أرشيف تعاليق محمّد صالح بن عمرالنّقديّة على الشّعر:1 : قصائد رياض الشّرايطي : 1- 1 : لي كلُّ الذي لي

رياض الشّرايطي

 

لي مهبٌّ في جوفِ الزّرقةِ
مبلّلٌ بالـــحريــــــــــــــــــــقِ
يشربُ من نجمةٍ
تسترسلُ في احتدامِ أحمرِ الشّهيدِ
لي ،،كــــلُّ الذى لــــــــي
لي في جمراتِ سلالةٍ صرخاتُ شهوةِ الانعتاقِ
غبطةٌ لفّتْها خطــــوطُ الأناشيدِ
مسافاتٌ دثّرتْها أغصــــــانُ لوني
الضوءُ يداهمُ أحشاءَ انتماءِ الدّمِ
لبابٍ يُفتحُ لآفاقِ الوطنِ
لي شهيدٌ مازالَ حيًّا في عظامي
باقيًا في البلادِ، طائعًا للبلادِ
يبدّدُ صرامةَ الخشيةِ عن البلادِ
بلادٍ سافرتْ عميقًا في النّواحِ
و من النّواحِ رشّتْ على المقافلِ مفاتيحَها
فتكلّمَ الصّخرُ و الجــــــــمرُ
و بانتْ تتساندُ جهاتِ التّرابِ
في محفلِ اعتقال الخوفِ
و في ممالكَ صادفتُ في عقرِ نبضِها صوتي
فيـــــــــــــــا وطني
ها أنا متلبّسٌ بذرّاتِ صرختِكَ
الغارقةِ في نبراتِ وقعِ شهدائِكَ
أعلّمُ الأطفالَ مرافئَ الحلمِ الممكنِ الآنَ
و هديرَ ابتهاجِ رعدِ صباحٍ غيرِ متآكلٍ
بأصواتِ جثثٍ منشورةٍ على حبلِ اليقظةِ
هـــــــــا أنــــا
لسبْيِ أرضٍ تلاحقُ ذرّاتِ رملِها
بجحافلِ فرحٍ يولدُ من مناسكِ فقرٍ
يحتفي أنّه قال عاليًا ، أنا الفقرُ فانتبهوا
هـــــــــا أنــــا
ماءٌ حينَ حوصرَ انفجرَ
و ماءٌ حينَ عرفَ مصبَّهُ انفرجَ
هـــــــــا أنــــا
عرفتُ أخيرًا كيف أحبُّ دونَ فزعٍ
و كيف التى سكنتْ بؤبؤَ الحزنِ
يمكنُها الآنَ أن تحبَّني أكثرَ
و أكثرُ السّنابلِ في البلدِ
تصبحُ هارقةً نفسي المتلبّسةَ بلهيبٍ
منذ أمدٍ يقطنُ مساقطَ صمتي
الممسوسَ بهمِّ البلادِ ، و عشقِ البلادِ
هـــــــــا أنــــا
الطّفلُ الذى سمّوه البدايةَ
طفلُ الشّوارعِ و الفرحِ
أشجُّ غلافَ الصّقيعِ
و أغنّي كما الطّير فوقَ القممِ
و تحتَ صوتي مدينةٌ من زغاريدَ تعانقُ دمي ….

 

رياض الشّرايطي من عائلة تونسيّة وطنيّة مناضلة بقي طيلة حياته وفيّا لمبادئها .وهو من الشّعراء التّونسيّين النّادرين الذين كتبوا عن الثّورة التّونسية قبل وقوعها.وكان قد عانى التّهميش والطّرد من العمل. في شعره يسود إحساس قويّ بالظّلم مع التزام غير مشروط تجاه قضايا الطّبقات الشّعبيّة .ولكنّ قيمة نصوصه لا تتأتّى من جانبها الأغراضيّ وحده وإنّما أيضا بل خاصّة من مستواها الأسلوبيّ حيث يتوفّق إلى الارتقاء بقصائده إلى درجة عالية من الألق الجماليّ.
هذه القصيدة المُشْربَة على نحو عميق فلسفةَ القوّة لفريديريك نيتشة ( 1844 – 1900 ) تنبع من النوّاة الدّلاليّة نفسها التي نبعت منها قصيدة أبي القاسم الشّابيّ ( 1909 – 1934 ) الشّهيرة ” نشيد الجبّار أو هكذا غنّى برومثيوس ” .ولكنّ الشّاعر هنا ذهب بها في اتّجاه مختلف ، موافق للسّياق التّاريخيّ الحاليّ والوضع الرّاهن بالبلاد . وذلك باستلهام معاني الشّجاعة والتّضحية والإصرار من رمز الشّهيد . وقد مثّل لها بسيل من الصّور المكثّفة استوحاها من الرّيح (مهبّ ) وخاصّة من النّار (الـــحريــــــــــــــــــــق – جمرات – لهيب – الجــــــــمر )، مقيما بين هذه و دم الشّهيد علاقة سببيّة، فضلا عن علاقة المشابهة في اللّون والأثر . ولمّا كان الشّعور الذي يحدو الشّاعرَ ، كما قلنا، إحساس بالقوّة فإنّ الانتصار في نظره لا مناص منه . وهو ما وسم خطابه بنبرة تفاؤليّة عالية تلوح بوجه خاص في الخمسة أبيات الأخيرة التي تذكّرنا ببيت الشّابي الشّهير:

سأعيش رغم الدّاء والأعداء .. كالنّسر فوق القمّة الشمّاء

وعلى الرّغم من كون الغرض الذي طرقه الشّاعر غرضا نضالياّ فانّه لم ينزل في قصيدته إلى مستوى الخطاب المباشر ، نقيض الفنّ الشّعريّ بل أتاحت له قدراته التّخيّليّة إمكان النّجاح في تحقيق المعادلة الصّعبة المنشودة في هذا الغرض بين الإبلاغ والإبداع .وذلك بتنكّبه عن الدلّالات المرجعيّة و تكثيفه الدّلالات الإيحائيّة والصّور المجازيّة المباغتة .
وللتّاريخ أقول إنّ صاحب هذه القصيدة يكتب في هذا اللّون بالذاّت وينشر قصائده فيه على الشّابكة منذ سنوات ولم يمتط صهوة “الثّورة” بعد 14 جانفي 2011 مثلما فعل ولا يزال الكثيرون . وهذا يحسب له أيضا ومن حقّه أن يُعترف له به .

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*