الشّبيهُ:قصّة قصيرة: محمّد مراد أباظة – كاتب سوريّ مقيم ب أبخازيا

محمّد مراد أباظة

 

وهو صغير، على وسادته ليلاً، قبل النّوم أو بين اليقظة والإغفاء، كان دائماً يرسم غابةً كثيفةً تتلوّى أنهارٌ وجداولُ بين إيقاعات خضرتها اللاّنهائيّة، ويبتكر شلاّلاتٍ يفوح منها رذاذ قُزحيّ متلألئ تصبُّ مياهها الهادرة في بحيرات زرقاء وخضراء، ومواكبَ من طيور وفراشات تتنقَّل مرفرفةً بأجنحتها في احتفال دائم بين أشجارها، وقطعاناً من غزلان منعتقة من قوانين البشر تستعرض رشاقتها وأناقتها كراقصات باليه.

في تلك الغابة، في ذلك المهرجان الأسطوريّ، كان يرسم باستمرار ولداً مرحاً يتقافز، هنا وهناك، كأرنب جذلان.. ولداً يحاول دائماً أن يبدو شبيهاً به.

على أسفلت الشّارع، وهو صغير، كان يرسم بالطّباشير أسراباً من الأولاد الفرحين يتراكضون متصايحين بسعادة أو يلعبون بالكّرة أو يتحلّقون حول باعة الحلوى والبالونات ودواليب الهواء، أو يتدحرجون على سفح تغطيه الثّلوج.

وكان دائماً يرسم بينهم ولداً يتقافز ضاحكاً.. ولداً يشبهه.

وعلى دفاتر المدرسة كان يرسم مرجاً أخضر بلا حدود يزهو بألوانه الرّبيعيّة، وولداً يتمرّغ بالعشب والنّدى كقطّ مشاغب، أو يُطَيِّرُ راكضاً طائرةً ورقيّة، أو مستلقياً على ظهره يتأمّل الطّيور المهاجرة وهي تعبر الفضاء الأزرق.

كان ذلك الولد.. يشبهه.

في كلِّ البيوت، التي كانت محطّات مؤقّتة على دروب رحلة أسرته المرتحلة دوماً من مدينة إلى أخرى، وعلى جدران حجراتها الكلسيّة كان دائماً، وهو صغير، يرسم بالطّباشير الملوَّنة قارباً شراعياً مبحراً، أو عربةً تجرّها الخيول، وهي تتهادى في سهول مفتوحة على المدى، أو بساطَ ريح مزخرف يخترق غيوماً بيضاء.

في القارب أو العربة، أو على بساط الرّيح، كان يرسم دائماً ولداً يشبهه.

وهو كبير، حاول مرّات ومرّات فعل ذلك في أمسياته المشحونة بالضّجر والأمنيات الذّابلة، حاول، فلم يستطع سوى رسم غرفة رماديّة ضيّقة، تبدو كزنزانة صغيرة، بنافذةٍ تطلّ بحياديّة على فراغ حياديّ.

في تلك الغرفة كان يرسم دائماً كهلاً يرتعش من البرد وهو يقضم تفّاحة روحه بيأس، محدّقاً بشظايا أحلامه المتناثرة حوله.

ودون أن يُفاجأ اكتشف، ويكتشف دائماً، أن ذلك الكهل المرتعش يشبهه.. يشبهه تماماً.

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*