ذكرياتي مع النّاقد التّونسيّ الكبير أبي زيّان السّعديّ (2)

أبو زيّان السّعديّ

 

لعلّ الصّورة التي رسمناها ، في الفصل السّابق، للنّاقد التّونسيّ المرحوم أبي زيّان السّعديّ هي الأولى التي   تضمّنت بعض  الإنصاف  له.وذلك  لأنّ اسمه اقترن دائما في الوسط الأدبيّ طيلة أكثر من نصف قرن  بالعنف اللّفظيّ.وهذه السّمعة ، سمعة الشّاتم بالفِطرة ،التي اكتسبها لم تكن مبالَغًا فيها ، إذ ما أندر الأدباء الذين لم ينالوا نصيبهم من أذاه، سواء أكانوا أحياء أم أمواتا.

ذات مرّة  شهدتُ جلسة من الجلسات اليوميّة التي كان يعقدها بمقهى باريس بالعاصمة وكان معه شخص لا يفارقه اسمه عليّ أو أحمد (نسيت) كلّما فتح النّاقد فاه أيّده إمّا ب”نعم” وإمّا بتحريك رأسه .فتهلّل أسارير أبي زيّان والرّوائيّ المرحوم رضوان الكوني.فسبّ أبو زيّان  في أقلّ من ساعة سبعة أو ثمانية أشخاص.فانفجر رضوان ضحكا .فانفعل أبو زيّان وسأله  بلهجة شرسة : ” ما الذي يضحكك؟ ” فقال : ” تخيّلتُ نفسي غائبا عن هذا المجلس .فلو كنت غائبا لنلت نصيبي من الثّلب” .فقال له أبو زيّان “أو تظنّني خائفا منك لأسبّك في غيابك؟ تفضَّلْ” ومضى في إسماعه ما يكره .فضحكنا  معا بصوت مرتفع ونهضنا وانصرفنا.

هذه الشّراسة الجبلّيّة في أبي زيّان السعدي كانت حقيقة لا غبار عليها.لكنْ رسم صورة لكاتب أو شاعر  يقتضي الاقتصار على أعماله ونشاطه الأدبيّ.

وهكذا فبعد أن حاولنا الوقوف على خصال أبي زيان السعدي النّقدية لننتقل إلى  النّظر في توجّهه وخلفيّاته الفكريّة والثّقافيّة .

لقد زاول أبو زيّان السعدي دراسته في الخمسينات بجامع الزّيتونة بالعاصمة .وكان التّكوين الذي تقدّمه تلك المؤسّسة لطلابها تكوينا دينيّا وأدبيّا تراثيّا.وكان فخورا بذلك التّكوين ومقتنعا به، خلافا لأبي القاسم محمّد كرو الذي درس بالمؤسّسة نفسها لكنّه كان منحازا للمنشقّين عنها وخاصة منهم  رافعي لواء التّجديد : أبا القاسم الشّابيذ في الشّعر والطّاهر الحدّاد في الفكر الاجتماعيّ.

ومن ثمّة فأبو زيّان كان محافظا من الطّراز الأوّل .فقد أعلن منذ نهاية السّتّينات رفضه لمناهج النّقد الحديث وعدّ استعمالها من لدن العرب بمنزلة زرع  عضو أجنبيّ   في جسد من الأجساد.أمّا الشّعر فلا يكون، في نظره، إلاّ موزونا.ولهذا السّبب كان يقصي قصيدة النثر من فنّ الشّعر عادّا إيّاها”نثرا فنّيّا”.وأمّا السّرد الذي كان يسميه”قَصَصا”فكان يرفض أن يستخدم فيه التّجريب ، مسمّيا هذه التّقنية في الكتابة تخريبا، كما كان ينكر حقّ الكتّاب في التناصّ مع النّصوص التّراثيّة ،مسمّيا إيّاه على سبيل السّخرية “تلاصّا” أي سطوا.

هذه القناعات جعلت من أبي زيان السّعدي  خصم “الطّليعة(1968 -1972 ) الأوّل ، تلك التي كانت تطبّق مناهج النّقد الحديث وتستخدم التّجريب في القصّة والرّواية  والمسرح وتكتب  الشّعر خارج أوزان الخليل.

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*