حمارٌ صغيرٌ: قصّة: محمّد مراد أباظة – كاتب وشاعر سوريّ مقيم بأبخازيا

محمّد مراد أباظة

صحيحٌ أنَّ ذلك الطّفل الصّغير، أو الذي كان طفلاً صغيراً ذاتَ عمر، لم يُبدِ ذكاءً فائقاً إلى درجة النّباهة في عامه المدرسيّ الأوّل، لكنْ في الوقت نفسه لم تبدُ عليه أيّ ملامح توحي ببلادة أو غباء. وصحيح أنّه لم يكن هادئاً جدّاً ووديعاً كأرنب صغير، لكنّه في المقابل لم يكن عنيداً ومشاكساً مثيراً للمشاكل. ولم تنمّ تصرّفاته، في البيت أو في المدرسة، عن ميول عدوانيّة أو نزوع إلى التمرّد والعصيان، بل ربّما كان مطيعاً ومسالماً وخجولاً في كثير من الأحيان.

لقد كان طفلاً عاديّاً كأكثر من هم في سنِّه. وكأكثر من هم في سنِّه كانت لديه قابليّة لاقتراف بعض الأخطاء الصّغيرة بين الحين والآخر، دون اقتناع منه أو اعتراف، بينه وبين نفسه على الأقلّ، بكونها تستحقّ الذّكر.

كان يحبّ البطاطا المقليّة، وأفلام الصّور المتحرِّكة، والقطط، والعصافير، واللّعب في الحارة. ويكره الاستيقاظَ باكراً، ومعلّمةَ صفّه الثرثارة سليطة اللّسان، والأيّامَ الباردة. ويهاب مشاهد الجنازات العابرة في زقاقهم، ويخشى غضبَ أبويه وأخيه الأكبر، والعتمةَ وصوتَ الرّعد.

لقد كان كأكثر من هم في سنِّه.

وكأكثر من هم في سنِّه لم يكن يستسيغ دروسَ الرّياضيات وأُحجياتها الرّقميّة المحيِّرة منذ المرّة الأولى التي رسمت فيها المعلّمة رموزها الغريبة على السبّورة. وكان يستفزّه الجلوس الطّويل المملّ على المقعد الخشبيّ دون حراك، ويكاد يدفعه إلى الصّراخ في وجه المعلّمة قائلاً: “اروي لنا حكاية مسلّية بدل هذه الشّخبرات”، لكنّه كان يتراجع عن ذلك حين يتذكّر المسطرة التي تخبط المعلّمة بها سطحَ الطّاولة بقوّة دائماً وهي تزعق: (لَكْ.. ابلعوا ألسنتكم واخرسوا)، لهذا كان يُمضي حصّة الرّياضيات متأمَّلاً، عبر شبك النّافذة المعدنيّ، أغصان الأشجار المتراقصة في الخارج، ويصغي إلى زقزقات العصافير المتقافزة بينها.

ولم يكن يستمتع إلاّ بدروس الرّسم والموسيقا والرّياضة، وكثيراً ما تساءل عن جدوى إجباره على الذّهاب يوميّاً إلى المدرسة ذاتِ الأسوار العالية.

وكأكثر من هم في سنِّه أيضاً كان يضحك من أعماقه حين يشاهد مسلسلاً أو فيلماً كوميديّاً، أو حين يشاهد موقفاً ما فيه مفارقة تستثير الضّحك، ويُردِّد الكثير من الأغنيات الشّائعة دون أن يفهم معاني مفرداتها، ويحفظ عن ظهر قلب عشرات الفقرات الإعلانيّة التلفزيونيّة المحكيّة أو المغنّاة، ويتأمّل دون كلل، وبكثير من المتعة، الغيوم البيضاء في السّماء وهي تتقمَّص أشكال كائنات حيّة أليفة، ويراقب الطّائرات وهي تعبر فضاء المدينة بهديرها كمعجزات عصيَّة على التّفسير.

وكأكثر مَن هم في سنِّه كان يضيق بالخلافات والمشاحنات والمشادّات الكلامية بين أفراد أسرته، ويتوق إلى قضاء يومه في مساحة من الأمن وحيِّز من الحرّيّة يبني فيه عالَمه بطريقته.

لقد كان طفلاً عاديّاً كأكثر مَن هم في سنِّه.

لكنَّ الطّفل الصغير ذاك، أو الذي كان طفلاً صغيراً ذاتَ عمر، وكبعض مَنْ هم في سنِّه، كان يشعر في كثير من الأحيان بأنَّ الآخرين لا يفهمونه، أو أنهم يسيئون فهمه، وأنَّ ثمة أخطاء تُرتَكَب بحقِّه دون أسباب واضحة، وكأنَّ مؤامرة يجهل مبرراتها تُحاك ضدَّه في البيت والمدرسة، وهو الأعزل إلاّ من سلاح الصمت.

ومما زاد الأمر سوءاً أنّه لم يكن يمتلك القدرة على مجابهة تلك الحرب التي كان يراها مُعلَنة عنه، فلم يكن يتقن صياغة مفرداته الخاصّة في جمل تُمكِّنه من الدفاع عن نفسه في موقف يستدعي الدفاع، ولم يكن قادراً على التعبير عن مشاعره الغامضة، أو الإفصاح عن بعض أفكاره التي تؤرّقه، أو الإدلاء بما في ذاكرته من معلومات حين تُطلَب منه في الصفّ لكي يثبت أنّه يحفظها. فكان يتلكّأ، ويتردّد، ويتلعثم، ويتأتئ، ويفأفئ عند محاولته الإجابة عن سؤال طرحته المعلّمة عليه، أو عند إقدامه على تبرير تصرُّف بدر منه، أو عند تفكيره في الاعتراض على أمر أُكرِه عليه، إذ ذاك كان الخوف من التأنيب والتعنيف يُكبِّل لسانه، ويلجم في داخله ثورة احتجاج وتمرُّد على كلِّ مَن وما حوله، فيستسلم مرغَماً للهزيمة واليأس. وفي أكثر الحالات لم يكن ينجو من تعنيفٍ ما. أمّا أشدُّ عقاب كان يتلقّاه هو نعتُه بكلمة “حمار” التي كانت أكثر إيلاماً وإساءةً إلى نفسه من أيّ عقوبة جسديّة.

فأبوه وأُمُّه وأخوه الأكبر لم يكونوا ينادونه إلاّ بـــــــ”يا.. حمار” بسبب أو بلا سبب، حتّى كاد أن ينسى اسمه الحقيقيّ، وفي المرّات القليلة التي كان يحاول فيها الاعتراض بقوله: “أنا لستُ حماراً… أنا ولد” يُسكته مخاطبُه قائلاً بسخرية: “لَكْ.. حمار وتتفذلك”.

فالأب، كما ادّعى باستمرار، لم يكن يريد للصغير أن يكرِّر قصّة أخيه الأكبر مع المدرسة التي هجرها قبل انتهاء المرحلة الابتدائيّة، وراح يتنقّل بين شتّى المهن ومازال، ولم يردْ له كذلك مستقبلاً يشبه حاضره هو نفسه، لذا كان يحثّه على التعلّم بطريقته:

“ادرسْ مثل الخلق يا حمار لئلا تتشنطط غداً مثلي ومثل أخيك.. الحمار الثاني، فقد أمضيتُ عمري عاملَ باطون حتى انهدّ حيلي، وانعطب ظهري، وتلفت مفاصلي”.

وحين كان الصغير يُضطرّ إلى الاستعانة به، فيسأله عن ناتج جمع عددين مثلاً، أو إن كان الدجاج يتكاثر بالولادة أم بالبيض، كان الأب يثور صارخاً في وجهه:

“لا فائدة..حمار، وستظل حماراً، ولو لم تكن كذلك لانتبهتَ إلى معلّمتك في المدرسة وفهمت دروسك”.

ويُرفق ذاك التوصيف بشدّة قويّة لأذن الصغير أو بصفعة من كفِّه الخشنة المشقّقة على إحدى وجنتيه.

أمّا أُمُّه فلم تكن لها علاقة بالحروف الهجائيّة، ولم تتقن إلاّ متابعة المسلسلات التلفزيونيّة وأغنيات الفيديو كليب والشكوى الدائمة، وتسقُّط أخبار الزواج والطلاق وقصص المشاجرات اليوميّة في الحارة بحِرَفيّة صحفيّ خبير بتغطية الأحداث، إلاّ أنَّ همَّها الأكبر، والذي ينسيها سائر همومها، كان هو زوجها الذي يشتغل يوماً ويقبع في البيت دون عمل شهراً بسبب آلام ظهره ومفاصله المزمنة وعدم إيجاده عملاً يلائم وضعه الصحّيّ. ولَمّا كان يضطرّ، في أكثر الأوقات إلى تمضية جُلّ ساعات نهاره خارجَ البيت هرباً من نقِّها ونقيقها المتواصلين، كانت لا تجد تحت أنفها أحداً تصبّ سيلَ غضبها عليه سوى ذلك الطفل الصغير، أو الذي كان طفلاً صغيراً ذاتَ عمر، فتنفرد به، وتتفرَّغ لمناكدته لأتفه الأسباب، وتختم كلَّ جملة غاضبة تبصقها في وجهه بــــ”يا حمار”.

ولم ينحصر أمر ذلك المسلسل الشتائميّ بأبيه وأُمِّه، بل شارك أخوه الأكبر فيه أيضاً بدور لا يستهان به. فحين كان يعود من عمله مساءً، متعباً أو غير متعب، يصبُّ أوامره ونواهيه على رأس الصغير، وتتوالى طلباته:

“رُحْ واغسلْ لي جواربي يا حمار”.

“يا حمار.. اذهب واشترِ لي علبة تبغ”.

وإذا صادف أن تباطأ الصغير أثناء مروره أمام جهاز التلفزيون، فحجب الرؤية عن أخيه أم لم يحجبها، نهض هذا، وناوله رفسة على مؤخّرته، أو لطمه على قفاه:

“يا حمار.. كم مرة قلتُ لك لا تتمشَّ أمام خلقتي حين أشاهد التلفزيون؟”.

وكان يُخيَّل إلى الصغير أنّ ثمّة ما يشبه التواطؤ غير المعلن بين الأبوين يمنعهما من التدخُّل والحدّ من تسلُّط أخيه عليه، فكان هذا يدفع أخيه إلى التمادي في اضطهاده.

وحين كان الصغير يخرج للّعب مع رفاقه في الحارة، فيحتاج إليه أحد أفراد أسرته في أمر ما، يفتح هذا باب الدار، ويصرخ بأعلى صوته منادياً إياه، ويطلب إليه الدخول، منهياً صرخته تلك بــــ”يا حمار”. ومع تكرُّر صرخات النداء تلك انتقلت عدوى مناداته بتلك التسمية إلى أكثر أولاد الحارة: “جاء الحمار”.. “ذهب الحمار”.. “تعال العبْ معنا يا حمار”.

وأصبح الصغير في نهاية الأمر محور تعليقاتهم الساخرة وتسلياتهم اليوميّة.

هكذا أمضى ذاك الطفل الصغير، أو الذي كان طفلاً صغيراً ذاتَ عمر، يومَه، وليس كأكثر مَنْ هم في سنِّه.

حاول مراراً أن يُدير ظهره لكلِّ تلك الاضطهادات المزعجة، لكنّه لم يستطع، فكلمة “حمار” كانت تطارده ليلاً ونهاراً، في صحوه ومنامه، في البيت وخارجه، وهو يبتلع ألمه وحزنه وغضبه، ويصبر صبر حمار كتوم.

وفي إحدى السهرات، وبعد أن تلقّى سيلاً من الشتائم المعتادة، أحسَّ بشيء ما في داخله، يتمدَّد، يتكوَّر، يتضخّم، يصطخب، يغلي، ويسفح على وجهه موجات حارة تكاد تشويه، فانسحب مسرعاً من الغرفة وهو يحاول تأجيل انفجار ذلك الشيء. وقادته خطاه إلى المطبخ، وهناك انفجر دفعةً واحدة باكياً بحرقة، في حين تابع الآخرون سهرتهم وهم يشاهدون التلفزيون وكلٌّ غارق في عالَمه دون أن يهتمّ أحد بانسحابه.

وفجأةً سمعوا ضجةً منبعثة من المطبخ، تختلط فيها قرقعة أوعية معدنية بأصوات تحطُّم أوانٍ زجاجيّة، ترافقها خبطات قوية تهزّ الأرض والجدران. فأسرع الثلاثة نحو المطبخ والأب يصرخ:

“ماذا يفعل ذلك الحمار ابن الحمار..؟”.وعند باب المطبخ توقّف الثلاثة مسمَّرين، ومزيجٌ من الرعب والذهول يجتاحهم ويشلُّ ألسنتهم ويُجمِّد الدم في عروقهم، ويجعل أفواههم وعيونهم مفتوحة إلى آخرها. كان كلُّ شيء في المطبخ محطَّماً ومبعثراً، لكنَّ ما جمَّدهم في مكانهم لم يكن الفوضى والخراب، بل هو رؤيتهم حماراً في المطبخ، حماراً صغيراً رماديَّ اللون بأذنين طويلتين وذيل، وعلى ظهره بقايا ممزَّقة من ملابس ذلك الذي كان طفلاً صغيراً ذاتَ عمر. وكان الحمار الصغير يقف ناظراً نحوهم ودموع حقيقيّة تنهمر من عينيه الواسعتين.

ظلَّ الثلاثة مسمَّرين عند الباب كتماثيل حجرية، في حين استمرّ الحمار الصغير منقِّلاً نظراته الدامعة بينهم، ثم أطلق نهيقاً إنسانيّاً طويلاً شبه باكٍ، وتحرَّك نحوهم ببطء. ودون وعي منهم أفسحوا له الطريق، فخرج من المطبخ وهم يتابعونه بأعين زجاجيّة ذاهلة.

توقّف الحمار الصغير عند باب الدار الخشبيّ، استدار نحوهم، نظر طويلاً إليهم، وأتى بحركة نفض بها بقايا الملابس الممزَّقة عنه، ثمّ برفسةٍ قويّة من قائمتيه الخلفيتين خلع الباب، خرج إلى الحارة، واختفى في الظلام ونهيقُه الإنسانيُّ الطويلُ.. الطويل يبتعد شيئاً فشيئاً… حتّى تلاشى نهائياً.

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*