تجربتي مع الكتابةِ : الكاتب الفلسطينيّ جمال جنيد

جمال جنيد

 

تجربتي مع الكتابةِ  : الكاتب الفلسطينيّ جمال جنيد

بداية أقول إن مصير الكتابة مصير الكلمات، هو مصير المصير.. إنّه لبّ الحياة أو هو الحياة في معمعة الحياة.‏

ليست تجربتي مع الكتابة حياة مع الكلمة وحسب، وليست التجربة قلماً وورقةً وأفكاراً فقط.. إنّها خروج عن الطوق.. انعتاق، نظرة إلى المستقبل.. كشف عن أعماق النفس، ارتياد للمجهول، التزام بحرّية الإنسان، بل أكاد أقول إنها ضوء في العتمة.‏

وعلى هذا فالتجربة هي خلود النفس قبل خلود الكلمات.‏

يظهر أنني استرسلت ،أخذتني بهجة الكلمة، تلك الكلمة التي أسّرتني وأنا طفل وما زالت وستبقى حتى النفس الأخير.‏

أمر الكتابة يبدو لي كحلم، أو أنّ الحلم هو الكتابة.‏

برأيي أنّ الألفاظ التي نكتبها هي التي تملك التجربة، بل التجربة هي التي تملك الألفاظ، إنها تخرج من أعماق الروح، من أعماق الرؤيا، في صحوي أو منامي، في عملي أو لبّ مشكلات الحياة وهمومها.‏

لا أرتاب أبداً أنني حين أكتب، أتحوّل إلى شخص آخر تستفز الحروف أقصى طاقتي، يضمّني إحساس أنني حيّ يرزق.‏

لحظة الكتابة، هي لحظة الحياة عندي، تشوبها لذّة تحقيق الذات، في اندفاعه نحو تحقيق حرية الإنسان والدفاع عنها.‏

قبل أن أمسك القلم كنت ألتقط الحياة قطرة قطرة، أراها أحياناً كبلّورة سحريّة، وأحياناً كصخرة (برومثيوس) اندمجت مع الأشياء مع الجماد، مع الناس رأيت أنماطهم، حيواتهم، آمالهم، مبالغاتهم، نظرت في أعماق عيونهم، تحسّست آلامهم، كنت مسحوراً بما حولي كطفل، وحينئذ فقط رأيت نفسي، لكنني لم أمسك القلم، كنت أخشاه، ولكن ما دفعني إلى إمساكه هو الموت.. الموت يدفع للحياة، قد تكون الحياة هكذا في تناقضاتها.‏

أقول كان الموت هو التجربة الأولى التي دقّت بابي، دقّته بعنف وبلا استئذان، حين فقدت أخي الوحيد، فتحي، للعلم كان لأخي المرحوم تجربة كتابية ثرّة، ونشر مقالاً نقدياً عام 1972 عن مجموعة حيدر حيدر (الومض).. في مجلّة “الموقف الأدبيّ”، ولمّا يتجاوز عمره العشرين، العدد 15 أيلول 1972، عند وفاته شعرت بوحدة طاغية، كان ذلك عام 1974 لم أعد أمتلك نفسي، ولم تعد نفسي تمتلك ذاتها، كنت مقبلاً على الحياة فصدمني الموت، ولم ينقذني من ذلك سوى الكتابة.‏

حينئذ تساءلت :لماذا الموت الآن؟! وجاء الجواب :الكتابة هي المخرج الوحيد لمواجهة الموت.‏

وكانت أولى تجربتي في الكتابة بعد هذه التجربة القاسية، رواية نشرها اتحاد الكتّاب العرب عام 1978 بعنوان (المبنى)، كانت تلك الرواية هي صورة أعماقي في تلك المرحلة، كانت ذات لغة حادّة، وتعابير سرياليّة، إنّها صرخة في وجه موت الاقتلاع من الأرض، المكان.‏

لماذا الكتابة، قصّة أم رواية؟‏

منذ الرواية الأولى ارتبطت بالإنسان العربي المقموع جنسيّاً واجتماعيّاً وفكريّاً وحضاريّاً، ذلك الإنسان الذي يتلمّس حريّته في فترة الاغتراب، حتى إذا أشبع رغباته الدفينة يتضح وعيه، وبالتالي تنقلب حياته من سلب إلى إيجاب، هذا إذا لم يدفع بطل هذه الرواية حياته ثمناً لهذه الحرّيّة، كما حدث للشخصيّة الرئيسة في القصّة، ومثل هذا المصير ترسمه القصّة أو الرواية ولا أرسمه أنا، إنّني أتصوّر لأبطالي حركة إجماليّة أضعهم فيها، حتى إذا امتلؤوا حياة وحركة خرجوا من إطاري وتطوّر مصيرهم.‏

بدأت الكتابة وأسئلة تدور في ذهني، حتّى لو بدأ الكاتب من ذاته، ألا ينبغي لعمله أن يتماهى مع الآخر، حتّى يخرج إلى الموضوعيّة، فيتحدث عن الآخر وهو يتحدّث عن نفسه؟

ماذا ستفعل الكتابة في خضمّ هذا التدهور الهائل للأمّة العربيّة، وهي تتقاسم المصالح مع العدوّ الصهيونيّ بينما تنقسم على نفسها؟ كيف تتبلور نفسيّة الروائيّ والقاصّ في هذا الجوّ الغائم الضبابيّ، الذي لا شكل لـه ولا رائحة.‏

لا ادري إن كانت هذه الأسئلة تدفعني للكتابة أم تحبطني، ورغم ذلك اتخذت قراري بالكتابة تأكيداً لذاتي ودفاعاً عن حرّيّة الإنسان، فكان المبنى اتحاداً ما بين الذاتيّ والموضوعيّ.‏

ويبدو أن القيمة الأساسيّة في كتاباتي هي الحرّيّة ،حرّيّة الشخصيّة الرئيسة في راويتي الثانية 1980 (الينابيع)، إنها شخصيّة أم رحال بعد أن فقدت أرضها في الحمّه في الجولان.‏

كان هناك معادل موضوعيّ لحرّيّتها، ألا وهي ذكرياتها بتفاصيلها الدّقيقة عن الحمّه وينابيعها، هنا تبدو علاقة الإنسان بالأرض، بالحرّيّة، التي أراها الأقوى بين كلّ العلاقات الأخرى.‏

إنها ترفض الاحتلال من الداخل، فعاشت مع بلدتها، وعاشت بلدتها معها، حتى في غربتها، هذه الحرية المتحققة والمحبطة في آنٍ معاً.‏

أليس جميلاً أن يتذكر الإنسان زهور بلاده، مياه بلاده، هواء بلاده، التي فقدها، حين تموت الذاكرة يموت المكان، وأم رحّال رغم تعبها في الغربة، بقيت ذاكرتها حية، إنها الذاكرة الخالدة في أعماق النفس.‏

وإذا ما تناولت المشكلة من جانب تقني، يمكن القول إنني لا أريد من القصة أو الرواية أن تكون واقعة سرد وحكاية أو تحمل شعارات طنّانة بل عليها أن تحمل دلالة ما، أو بالأحرى قيمة كبيرة عن شريحة واسعة من الحياة، أريدها حرّة كاملة من كل جوانبها، أي تنمو حريتها من ذاتها، إنني أكتب من أجل الإنسان، لأنني أؤمن به، فهو هدفي ومنطلقي، من الإنسان يتحول التاريخ، منه تبنى الحضارات، ومنه تتحرّر الشعوب، حين لا تكون على الإنسان وصاية، تنطلق قدراته، يستطيع أن يجابه الصعوبات، يتحرّر من كلّ ما يعيق دربَه.‏

لهذا كان أبطالي من قاع المجتمع (أم رحال) في الينابيع، (جامح) في المبنى، (محمود دهمش) في المخيم، (قاسم) في غابة الوطاويط، إنها لا تطمح إلى جاه أو مال أو سلطة، طموحها هو استعادة توازنها النفسي أو المادي.‏

ولا تهمّني التيارات المختلفة، بل المهمّ أن يسير النصّ وفق قانونه الخاص، فيمكن أن تختلط فيه السرياليّة والوجوديّة والرومانسيّة والواقعيّة، والمهمّ هو مسؤولية الكاتب تجاه عمله، أي الصدق في التعامل مع النصّ.‏

قبل الكتابة يعيش النص في أعماقي، يتخمّر وينضج ببطء، تضطرب الأفكار حيناً وتهداً حيناً آخر، تختلف الشخصيات والمواقف والآراء، ثمّ ينثال النص على الورق، مطواعاً، في فترة وجيزة، ومن اللاوعي تنبثق الكلمات مثل الينبوع في فترة الوعي والخلق.‏

قبل تجربتي الثالثة (رواية المخيم) 1984 أعتقد أنني أول من تحدث عن المخيم في رواية.‏

في هذه التجربة تبدو تجربة الاقتلاع مرتبطةً بالأرض، إنه المكان الجديد، ليس البديل تماماً، بل هو محطة في مكان ما من الأرض العربية، إنه (المخيم) حيث تتشابك أنماط الشخصيات سلبية كانت أم إيجابية، بسبب مأساة الاقتلاع، ويبدو أن أنقى تلك الأنماط، وأطهرها وأكثرها توهجاً هو ذلك الذي يعود جثة هامدة إلى المكان ـ المحطة ـ المخيم، لأنه يريد استرجاع بيته وحقله..‏

ويبدو أن هاجس المكان ـ المحطة ـ أو المكان ـ الوطن الذي بدأ حلماً ضبابياً من خلال ذكريات أبي وأمي عن فلسطين، يبدو هذا الهاجس احتواءً للنفس أحياناً وانفلاتاً لها في أحيانٍ أخرى.‏

ومن هنا كان ذلك المكان هو سرطان النفس، ومن هنا أيضاً تجربتي الرابعة في رواية المقطعات، (مطار السرطان) في تلك الرواية يتفتت المكان، وتتداخل الأزمنة، لأن المخيم ليس الوطن، ولن يكون البديل، إنه توتر المكان عبر زمان الأحداث، لا أحد يستطيع معرفة رائحة المكان، إلا ذلك الذي رأى المكان من خلال ذكرياته، وذكريات غيره، حيث نقلت بأمانةٍ شديدة، عبر ذاكرة لا تموت، ومن هنا يبدو لي أنه كلما ترهّل الزمن عبر ذلك المكان كلما التصقت الذاكرة بالمكان المفقود والبحث عن الزمن المفقود في تضامن الزمان بالمكان، مع الكاتب الفرنسي مارسيل بروست، يبدو لي أن ذلك المكان المفقود يزداد جمالاً وألقاً وسحراً حين احتل الحجر مساحة المكان، والشاشات الصغيرة، وصفحات الجرائد، وأخبار وكالات الأنباء، كانت تجربتي الخامسة من مجموعة قصصية هي الأولى أسميتها (الملك دواد والحجارة) حيث كتب عنها في الكويت، والأرض المحتلة.‏

رأيت في المجموعة أن الأرض تريد أن تستعيد نفسها بنفسها، بجزء من الأرض، تريد استعادة الأرض ـ الحديد لا يفله إلا الحديد ـ .‏

حين رأيت ما رأيت توترت الكلمات، انثالت ترصد الحجر، حيث توقد الحجر من الجسد، أصبح الجسد حجراً مقاوماً، وأصبح الحجر جسداً مقاوماً، إنها المقولة الأولى، علاقة الإنسان بالأرض، هذا الارتباط اللامتناهي.‏

كان الحجر هو ذاكرة المكان المفقود، قد تكون ذاكرة أم رحّال في الينابيع، وانبعثت هذه الذاكرة عبر أطفال الحجارة.‏

كنت مذهولاً بذاكرة الشعب هذه، حيث جعل من أبسط الأسلحة سلاحاً خطيراً يجابه أعتى الأسلحة وأشدها فتكاً.‏

تجربتي السادسة كانت مع الفتيان، حيث كتبت رواية أسميتها (مغامرة صيفية) من منشورات وزارة الثقافة، كانت رواية تربوية تتحدث عن التنظيم في حياة الفتيان.‏

في تجربتي السادسة كانت رواية (غابة الوطاويط) حيث رأيت أن التخلف والجهل هما اللذان يساعدان لصوص الأرض، حيث نملأ أوقاتنا بالثرثرة والسلبية، هنا تنتظر الوطاويط لتمتص دماءنا، الإرادة المسلوبة تجعلهم ينتظرون كتاب الموت، بشيء من اللاإرادية، إنه حي وهم أموات لكن قاسم الوعي، يتمرد على ذلك الواقع الرديء، إنه وعي الثورة ضد المحتل، وأخيراً يحرق غابة البلوط، غابة الوطاويط، من أجل أن تبتعد الوطاويط عن المكان المفقود من أجل صحوة أصحاب الأرض.‏

في مجموعتي القصصية التي صدرت عن اتحاد الكتاب العرب (توت شامي يا توت) تناولت إحساس القمع على الصعيد الاجتماعي والاقتصادي والنفسي، أطللت في المجموعة على شخصيات فقدت أبسط الحريات، أناس يبحثون عن الطعام والأمان والأحلام، يعيشون بألف وجه ووجه بسبب ظروفهم المعيشية القاسية.‏

في مجموعتي الأخيرة (وردة في معتقل الخيام) بدأت نشوى من نوع آخر، نصراً لم تعتد عليه، تحرر جنوب لبنان الفضل لأولئك الذين أحبوا الأرض وتماهوا فيها.‏

أهديت المجموعة إلى جنوب لبنان بوابة الحرية.. هذه البوابة التي بدأت تفتح أبوابها، لكنهم أغلقوها حين احتلوا العراق..‏

رصدت في المجموعة، لمحات إنسانية ـ ترابطت مع حب الأرض، عانت الشخصيات لتصنع الحرية.‏

ولم تقف تجربتي عند القصة والرواية، فكتبت الدراما التلفزيونية والإذاعية. بدأت بالأطفال تلفزيونياً، لأنهم الحقيقة الناصعة في الحياة في مسلسل، مغامرات صيفية، وفي الدورات الإذاعية تناولت بطلاً قوياً حين كتبت عن حياة القسام ومسلسل (أوراق مدير مدرسة) من خلال تجربتي التربوية..‏

ويبدو أن زمن كتابتي الروائية، لا يجري وفق السياق المتعارف عليه، ويبدو (الفلاش باك) كثيراً في (الينابيع)، إن الزمن لحظة متجددة، سواء أكان ماثلاً أم غائباً وسواء كان واقعاً أم حلماً.‏

وصور الطبيعة عندي تندرج في نوعين متضاربين، فهي إما تتكون من خبرة داخلية، تنتقل إلى الشخصية ( الينابيع) وهي ليست مجرد ديكور خارجي، وهنا تبدأ لحظة المعاناة، أو تكون خارجية، ولا علاقة لها بما في النفس ولا أستطيع أن أحدد كيفية تمازج النوع الأول مع الثاني خاصة في روايتي (الينابيع).‏

ويمكن للناقد المتفحص أن يلحظ ذلك، وقد يكون من قرر ترجمة روايتي (الينابيع) إلى اللغة الروسية، قد لحظ ذلك، في عهد الاتحاد السوفيتي السابق.‏

حين يصبح الاحتلال كابوساً مرعباً، ينعكس هذا على الوعي الداخلي، لذلك اهتممت في (الينابيع)، في مرحلة ما، بالتيارات الداخلية، حيث يتكثف الشعور، من أجل رفض الواقع المادي الخارجي.‏

من هنا تبدأ معركة التشبيهات والاستعارات، في تمازج وتناغم لتؤلف وحدة كلية بديعة.‏

لعلي أقول، إنني أسعى نحو الكلية، بحيث يرتبط النسبي بالكلي وبحيث تصبح عناصر الطبيعة، بسمائها، وأرضها، ووردها، على سبيل المثال، رموزاً، في هاجس درامي داخلي، أما الفكرة فهي المكان الخارجي لذلك، أي إن هناك اتجاهاً نحو المطلق، ومحاربة المحدودية، وطرق عناصر كثيرة في نسيج النص.‏

وإذن فإن همي هو القيم التي تؤكد حرية الإنسان (رواية المخيم) مما يعذبه ويقهره، مما يؤكد نزعة الإنسان إلى التمرد على حسه بالغربة (رواية غابة الوطاويط).‏

هذا بظني، هو نسيج العمل الذي أقوم به، عن طريق لغة تتسق بالشكل، مع مضمون‏ يسعى إلى الأخذ بيدها، في انصهار تام بينهما. مما يشكل وحدة الشكل والمضمون.‏

الفن إذن، ليس فراراً نحو الحلم، بل هو سيطرة عليه، وتعايش معه،‏

إن الواقع وعي آخر، يتشكلان عندي ليسا هما في الوعي الروائي الإنساني.‏

والرواية عندي، ليست تقليدية أو رواية تسلية، أو اجتماعية، أو سريالية إنما أطمح وأطمع أن يكون من هذا كله، لتتفتح أمامنا أنا والقارئ طريق المعاناة الإنسانية المشتركة.‏

لا أنكر أننا اقتبسنا الرواية عن الرواية من الغرب في بداية هذا القرن، وهذا يعني أن الفن الروائي العربي لم يمض عليه أكثر من مائة عام من الولادة، ومع ذلك استطاع الروائيون العرب، على كافة مذاهبهم، أن يطوروا الرواية العربية الحديثة، وقد اهتممت في بدايات كتابتي بالتيارات جميعها، مما دفعني، فيما بعد، إلى أن تتماشى كل رواية من رواياتي مع تيار معين، حسب موضوعها الخاص.‏

كان تيار الوعي هو الذي استهواني في فترة ما، فتلاعبت بالزمن (الينابيع)، لجأت إلى الماضي، ثم إلى المستقبل، إنها شكل تعبيري، تخلص من الرتابة والسرد والحكاية والفعل المنظم في ذهن الكاتب وقلمه، إن مضمونها هو شكلها نفسه، في كل زمن، وفي كل مكان من الرواية، رغم ما يهزها من حيث النظام، لكنه لا يفقدها الفنية.‏

إن إيماني بالشكل والمضمون وارتباطهما، جعلني أتقلب في التيارات لأصل إلى شكل ينبع من العمل الفني لا من الخارج، يندمج فيه، ومازلت أجرب، وطموحي أن أصل إلى شكل يتفق مع مضمونه، بعيداً عن التقليدية.‏

ورغم ذلك فالواقع عندي هو المنطلق، رغم بشاعته، وتعقيده وتخلفه، لأن الحقيقة البشرية حقيقة إيجابية، فالناس الذين أتحدث عنهم يرفضون بشاعة الواقع وتعقيده وتخلفه.‏

إن الحلم في واقع أفضل هو ما دفعني إلى كتابة (غابة الوطاويط) فقاسم رغم ما يحيط به من قمع وتخلف، يحقق في النهاية بدء الثورة (النار)، على هذا الواقع الذي فرض عليه فرضاً.‏

في رواياتي أتوجه إلى دفقات شعرية خالصة، (المخيم) و(مطار السرطان) هذا ويمكن أن تبدو في الرواية صوراً عاطفية من الفكر الخالص، أي أن أترك للرواية أن تخط لنفسها طريقها وتبتدع قوانينها وإني على إيمان أن اللغة العربية شديدة الغنى، تستطيع أن تصف أدق خلجات النفس، وهذا ما أردته في (الينابيع).‏

إن اللغة الشعرية في رواية المخيم) و(غابة الوطاويط)، تدل على معان يمكن تضمينها في جملة أو أكثر، ولكنها تحمل في طريقها عناصر التفجير للواقع والفكر، إنها لغة غير أمينة إطلاقاً، تقلق القارئ، وتجعله بالتالي يشارك في صنع بديل أفضل.‏

وعندي تجربة روائية، كسرت فيها باللغة حاجزي الزمان والمكان، (مطار السرطان) حيث الأمكنة وإن تقاربت فهي متباعدة، والأزمنة وإن اتحدت فهي متفرقة.‏

قلت، إنني أكتب لهؤلاء الناس، من غير تعقيد، لكنني لا أعتمد أسلوباً سهلاً لأصل إلى أوسع دوائر القراء، فاللغة عندي تنمو من خلال النص، بلا تكلف أو صنعة.‏

ويقيني، أن لغتنا هي لغتان، لغة قديمة عريقة، ولغة سهلة مفصحة، ولا أقصد التقعير في اللغة القديمة، بل ما أقصده أن نزاوج بين هذه وتلك، حتى نصل إلى رواية ذات طابع لغوي لرواية عربية متميزة.‏

منذ زمن أحاول في هذا الاتجاه، وليس سراً أن هذا الطريق صعب وشائك، لكنه برأيي، هو ما يمكن أن يزاوج بين لغتنا القديمة ولغتنا الحديثة (المفصحة).‏

إن اللغة عندي فن، فهي التي تعبر عما في نفس الكاتب، فاللهجة العامية تخل باللغة، مهما كانت العامية في مكانها المناسب.‏

كيف نفهم الرواية العربية، وقد حشيت بلهجات قطرية، إنها لا تمثل في النهاية، إلا نفسها الضيق، ولا تمثل بحال الرواية العربية الحديثة.‏

إنني لا أسعى، كما قال (باختين)، إلى استعادة تجريبية اللغة الدقيقة والتامة، بل أسعى إلى التماسك الفني لصورة هذه اللغة.‏

إن الخلط، بين اللغة، كثيراً، ما يؤدي إلى نسق أهوج وطائش، مما يؤدي إلى تراكيب هجينة، مما يفقد النظم المتماسكة للغة.‏

فلغتنا الحية الباقية، هي أوركسترا، كل ما فيها منظم ودقيق، وأي خلل في عناصرها، هو نشاز، في هذه الأوركسترا، شريطة أن يكون التنوع الكلامي، ضمن نظام هذه الأوركسترا، وهذا ما يتطلب توسيع أفقنا اللغوي، وإمكان إدراكنا للتباينات اللغوية الاجتماعية.‏

وإذا تحدثت عن النقد، يمكن القول إن العلاقة بين الكاتب والناقد العربيين علاقة مشوهة، فالكاتب ينظر للناقد منتظراً منه رأياً كاشفاً يستند إلى نظرة أشمل، ينتظر التحليل والمقارنة، لكنني لا أجد من الناقد سوى الخطاب الموجه للقارئ فقط.‏

ولا تمثل بحال الرواية العربية الحديثة.‏

إن الرواية نهر يمكن لكل روائي أن يغمر قدميه فيه، وكما تتجدد مياه النهر، يتجدد الخيال في الرواية، تتجدد المعرفة بحقائق الحياة وقوانين المجتمع، والتراث العالمي، والتجارب، وفي كل هذا لابد من الصدق.‏

إن النقد الذي لا يصدر عن دراسة واعية للنص سيكون بعيداً عن روح النقد، فمن يدرس النقد دون هواية قد يصبح نقده غواية وانحرافاً.‏

هناك الكثير من النظريات النقدية، تضاربت فيما بينها، فتضارب النقد العربي، وأصبح بلا اتجاه محدد، بعد أن كان النقد العربي نقداً علمياً ومنهجياً في عهد ابن الأثير، وابن سلام والآمدي وقدامه بن جعفر والجرجاني، ثم انحرف النقد العربي على يد أبي هلال العسكري حتى أصبح شكلياً يتحدث عن البديع والبيان.‏

حين يصبح النقد سيفاً بيد قاطع رؤوس، أراهن أن هذا السيف ليس سيفاً عربياً خالصاً.‏

وقد يكون هذا السبب أو غيره، هو الذي دفع إلى أن يتناولني النقد خارج سورية لا داخلها.‏

لكن ما يراودني سؤال مقلق، هل للفن دور في الفعالية الإنسانية والواقع يقول عكس هذا؟!‏

أما زلت أكتب لأنني لا أعرف سبيلاً للتغيير غير هذا؟!‏

إنها قفزة في المجهول، ما يحيط بي مرير إلى أبعد حدود المرارة..‏

والفن ينضج العقول على نار هادئة، قد تتجاوز عشرات السنين، بل قل أكثر، في ظل فضائيات الشاشة الصغيرة، التي مسخت الإنسان وسلبت لبه، فانزوى بعيداً عن الكتاب بعد أن صار لعبة مسلية وسهلة.‏

تلك هي لمحات من تجربتي، أخذت مني مسيرة عشرين عاماً ونيف من الكتابة الروائية والقصصية وحين أمسك القلم لأكتب، أتصور أنني لم أكتب من قبل، إن الكتابة عندي هي البداية دائماً..‏

ليست حروفي كما قال (أيوريك) من ذهب، بل هي عرق ودم وإحساس المقهورين، إنها حياة الموت في سبيل أفق حر…‏

وأتساءل… أخيراً…‏

لماذا أكتب؟!! كما تساءلت في البداية… لماذا الرواية؟!!‏

الحقيقة إنني لا أعرف الإجابة… بل يمكن القول إنني أكتب لأنني لا أتحمل إلا الكتابة عن جمال العالم وأهواله، أكتب لأنني أريد للحق أن يعود إلى نصابه عن طريق الحلم.. قد تكون كتابتي صرخة في قبض الريح… أكتب لأولئك الذين لا أعرفهم، لكنهم يفهمونني جيداً..‏

أكتب لأن الحياة لغز، والموت لغز..‏

أكتب ليستمر تنفسي

 

من هو جمال جنيد ؟

كاتب سردي فلسطيني ولد بدمشق في عام 1949. حاصل على إجازة في اللغة العربية، وعلى ديبلوم تأهيل تربوي، وعلى ديبلوم دراسات عليا  وعلى ماجستير في التربية من جامعة دمشق. عمل مدرسًا في ثانويات دمشق، والسعودية، ومديرًا لإحدى إعداديات وكالة الغوث الدولية.  ترجمت روايته “الينابيع” إلى الروسية، وهناك رسائل جامعية عن أعماله.

أعماله الروائية:

  • “الينابيع”، 1984
    • “المبنى”، 1987
    • “المخيم”، 1988
    • “مغامرة صيفية”، 1989
    • “غابة الوطاويط”، 1992
    • “مطار السرطان”، 1990

أعماله الأخرى:

  • “القنفذ والضفدع” (قصة أطفال)، 1986
    • “الملك داود والحجارة” (مجموعة قصصية) 1989
    • “توت شامي يا توت” (مجموعة قصصية)، 1998
    • “وردة في معتقل الخيام” (مجموعة قصصية)، 2001

 

 

 

 

:

حاصل على إجازة في اللغة العربية، وعلى ديبلوم تأهيل تربوي، وعلى ديبلوم دراسات عليا  وعلى ماجستير في التربية من جامعة دمشق. عمل مدرسًا في ثانويات دمشق، والسعودية، ومديرًا لإحدى إعداديات وكالة الغوث الدولية.  ترجمت روايته “الينابيع” إلى الروسية، وهناك رسائل جامعية عن أعماله.

أعماله الروائي:

  • “الينابيع”، 1984
    • “المبنى”، 1987
    • “المخيم”، 1988
    • “مغامرة صيفية”، 1989
    • “غابة الوطاويط”، 1992
    • “مطار السرطان”، 1990

أعماله الأخرى:

  • “القنفذ والضفدع” (قصة أطفال)، 1986
    • “الملك داود والحجارة” (مجموعة قصصية) 1989
    • “توت شامي يا توت” (مجموعة قصصية)، 1998
    • “وردة في معتقل الخيام” (مجموعة قصصية)، 2001

 

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*