تحوّلات : خاطرة :أميمة إبراهيم – دمشق – سورية

أميمة إبراهيم

 

طفلةٌ في العاشرة أنا… تبعثرُ جدائلَها… تضحكُ ملءَ البهجةِ، تقفزُ في عوالمَ رحيبةٍ للسّعادةِ… تمدُّ اليدَ لتقطفَ قمراً أو تداعبَ نجماً. ها أنا معَك الآن تلك الطّفلةُ.

لا همَّ، لا قلقَ يعكّرُ صفو أحلامِها، فخذْ بيدي كي نتسلّقَ معاً ذاك الجدارَ الذّي يوصلُنا إلى القمرِ، وسأزيّنُ شعرَكَ بالنّجماتِ المضيئاتِ… أمسكْني جيّداً، ولا تتركْ يدي… أخافُ أن أسقطَ.

أشعرُ بدوارٍ خفيف وبثقلٍ في جسمي… أضعُ يدي على رأسي فلا أجدُ جدائلي الكستنائيّةَ!…

ألوذُ بالمرآةِ أسألُها: “أين اختفتْ جدائلي؟”. فيطالعُني بريقُ شيبٍ غزا الشَّعرَ كلَّه!… يا إلهي ها أنا امرأةٌ في السّتين تدقُّ باب اللّهفةِ بانتظارِ ابنٍ طالَ غيابُهُ، تزرعُ الدّروبَ انتظارَ عودةٍ، وتُنضِجُ طعامَ الحنانِ في آنيةٍ من خزفِ الرّوحِ… فلا تتأخّرْ بنيَّ… العمرُ يمضي وأنت بعيدٌ… أخافُ ألّا أراكَ.

يا أغلى من الرّوحِ، و يا أعزُّ من ضوءِ العين… حناناً أحتويكَ فارتديني ملاذاً… وتعالَ آخذْكَ في أحضاني الدّافئةِ، أهدهدُك بأغنياتٍ من زمان مضى، تجوسُ أصابعي في شعرِكَ… فيُثقِلُ النُّعاسُ أجفانَك، وتنامُ على فيضٍ من حلمٍ وياسمين، مستسلماً لحنانٍ أعرفُ أنّك تتوقُ إليه.

ها أنا أشعرُ بالخفّةِ، فقد نبتَ لي جناحان لا يراهما أحدٌ سواي، وها أنا أحلّقُ في سماواتٍ و فضاءاتٍ ملوّنةٍ، فلم تعدِ الأرضُ على اتّساعها تتّسعُ لأحلامي. فأنا معك الآن صبيّةُ في العشرين. لا ترى إلّاكَ و لا يخفقُ القلبُ إلّا لنجواكَ، و لا يتّسعُ الكونُ على رحابتهِ إلّا لكَ.

اقتربْ قليلاً فقد قطفْتُ لكَ من حدائقِ البوحِ وروداً جميلةً… تلك وردةٌ حمراءُ تلتهبُ حبّاً و تتوقّدُ اشتعالاً واشتهاءً… و تلك وردةٌ صفراءُ تضجُّ غَيْرةً، و ها هي البيضاءُ تعبُقُ أحلاماً و آمالاً و أمنياتٍ مخبوءاتٍ، و تلك بنفسجةٌ تريدُ أن تهبَكَ عطرَها… يليقُ بكَ عطرُ البنفسجِ وشذى الحقولِ وعبيرُ الفلّ.

أستيقظُ على لحنِ نايٍ يدغدغُ روحي… فأجدُني امرأةً في الأربعين تلجُ دنيا العطاءِ برائحةِ نارنجٍ، و هديلِ يماماتٍ… تكشفُ عن مخزونِ الحنانِ في آبار العاطفةِ… تنهلُ من منابعِ البوحِ ألحانَ شجنٍ، و تقطفُ من كرومِ الأماني عناقيدَ نضجَتْ… معاً نُعتّقُها، و معاً نشربُ نبيذَ عاطفةٍ نبيلةٍ لم يتذوّقْه أحدٌ سوانا، و لن يعرفَه غيرُنا. و سأقطفُ لكَ من حدائقِ الغيمِ وردةً نادرةً… فقد عجزَتْ ورودُ العالمِ الأرضيّ عن البوحِ بما يعتملُ في فؤادي. لذا اخترْتُ وردةً زرقاءَ!… خذْها… ففيها من التَّميّزِ و الغرابةِ و الإدهاشِ ما فيها. هي وردتي إليكَ… ازرعْها في غاباتِ روحِكَ و اسقِها من ينابيعِ حنانِكَ… لتتكاثرَ سماءً من ورودِ دهشةٍ، أو بيدراً من أقواس قُزحٍ.

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*