موتٌ رحيمٌ : قصّة قصيرة لنور نديم عمران – اللاّذقيّة – سورية

نور نديم عمران

تنفّس الصّبح واختنق المواطن ،أشرقت الشّمس وخيّم الظّلام في نفسه
أسرع ليرتدي ملابسه ويهرب ،لكنّ الجوخانق وزوجته لم يخرجا له ملابس الرّبيع…(الحمد لله ها قد وجدت قميصا”خفيفا” …أوه لا..إنّه غيرمرتّب وبحاجة  إلى مكواة تهذّب طيّاته…  أوه…لا…لا….الكهرباء مقطوعة)لعن حظّه العاثر وارتدى ملابسه الشّتويّة الثّقيلة  انطلق بحذر
“إلى أين في هذه السّاعة المبكّرة يا رجل؟!”.قالت الزّوجة باستغراب. ..
تلعثم ثمّ وجد عذرا.فقال :”لدينا تفتيش وزاريّ وعليّ أن أرتّب بعض الملفّات“.
تريّث قليلا”لنحتسِ القهوة معا“…
– “لا أستطيع ،أنا على عجلة من أمري”.
ومضى بقهر وهو يعلم أنّ علبة البنّ فارغة منذ  الأمس .فلقد شرب بقاياها القليلة عندما سهر طوال اللّيلة يفكّر في وضعه السّيّئ
مضى قبل أن تخبره زوجته بأن لا طعام إفطار للأولاد  ،قبل أن تسأله كيف سيؤمّن مالا لآخر الشّهر…قبل أن يستيقظ الصّغار ويطلبون مصروفا  للمدرسة أو تعلمه ابنته طالبة الجامعة أنّ عليها شراء كتاب ما..
اعتصر اليأس قلبه وهو يتخيّلها بالثّوب نفسه طوال عامها الدّراسيّ دون أن تتذمّر أو تخجل من رفيقاتها اللّواتي يتسابقن في عرض أزيائهنّ
تذكّر جاره أبا أحمد فغيّر طريقه لئلاّ يلتقي به فهو خجل منه ومن تأخّره في دفع الدّيون. .
وصل إلى موقف الباص …وضع يده في جيبه المهترئ ليتلمّ.س ورقة المئتي ليرة .”سأذهب سيراعلى الأقدام وأوفّر خمسين ليرة. فما زال الوقت مبكّرا”…قرّر ذلك وشقّ طريقه القاسيَ بأسى..
وصل قبل الجميع والعرق ينزّ من كلّ مسامّ جلده …لم يقو على إلقاء تحيّة على الحارس فرفع يده بتثاقل قبل أن يلقي بجسده على المقعد الجلديّ..
” الخير أستاذ…مارأيك بفنجان قهوة؟”.

نظر إلى المستخدم الذي ألقى قنبلته في وجهه وتلمّس ورقته النّقديّة اليتيمة،ثمّ أجاب:”شكرا…لا أريد…..لا أشعر برغبة في تناول شيء
وبدأت رائحة القهوة تعبق في الغرفة كلّما دخلها موظّف ، ثمّ بدأت رحلة الشّطائر اللّذيذة وغيرها وهو بعيد عن هذه الأمور يحاول الانشغال مع المراجعين، حتّى دخل زميلهم من غرفة مجاورة وخاطبهم:”لقد خطب زميلنا أبو حسّان لابنه وقد ذهب الآن ليشتري لنا  حلويات للضّيافة. لذا من اللّباقة أن نجمع مبلغا  ما نقدّمه له هديّة لابنه” .
وبدأ كلّ موظّف يخرج محفظته ويدفع ما تيسّر: ألفا فأكثر. …وانكمش صديقنا على نفسه ،وبدأ يتقزّم ويختفي ضمن طاولته ولم يتدخّل كأنّ الحديث لا يعنيه، بل تجاهل التّعليقات التي طالته لأنّه لا يشارك بأيّ مناسبة وكأنّ المعنيّ شخص آخر .
وصل أبو حسّان ومعه صواني الكنافة السّاخنة التي ينفطر  لرؤياها القلب ، وبدأ بتقطيعها وتوزيعها .فرفض الموظّف المسكين  تناول شيء متذرّعا بألف حجّة …ولم يتجرّأ على النّظر إلى الطّبق لأنّذه خشي أن يضعف ويقبل بتناوله ،فدخل إلى قسم الأرشيف ريثما ينتهي رفاقه من هذه الوليمة المؤلمة..
“ياربّ فرجك وصبرك…..يا ربّ لا تحمّلني ما لا طاقة لي به..
ساعدني لأستر أبنائي وأطعمهم. ..ساعدني يا ربّ أكاد أختنق …..
ودارت الدّنيا به حزنا وجوعا..ضيقا  ويأسا….وهوى دفعة واحدة فوق الملفّات المتكدّسة.
تحلّق الموظّفون حوله وبدؤوا محاولة إيقاظه لكنّهم لم يفلحوا فحملوه وأسعفوه إلى أقرب مستشفى. ..
فتح عينيه ،شعر بوخز في أطرافه وثقل يمنعه من الحركة أراد أن ينادي زوجته بعد أن شعر بوجودها ،لكنّ اللّسان خانه : “هل أنا في كابوس؟”. خاطب نفسه….نظر إلى زاوية الغرفة فسمع  ابنته تتحدّث على الهاتف بصوت منخفض :لقد أسعفوه إلى مستشفى خاص و ليس لديه تأمين صحّيّ. لذا لا تتأخر يا عمّي أحضر المال أرجوك وضعه حرج.
“مشفى خاصّ “: صرخ المريض في أعماقه..”..يا ويلتاه ….أولاد ال…….لماذا لم يسعفوني إلى مشفى حكومي…ياربّ…لم تستجب لدعائي بالرّزق فاستجب لي  أرجوك و أرحني من هذه الحياة قبل أن تبيع زوجتي بيتنا لتعالجني “.
وصل العمّ ومعه مال ااستدانه من هنا وهناك ،لكنّه لم يضطرّ  إلى دفعه كلّه .فلقد كانت ليلة واحدة ومع إشراقة الصّبح تنفّس المواطن نفَسَه الأخير ورحل.

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*