الشّاعر عبد الله مالك القاسمي مازال بيننا بأثره الشّعريّ وبابتسامته الصّباحيّة في المساء : الهادي جاء بالله – تونس

الهادي جاء بالله

عبد الله مالك القاسمي

 

لم يسبق لي في الحقيقة أن قدّمت شهادة مكتوبة حول شخص عاديّ أو متّصف بصفة ما. وفي ظلّ واقع الحال سأتحدّث وفق ما ستسعفني به ذاكرتي الخاصّة عن المتوليات التي ترسّخت لديّ في معرفتي بالفقيد  الشّاعر عبد الله مالك القاسمي الذي مازال أخر لقاء لي به قبل رحيله بأيّام قليلة  حيّا  في الذّاكرة .

ذات يوم اعترضني في مستوى نهج المختار عطيّة بالعاصمة وهو متدثّر بابتسامته المعهودة وطرافته المنسوجة الحيّة دون تكلّف .

وأعود  على جانح الذّاكرة أيضا إلى اللقاء الأوّل  الذي جمعني به وكان ذلك في شهرأفريل لسنة 1994 بملتقى الأدباء العصاميّين بسوسة وكنت واحدا من الشّبّان المشاركين فيه ،وكان شاعرنا أحد ضيوف الملتقى .وعند ما أخذ المصدح وانطلق في قراءة إحدى قصائده لاحظت شيئا جديدا لم أعهده من قبل وأحسست كأنّ هذا الباثّ لأشعاره يفعل ذلك وهو في عمق المحيط …ثمّة نبرة خاصّة ومناخ  متميّز يسافر بألفاظه ومفرداته السّحريّة المعطّرة بروائح التّراجيديا والتّردّد النّفسيّ النّاشب في أركان إناء الوجود …قصائد الشّاعر عبد الله مالك القاسمي وحال مغادرتها كيانه عبر صوته تنطلق نحو  المتلقّي بمعانيها الأصليّة، إلاّ أنّها تتدثّر بأشياء غامضة تدفع  إلى الإقبال على معانيها في خشوع وهدوء وتساؤل لا يقدر أحد على صدّها، ولعلّ هذه الصّفة التي كان يتميّز بها الشّاعر عبد الله مالك القاسمي هي صدقه في تعامله مع القصيدة التي يكتبها في أعماق روحه ويعود من خلالها إلى البحث في ثنايا ذاته الخاصّة عن أسئلة الوجود في مختلف دراجاته وتلويناته .

أمّا الجانب الذي يخصّنا في هذه الورقة وهو علاقة الشّاعر عبد الله مالك القاسمي بالآخر، فإنّ هذا الآخر  يلتقي به  الشّاعر بكثير من الحبّ والتّقدير رغم بعض الإكراهات التي قد تسبّبها له  قلّة من الأشخاص عن قصد أو عن سوء نيّة .

على أنّ طبعه  حسب ما أعرفه عنه أبعد ما يكون عن الغلظة و ردّ الفعل المستفزّ بل هو على العكس ميّال إلى الهدوء ويجد راحته في مساعدة الآخرين ومؤاخاتهم على اختلاف توجّهاتهم وإيديولوجيّاتهم.

أعلم أنّ الشّاعر عبد الله مالك القاسمي ساعد الكثيرين من الشّعراء والشّاعرات بالنّصح وتوفير ما يمكن من الفرص لكي يقدّموا إنتاجهم في المنابر أو في الصفحة الأدبيّة لجريدة “الأخبار” التي كان يشرف عليها .

ولقد كان له  من رحابة الصّدر والاستعداد لقبول الآخر والوقوف إلى جانبه الشّيء الكثير ، كما كان لا يتردّد في الإعلان بصراحة عن إعجابه بأيّ منتوج إبداعيّ ،بعيدا عن  الّسلوك المتعالي الذي عرف به بعض الأدباء  المعروفين تجاه أيّ إنتاج ينشئه أديب مبتدئ .ومثل هذا التّوجه  الذي هو بمنزلة قناعة راسخة  لديه كان يسم طبيعة معاملاته مع الأدباء الشّبان .

أتذكّر أيضا أنّه زمن انتمائه إلى الهيئة المديرة لاتّحاد الكتّاب التّونسيّين كان حريصا على تشجيع كلّ صاحب موهبة أو إصدار … فكان يشرف على نادي الشّعر ويحتفي بالضّيف و يعلن عن اللّقاء والإصدار وصاحبه  في الملصقات الورقيّة والصّحف .ومثل هذا المجهود كان ينمّ عن جدّيّة  الشّاعر واحترامه لأيّ صاحب إصدار شعريّ مهما كان .وفي هذا الصّدد أذكر أنّه كان وراء تقديم مجموعتي الشّعريّة البكر التي جاءت بعنوان “خطاهُم هنا وهناك  والتي  صدرت عن دار صامد سنة 2001 وقدم لها الشّاعر المنصف الوهايبي .

وكان الشّاعر عبد الله مالك القاسمي وراء  انتشالي من حالة اللاّمبالاة بتلك المجموعة بعد صدورها  بتأثير من أوضاع فرضتها تلك المرحلة … فكان أن استضافني بالنّادي وأعجب شديد الإعجاب بكتابي ، مصرّحا أمام الجمهور الذي حضر اللّقاء  بأنّ  ب ما يتضمّنه الدّيوان من قصائد يرتقي إلى مستوى عالميّ لذلك فهو جدير بالقراءة وإعادة  القراءة والتّعريف به . ومثل هذا الأسلوب  في التّعامل مع الشّعراء الشّبّان  كان نابعا من احترامه للجيل الصّاعد وإيمانه بمستقبله  .

وفي  السّياق نفسه وهو علاقة عبد الله مالك القاسمي بالآخر يعتبر من الشّعراء الذين كانوا يملكون في حياتهم الخاصّة والعامّة سجلاّ  ثريّا حافلا بالأصحاب  القّارّين منهم والعابرين … فباعتباره شاعرا كان يعيش متواليات يومه في العاصمة ويلتقي بالكثير من النّاس العاديّين والشّعراء والمثقّفين . وقد تولّدت عن ذلك  حكايات  كثيرة طريفة  ظلّ يردّدها معارفه في مجالسهم حتّى اليوم … فقد  قضّى حياته شاعرا جوّالا في المكان والخيال في آن واحد  … فكان يتحرّك في كلّ الاتجاهات الممكنة التي يفرضها إيقاع الحياة وصخبها .

ولم يكن عبد الله مالك القاسمي من المتوارين خلف نظام خاصّ بهم ومحدّد داخل مربّعات معلومة ضيّقة  تتحكّم في صداقاتهم ومعاملاتهم وتنقّلاتهم وعائلاتهم .بل كان إنسانا منفتحا على محيطه بكل ما لهذه الكلمة من معنى .

هكذا كان  المرحوم عبد الله مالك القاسمي شاعرا تونسيّا بامتياز ، منفتحا على الحاضر والذّاكرة معا وقريبا من نبض  الواقع.وقد كانت مجموعاته الشّعريّة وأسفاره ومشاركاته  في المهرجانات الأدبيّة تشكّل المادّة الصلبة  لحياته وهي التي نحتت تجربته إنسانا ومبدعا .فمن سار  فوق الرّصيف التّونسيّ  اليوم عرف جيّدا إيقاع خطوات عبد الله مالك القاسمي عليه مثلما تعرف شوارع العاصمة ابتسامته الصّباحية في المساء.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*