من  الصورة المبتكرة وثرثاراً إنشائيا إذا لم يخضع لهندسة بنائيّة للأفكار والصّور فيصاب بتحجّر عقليّ ويصبح  حالة عدائيّة لجيل مبدع سيرفض حتما أولئك النظّامين  لأنّ الزّمن لا يعود أبدا إلى الوراء . لذلك  تميل دار نشري إلى  الحديث والحداثة والى الأجيال المبدعة المجدّدة بعيدا عن أصحاب العقول المتحجّرة التي لا تعترف بالآخر.

السؤال السّابع :  لك صالون ثقافيّ نشيط .فهل نشاط هذا الصّالون مكمّل لنشاط دار النّشر بمعنى أنّها تنشر خاصّة لأعضائه وأنّ  برامجه ترمي إلى التّعريف بمنشوراتها أم هل هو مستقّل عنها ؟

ليندا عبد الباقي :الصّالون منفصل تماما عن الدّار. وقد أسّسته قبل تأسيس الدّار بسنوات وقد افتتحه يوم تأسيسه الفنّان العالميّ غسّان مسعود وتحدّث بتلك المناسبة عن العالميّة وعن المسرح. ومنذ التّأسيس أخذت استضيف  مرّة في كلّ شهر المبدعين والقامات السّامقة في الشّعر والرّواية والمسرح والموسيقى والفنّ التّشكيليّ لإفادة الجيل الجديد بالخبرات العملاقة في هذه المجالات من خلال حوارات مهمّة تحرى معهم .ومن ضيوف المنتدى المترجم الرّائع لأعمال إيزابيل اللّيندي صالح علمانيّ والرّوائيّ فاضل الرّبيعيّ والشّاعر يحيى السّماويّ ومجموعة من النّحّاتين العرب والأجانب منها مصطفى علي وأكثم عبد الحميد والموسيقي حسين سبسبي وشادي العشعوش وغيرهم .كثير ..و لا استطيع حصر الأسماء لأنّها كثيرة جدّا على مدى ثماني سنوات  بمعدل اسم مهمّ في كلّ شهر….  على أنّ المنتدى هو في المقام الأوّل منبر للمبدعين الشّبان وهدفه هو رعاية مواهبهم  وصقلها ليكون شراع العبور إلى مدى أوسع يحققّ لهم الانتشار . وقد أصبح الخامس عشر من كلّ شهر طقسا رائعا لهم يشكّل شيئا مهمّا في حياتهم لما فيه من حميميّة وتنوّع. وروّاد المنتدى أسرة ثقافيّة رائعة بينهم  قواسم مشتركة أهمّها مطلقا سموّ الكلمة. وإنّي لأبذل كلّ ما في وسعي للتّعامل معهم جميعا بسويّة حتّى لا أخلق أيّ نوع من الضّغينة أو الحساسية فيما بينهم ومعي أيضا .لذا  استمر هذا الجو المنعش وهذا السّلام وهذا الّنقاء وهذا الصّفاء فيما بينهم كلّ هذه السّنين…لكن مهما كان الأمر فإبداعهم  يبقى هو الكلمة الفصل. أؤكّد إذن أنّ هناك فصلا تامّا  بين المنتدى  ودار النّشر حتّى لا يكون نفعيّا وليترفّع عن  المصالح فيدوم .ونحن نعلن في المنتدى عن كتب مطبوعة في دور نشر غير داري لكن على أن لا يباع كتاب  .فيبقى فضاء ثقافيّا خالصا  .

السّؤال الثّامن : صدر لك ديوان باللّغة الفرنسيّة في باريس .فما هو إحساسك وقد وصل شعرك إلى القرّاء في الضّفّة الشّماليّة من البحر الأبيض المتوسّط ومدينة الأنوار خاصّة ؟

ليندا عبد الباقي : إنّ أهم فائدة جنيتها من حضوري ونشاطي في شبكات التّواصل الاجتماعي  هي وصول نتاجي الأدبيّ إلى شخصك النّبيل وترجمته  إلى الفرنسيّة وصدوره عن دار أديلفر للنّشر  بباريس . والإنجاز الأهم في حياتي الأدبية كان يوم صّنفتني في موسوعة الشّعراء العالميّين وأوصلت هويّتي الأدبيّة في مختاراتك  إلى القّارّات الخمس وبيوت شعراء هم  من أهمّ شعراء العالم . فحقّقت لي بذلك حلما كنت لأعجز عن مجرّد التّفكير فيه  .وما زاد سعادتي  أنّك حين طلبت منك ذات مرّة  ترجمة  بعض النصوص لصديقة لي قلت لي “أنا لا أترجم أبدا بطلب ولا بمقابل”  ، مذكّرا إيّاي  بأنّك ترجمت ديواني على ضفاف الحنين  إلى الفرنسيّة دون طلب منّي  ومؤكّدا لي  أنّك إنّما ترجمته لقناعتك  بقيمة شعريّ . فأحسست حينها بأنّ الدّنيا مازالت بخير وبأنّه لا يزال هناك من يخلص  للقضايا النّبيلة .

السّؤال التّاسع : سلطة شبكات التّواصل الاجتماعيّ كسرت سلطة الإعلام الرّسميّ واتّحادات الكتّاب إذ صار الشّاعر أو الكتاب ينتشر خارج حدود بلاده أحيانا وهو شبه مجهول فيها وعلى العكس من ذلك هناك شعراء وكتاب ينفخ في صورهم الإعلام الرسمي ولا ينتشرون خارج أقطارهم .فهل هذه الظاهرة إيجابيّة أم هل هي سلبية لما تحدثه من لخبطة وخلط في القيم الفنّيّة والفكريّة ؟

ليندا عبد الباقي :أصحاب المنابر الثّقافيّة كثيرا ما يقتربون عمدا من دائرة الضّوء على حساب المبدعين الحقيقيّين. ولكنهم من حسن الحظّ   لا يلبثون أن يحترقوا  ما إن تحين لحظة فقدانهم  لمسؤولياتهم عن تلك المنابر .ولا ننسى أيضا المصالح المشتركة والمتبادلة طبقا للمبدإ المعروف : اخدمني أخدمك .وما يحزّ في نفسي حقّا  هو ما يرتكبه أولئك المسؤولون من  قتل المواهب الشّابة والعمل على طمسها .وكلّنا نلاحظ تثبيت أسماء  هؤلاء وأصدقائهم في  وسائل الإعلام وكل المؤسّسات  الثّقافيّة إلى حين انتهاء صلاحيتهم فيها . ولمّا كان تاريخ هذه الصّلاحية موشوما على كراسيهم  ، فقد مات الأدب معهم وعلى أيديهم وخضع النقد لهم لأنهم عرفوا من أين تأكل الكتف ، كما  تراهم يقفون سدّاً منيعا في وجه الإبداع الحقيقيّ على حين  استطاع عدّة كتّاب وشعراء حقيقيّين عملوا هم قدر وسعهم على تهميشهم العبور بفضل شبكات التّواصل الاجتماعيّ إلى مختلف البلدان والقارات  حيث حظيت نصوصهم  بقبول حسن وعانقت النّجاح .لذا تعدّ تلك الشّبكات فضاء واسعا  حرّا لكل المبدعين لا يحتاجون فيها إلى واسطة ولا وساطة  وإنما جواز سفرهم   الوحيد هو الكلمة والنّصّ الرّاقيان . وتفسير ذلك أنّ هناك خطوطا متقاطعة بين المبدع والمتلقّي .فالمتلقي  يظلّ هو الأرض الخصبة للإبداع الحقيقيّ .وهذه في نظري ظاهرة إيجابيّة جدّا أعطت كلّ ذي حقّ حقّه.

السّؤال العاشر : ما هي مشروعاتك العاجلة والآجلة؟

ليندا عبد الباقي :من المشاريع الأدبيّة العاجلة  –  وهي قيد الطّباعة –  مسرحيّة شعريّة بعنوان مائدة الشّيطان تحكي علاقة الرّجل الشّرقيّ بالأنثى حين تتحوّل إلى مجرّد رغبات عابرة لا تؤجّج الرّوح ونظرتَه إليها من خلال تلك العلاقة. وذلك لأنّ الشّرف الشّرقيّ يرتبط بالإناث لا بالذّكور, آذ بعد تلك العلاقات تجد المرأة نفسها وهي تجرّ ذيل الخيبة في حين  يكون الذّكر –  ولا أقول “الرّجل” لأنّ الرّجولة قيمة عليا  – مزهوّا بنفسه .

ولي أيضا  رواية بعنوان دمعة على أخر السّطريدور موضوعها  حول  مرارة الحرب على سوريا وما خلّفته من دمار نفسيّ لجيل الشّباب وديوان بعنوان أرتديكَ صرخةً.وهذا العنوان على ثلاثة مفارق إذ قد يحمل سرّ الولادة ،ولادة القصيدة والوطن وحالة الحبّ الشّديد الألم.

وستصدر هذه الكتب الثلاثة عن دار ليندا للطّباعة والنّشر في بحر الأشهر القادمة من عام 2019.

تضاف إلى ذلك المهرجانات الدّوريّة الشّهريّة التي تقيمها دار ليندا بالتّعاون مع جمعيّة النّقاء ومنتدى ليندا الثّقافيّ الشّهريّ وإقامة عدّة معارض للكتاب داخل سوريا وخارجها حيث أصبح للدّار مندوبون في عدّة دول.

وفي نهاية اللّقاء أتوجّه إليك بكلّ التّقدير والعرفان لما تخلقه من تمازج ثقافيّ عبر القارات ولأنّك شراع العبور لكلّ منجز أدبيّ جميل ولأنّك الأب الرّحيم للكلمة  السّامقة..

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*