أرشيف تعاليق محمّد صالح بن عمر النّقديّة على الشّعر:3 : قصائد ميثاق كريم الرّكابيّ: 3- 1 :من الظلمةِ يأتي إليَّ طيفُكَ…

ميثاق كريم الرّكابيّ

 

من الظلمةِ يأتي إليَّ طيفُكَ…يلتفُّ حولي

كصلاةٍ تبكي على إلهٍ ضائعٍ

واسمُكَ…وطنٌ من الزّعفرانِ…يسهرُ بذاكرتي

فضَجَرُ المُحَالِ…وعَتَمَةُ المسافاتِ

لا تَكْسِرُ جرارَ الحنين….

يا………….أنا

على كتفِ أعوامي…نقشتُ وجهكَ برائحةِ اللّيمونِ

 

ما يميّز الحبّ العظيم ، بوجه خاصّ ، هو اتّساعُه الذي يمتدُّ  وراء كلّ حدّ  وعمقُه الذي يستعصي على السّبر وتعقّده  الذي لا يقبل الحلّ وسرّه الذي يمتنع  عن الهتك  .وثمّة  بالذّات تكمن الإمكانات العارمة  التي يوفّرها موضوعُه للشّعراء وسواهم  من الفنّانين ليوظّفوا  ما يُتاح لهم توظيفه من الطّاقات الانفعاليّة والتّخيليّة والفكريّة التي تزخر بها نفوسهم وعقولهم في محاولة تصويره ورسم معالمه . على أنّ النّجاح في هذه المهمّة لا يكون مضمونا إلاّ إذا تمتّع المرء بمواهب إبداعيّة حقيقيّة ، مثلما نلمسه في هذه المقطوعة التي تستثمر فيها صاحبتها ، هذه الوريثةُ للتّراث الثّقافي والرّوحيّ والأسطوريّ  العالي الصّيت لبلاد ما بين النهرين القديمة ،العراق حاليّا،  قدراتها التّخيليّة الفذّة وحساسيّتها المُرهفة، إلى أقصى حدّ ممكن،   للإفصاح عن لواعج عشقها لمحبوبها .فلنلقِ نظرة عجلى على الإستراتيجيا التي رسمتها لنفسها  والأدوات الفنّيّة التي استخدمتها .  إنّ الحبّ الذي تبوح به يلوح ، على حدّ ما يستخلص من أقوالها ، متجذّرا في أعماق روحها حيث هو  مقرون ،على نحو وثيق، في ذاكرتها الفرديّة إلى صورة حبيبها (واسمُك…وطنٌ من الزّعفرانِ…يسهرُ بذاكرتي – على كتفِ أعوامي…نقشتُ وجهكَ برائحةِ اللّيمونِ ) وكذلك في غياهب لاوعيها  (الظّلمةِ ) .لذلك  ما إن تطفو هذه الصّورة إلى السّطح حتّى يطفوَ معها العشق ويستحوذ على كيانها  (من الظلمةِ يأتي إليَّ طيفُكَ…يلتفُّ حولي) . وهكذا فإنّ البعد الأوّل لهذا الحبّ  بعدٌ ذهنيّ نفسيّ  . ثمّ يمكن أن نضيف إليه بعدا ميثيولوجيّا دينيّا وثيق الصّلة به  (كصلاةٍ تبكي على إلهٍ ضائعٍ ) .هذا التّجذّر في أعماق الذّات هو ، بلا شك ، علامة على الثّبات والرّسوخ والبقاء. ومن ثمّة  تنكشف لنا صفة الخلود التي يتّصف بها هذا الحبّ ، على شاكلة الحبّ الذي حملته عشتار لتمّوز ، زيادة على طبيعته الانصهاريّة  (يا………….أنا على كتفِ أعوامي…نقشتُ وجهكَ ) بالنّظر إلى تماهي الأنا مع الأنت  .وهذا التّوحّد الرّوحيّ هو الذي يفسّر ثباته أمام أعتى المحن(فضَجَرُ المُحَالِ…وعَتَمَةُ المسافاتِ لا تَكْسِرُ جرارَ الحنين..) . والحاصل ممّا سبق أنّ ميزة هذه المقطوعة الأولى هي  كثافة مستواها الدّلاليّ  التي أتاحت  للشّاعرة إمكان التّعبير عن عدد كثير من المعاني بكمّ ضئيل من الألفاظ . وهي ،في الحقيقة،  إحدى خواصّ الكتابة  الشّعرية  عند صاحبة هذا النّصّ،  التي اختارت التّخصّص  في اللّون العشقيّ.

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*