في وليمةِ الحياةِ : شعر: مونيك ماري إهري – مونبوليي – فرنسا

مونيك ماري إهري

 

1

 

لم أكدْ أذقْ شيئًا من وليمةِ الحياةِ

لم أضعِ البتّةَ حدًّا لهذه الرّغبةِ  في أن أستيقظَ كلَّ صباحٍ

منذ أن يرفعَ الفجرُ الرّيّانُ أمَلاً عقيرتَهُ بالغناءِ

محمولةً على أجنحةِ الكلماتِ،

ماحيةً من ذاكرتي ألمي،

تسيرُ بي قوافيَّ في حذاءٍ من السّاتانِ.

سيكونُ لي دائمًا ما يكفي من الوقتِ لأطويَ جناحي

حين ينبلجُ  الفجرُ وتلفظُ شمعتي الأخيرةُ أنفاسَها

مطفئةً ذلك الأملَ الذي كان يحدو روحي

حاملةً إيّاي إلى قدري

كعجوزٍ أنهكَ الخريفُ قواها  بغتةً

2

أنا راحلةٌ إلى تخومِ الموتِ

وقد هيّأتُ أمتعتي واستسلمتُ لمصيري

الذي حدّدَهُ لي إبليسُ نفسُهُ.

لقد طالتْ حياتي أكثرَ ممّا ينبغي

و أضحتْ ذكرياتي أكثرَ ممّا يُحتملُ

وهذه الأثقالُ التي أجرُّها على وقعِ يأسِ السّنينَ

فارضةً عليَّ أن أعيشَ  حياةً كئيبةً.

سيكونُ الرحلةُ خاطفةً وستكونُ وجهتي مصيري المحتومَ

لم يعدْ ثمّةَ غدٌ

ها أنا أسيرُ نحوَ المبهمِ

مبحرةً على متنِ موجةِ الأسرارِ والألغازِ في خضمِّ ضبابِ المساءِ

حيثُ تقضي الشّمسُ نحبَها

وحيثُ الأيامُ ليالٍ

وحيث يسودُ القبحُ في عرينِ الغروبِ.

لا حاجةَ هناكَ إلى أمتعةٍ في تخومِ  الموتِ

فحين أصلُ إلى غايتي بتلكَ الضفّةِ الغارقةِ  في الأحزانِ  

سيمدُّ إلىَّ إبليسُ وردةً

تضرّجُ  أشواكُها النّاتئةُ روحي البتولَ  بالدّماءِ

وتسلّمُني إلى نصلِ منجلٍ محدّدٍ فاغر الفمِ  

3

وداعًا يا كتبي ويا قلمي وكرّاساتي

عليَّ أن أتركَ جانبًا كلَّ ملاذِّي الأولى

التي أدخلت البهجةَ على حياتي

لن أرى الفجرَ ولن أتنفّسَ رائحتَهُ الذّكيّةَ  

ولا رائحةَ ندى  الغاباتِ السّاحرةَ

تلك التي تغذّي  تعلّقي  على رخاوتِهِ بالحياةِ

وداعًا أيّها الحبُّ وداعًا يا حبيبي ويا صديقي

في المساءِ المنتصرِ  خارتْ قوى الشّمسِ

وها إنّ النّهارَ يتغيّرُ تمامًا  

في المساءِ الفظيعِ سيقضي القمرُ نحبَهُ  

وعلى رنينِ صوتِهِ يُلقي قلبي سلاحَهُ ويستسلمُ

فقد آنَ الأوانُ لأستريحَ

استراحةً طويلةً مشحونةً بالضّغينةِ 

سيكونُ ذهابًا بلا إيّابٍ إلى عالمٍ لا زهورَ فيه

عالَمٍ لا يتفتّحُ فيه إلاّ الشّوكُ الأخضرُ  

عالمٍ لا شمسَ فيه والفجرُ فيه أسودُ حالكٌ 

عالمٍ الحياةُ فيه وهمٌ والأحلامُ لا طائلَ منها

وفي سماواتِهِ يحلّقُ الموتُ الزّؤامُ.
4

لم أذقْ شيئًا في وليمةِ الحياةِ

وها إنّ شعلةَ تعلّقي بالحياةِ تنطفئُ

في صمتِ اللّيالي

وشمعتي الأخيرةَ تجهضُ على دقّاتِ جرسِ الموتِ

لن أرى مرّة أخرى في حديقتي اللّيلكَ ولا ابتسامتَكَ

وها إنَ النّهارَ يلوذُ بالفرارِ

لقد حانَ وقتُ الرّحيلِ

وقتَ طيِّ جناحي

كعصفورٍ جريحٍ  مختنقِ الأنينِ

ها إنّي أتركُ قلمي للرّيحِ

وأسلمُ قيادي لإبليسَ الأهوجِ ،

لألغازِالسّمواتِ

مقيّدةَ اليدينِ بأصفادِ جهنّمَ

ومن تحتي رمالُها المتحرّكةُ .

 

تعليق : محمّد صالح بن عمر :

 

ماذا حدث يا ترى ؟ أ هي حقّا مونيك التي كتبتْ هذه الأبيات؟ أم هي تتحدّثُ بلسان امرأة أخرى ؟ أم هي التي كتبتها لكنْ  في لحظة يأس عابرة مثلما يحدث لأيّ إنسان  ؟

فمنذ أكثر من أربع سنوات عوّدتنا  هذه الشّاعرة في قصائدها على إظهار سعادة  قصوى لا تشوبها شائبة و تفاؤل بالآتي لا مثيل له .فلا نراها إلاّ  مقبلةً بكلّ جوارحها على الحياة ، ناظرة إليها بعين الطّمأنينة والثّقة .لكنْ ها إنّ الأفق يدلهمّ فجأة ويتحوّل الكون بأسره، دون سابق إنذار، إلى مأتم يخيّم عليه جوّ من الحِداد والبكاء .

ومهما يكن السّبب في هذا الذي حصل فهذه القصيدة تبيّن إلى أيّ حدّ يتّصف الشّاعر الغنائيّ بالهشاشة وسرعة الانكسار  وأنّ أدنى  حدث يمكن أن ينقله من النّقيض إلى النّقيض ، من وفاق كامل مع الكون إلى قطيعة تامّة معه أو العكس ،مثلما نلاحظه في هذه الحالة التي نحن بصدد معاينتها .أ أ لم ينشئ أبو القاسم الشّابيّ (1909 – 1934 )- مثلا-  أكبر شاعر تونسيّ في كلّ العصور قصائد ذات نبرة مأسويّة  نبعت من إحساسه بقرب المنيّة بعد أن أتحف القرّاء  بعدّة قصائد مشرقة تغنّى فيها  بالحياة (ولهذا الغرض اختار لديوانه عنوان أغاني الحياة ) ؟

من ذلك على سبيل المثال هذا المقطع الشّهير:

 

اسكُنِي يا جراحْ

واسكتي يا شجونْ

ماتَ عهدُ النّواحْ

وَزَمانُ الجنونْ

وأطلَّ الصَّباحْ

مِن وراءِ القُروُنْ

مِنْ وراءِ الظَّلامْ

وهديرِ المياهْ

قد دعاني الصَّباحْ

وَرَبيعُ الحَيَاهْ

يا لهُ مِنْ دُعاءُ

هزّ قلبي صداهْ

لَمْ يَعُد لي بَقاءْ

فوق هذي البقاعْ

الودَاعَ! الودَاعَ!

يا جبالَ الهمومْ

يا هضَبابَ الأسى !

يا فِجَاجَ الجحيمْ

قد جرى زوْرَقِي

في الخضمِّ العظيمْ

ونشرتُ الشراعْ

فالوَداعَ! الوَداعْ

لكن إذا كان المقام  التّلفظي  هو نفسه فإنّ الشّابّي قد رأى في رحيله عن الدّنيا إنقاذا له من الهوّة الأرضيّة ،على حين تنظر إليه مونيك لرحيلها هنا  على أنّه ضياع  نهائيّ لا عودة منه وأنّ الآخرة تُختزل  من منظورها في جحيمٍ أبديّ .

على أنّنا لمعرفتنا الدّقيقة  ما تتّسم به الذّات الغنائيّة من تقلّب  مزاجي مستمرّ  لن  نستغرب إن رأينا الشّاعرة في قصائدها القادمة تسترجع  ثقتها في نفسها وفي المستقبل وتستعيد ما فقدته من لذّة الحياة.

من النّاحية الأسلوبيّة بلغت هذه القصيدة درجة عالية من الشّعريّة بفضل نبرة  صاحبتها الصّادقة والصّور المؤثّرة  التي صاغتها والإيقاع الدّاخلي المتسارع  الذي يرافق قارئها من البداية  إلى النّهاية.

 

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*