اخضرارٌ في بحرِ الرّمادِ : نور نديم عمران – اللاّذقية – سورية

نور نديم عمران

 

(لا ….هذه المرّة ستسير السّفينة بمشيئة الملاّح)
قالتها بقوّة فاجأتها هي نفسها،حملت حقيبتها وقفلت عائدة .
كان شريط الاخضرار الممتدّ على طول الطّريق يعرض أحداث الشّهور الثّلاثة الماضية …عاودها ذلك اليوم الرّبيعي الذي حمل آخر أنفاس الشّتاء الرّاحل ، السّماء تمطر بخجل من أشعة الشّمس التي تزاحمها،الشّارع خال إلاّ من بعض العابثين الذين راقبتهم من نافذتها ريثما يحين دورها للدّخول إلى  المكتب الذي لم يكن مقيتا إلى ما قبل لحظة دخولها: أما زلتِ لا تشربين القهوة…؟
– لا أرغب في تناول أيّ شيء.
–  من الآخر …..بلا لفّ أو دوران…أيّام أستاذ سالم معدودة ، تلزمنا شهادتك ونغلق ملفّه لنبدأ مرحلة جديدة أكثر إشراقا  لنا جميعا…لا تنسي أنّ اسمك في قائمة المرشّحين للتّرقية.
–  أعلم…. هذا بسبب سجلّي النّظيف وعملي وجهدي طوال سنين.
– إذًا لا تضيعي سنواتك تلك…وأعطينا ما نحتاجه.
–  ما الذي تقوله يا أستاذ؟ أ تريد منّي أن أساهم في دمار سمعة زميل لي وخراب بيته بناء على ثرثرة أسمعها ولا أملك دليلا عليها…ولم تربط ترقيتي بشهادتي ضدّه..إن لم أستحقها بجدارة فلا أريدها بهذه الطّريقة؟
– بل تملكين ما يدينه أو تقدرين أن تفعلي أو تدلّينا…لكنّك من أولئك الذين يحفظون العشرة والودّ…لو كان مكانك لتصرّف بعكسك هو وغيره…راجعي نفسك وأخبريني لاحقا…فثمّة كثّر يتمنّون هذا العرض.
خرجت بلقيس من المكتب الذي انطفأ وهجه للأبد ،التقت بأستاذ عبّود زميلها الذي فهم من تعابير وجهها أنّها تلقّت العرض ذاته الذي حصل عليه…فأخبرها أن تستعدّ معه لأيّام عصبيّة بسبب موقفهما المتشابه.
وكانت أيّاما عصيبة سادت  مركز عملهما…رقابة وتفتيش… تقارير..فتنة..فوضى..مؤامرات وضغط كبير انتهى بإسعاف الأستاذ عبّود إثر نوبة قلبيّة أجرى بعدها عملية فوريّة أبعدته عن أجواء النّفاق  والفساد لفترة طويلة …
ليجتمع  حوله زملاؤه الذين أحبّوا إخلاصه وتفانيه ..وهم ذاتهم  الذين صعقوا  بقرار عقوبته مع زميلته بلقيس بعد إقالة المدير سالم..
نعم عوقبا بدون أن يتمّ التّحقيق معهما  بتهمة ملفّقة لإزاحتهما من طريق أحلام كثيرين في سرقة أموال الدّولة …عوقبا ليخاف البقيّة  فيكونوا أكثر تعاونا..لكنّ…ذلك لم يحدث…
فبعد الاستفاقة من الصّدمة بدأت بلقيس بمحاربة الفساد بكلّ طاقتها ومعارفها…خاطبت الوزارة … مجلس الشّعب..الصّحافة والإعلام..
فاجأت الكثيرين الذين عرفوها شابّة لطيفة لا تشاكل ولا تضايق أحدا ،متفرّغة لعملها وتطوير معارفها…
كان خوضها لتلك الحرب مذهلا للجميع…
وبدأت لعبة الكراسي….كلّ واحد يسعى ليؤمّن لنفسه  كرسيّا..البعض كانوا رماديّين…وكثيرون رفضوا إلاّ أن يكونوا مع الأبيض لون الإشراق،بينما لم يخف آخرون سواد قلوبهم وأخلاقهم.
وهكذا تمّ تنسيق المهندسة الشّابة وزميلها على الرّغم من إدراك الإدارة العامّة لأهمّيتهما في العمل  وإخلاصهما….
وتصاعدت الأحداث ليفتح ملفّ جديد للتّحقيق بعد شكاوى عدّة قُدّمتْ ….و مقالات صحفيّة كُتبت و.و..
وأعلن القرار و أثبت كذبَ التّهم و براءتها ونظافة سجلّها الذي أذهل المحقّقين بعدم وجود خطإ  واحد في ملفّاتها منذ حوالي عشرين سنة..
وعوقب بعض من لفّق تلك التّهم،لكنْ كان لا بدَّ من كبش فداء …فرفضت شكوى زميلها عبّود ليعاقب بتهمة حدثت أثناء استشفائه في منزله وضمن إجازة مرضيّة.
وطلب منها الجميع أن تكتفي بردّ حقّها وأن تتخلّى عن دفاعها عن زميلها لأنّ أوراقه كما أخبروها محترقة…وإلاّ سيبدؤون معها حربهم الباردة …سيهمّشونها ويؤذونها من حيث لا تدري…
ووصلتها رسالة متأخّرة من زميل قديم حظي بكرسي جديد يدعوها فيها للعودة والعمل معا…
آلمتها هذه الرّسالة الرّماديّة كثيرا،لأنّها لم تصل في وقتها…فلقد فقدت الكثير من ألقها.
آلمها أنّ ذلك الصديق ورد توقيعه في نهاية التّقرير الذي لُفّق ضدّها..
وبعد كلّ هذا الوقت والأذى هل ستكون قادرة على تغليف الأحزان والجراح بأوراق ملوّنة..هل ستكون قادرة على المسامحة..؟
هل ستتمكّن من العمل بكلّ ذلك الشّغف والإيمان كما كانت تفعل..؟!!
لا …لن تسير بمشيئة أحد ولن تخالف مبادئها حتّى لو ظلّت الحرب دائرة..
(لا …هذه المرّة ستسير السّفينة بمشيئة الملاّح لا بغدر الرّياح)
قالتها بقوّة فاجأتها هي نفسها ؛حملت حقيبتها وقفلت عائدة إلى ذاتها.
كانت ليلة بحريّة ساحرة ..والشّاطئ الرّماديّ المعتّم بدا مشرقا بالنّور والأمل والاخضرار .
كانت تعرف تماما ماذا ستفعل..
كانت قادرة جدّا على فعل ما تريده هي دون أن يمليَه عليها أحد.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*