ملامح الذّات الشّاعرة بين ندرة الكينونيّ* وكثافة الأنطولوجيّ* في نزهة بين السّماء والأرض(1) لفرات إسبر : محمّد صالح بن عمر

فرات إسبر

 

تفتح قصائد هذه المجموعة الموسومة ب ” نزهة بين السّماء والأرض ” لفرات إسبر  على عالم مُسيّج ، مُحْكَم الغلق  ، فضاؤه في منتهى الضّيق ،  لا  يكاد يوجد داخله  في زمن التلفّظ* إلاّ الذّات الشّاعرة . وهذه الذّات  تعاني  داخله حالة حصار شديد  أشبه ما يكون بالاختناق . فإذا هي تمضي  ، على نحو مسترسل  ، في بثّ خطاب يحيل في معظمه الأغلب عليها هي وفي سياقات قليلة متفرّقة على السّياج الأرضي والحاجز السّماويّ  اللّذين يحيطان  بمجال تحرّكها  – وهما الأرضُ-أمسِ من الأسفل والسّماء- غدا من الأعلى   –  تاركة المساحة  المكانيّة الزّمنية التي تحتلّها  في زمن القول   مفتوحة على  أكثر من تصوّر أو تأويل .

فما هي  معلم هذا العالم-السّجن الذي  تتداخل في تركيبه  إذن مكوّنات مكانيّة وزمانيّة ؟  وما هي ملامح الذّات الشّاعرة  القابعة فيه من خلال الصّورة التي ترسمها لنفسها ؟

 

I معالم العالم-السّجن  المنغلق على الذّات الشّاعرة:

قلنا إنّ العالم الذي يحتضن الذّات الشّاعرة عالم مُسيّج من أسفلَ و  مسقوف من عَلٍ . وهذا يقتضي مناّ أن نتوقّف عند كلّ  حدّ من  هذين الحدّين   ثمّ عند ما يمتدّ بينهما .

1- السّياج السُّفلِيّ : الأرض/ الوطن- أمسِ :

إنّ السّياج الأرضيّ المحيط بالعالم الذي تتحرّك فيه الذّات الشّاعرة  زمنَ التلفّظ هو ماضٍ فاجع عاشته  في إطار مكانيّ أصليّ  حيث لا يزال يجري في غيابها . لكنّ الجراح التي خلّفها لم تندمل . بل ظلّت مفتوحة في الذّاكرة تُولِّد في النّفس على نحو  مستمرّ آلاما حادّة مبرّحة . وهذا الماضي   الذي لم ينفكّ يُنيخ بكَلْكَلِهِ على كيانها الرّوحيّ  أدّى، حسب بعض  الإشارات المرجعيّة  المتفرّقة  ،  إلى مغادرتها للوطن إثر نشوب حرب مدمّرة أو ما يشبهها  ،  كما يظهر  بصريح اللفظ من هذه الأبيات :

بلا أنفٍ

بلا  أقراطٍ خرجتْ

 بلا ثيابٍ داخليّة

خذلتْها الحربُ وأوسمةُ الرّجال

سنرقص في العُرس قال لها

 سنحضرُ مَعُونات الصّليبِ الأحمر 

  وهي  تتطايرُ في الهواء

كأسرارِ الجبال 

على جسدها جرحٌ لوّنتْه الحربُ

ورصاصاتُ أصابعَ طائشة  

( نفسه ص ص 31- 32 )

غادروا،

تركوا أمامهم الماضي

تركوا جرحاً

وسكّيناً

تركوا خنجراً

وجثة ميّتة

تركوا أسئلة،

اقطفها من شجر الحياة

كلّ يوم تعطيني ثماراً

كان قد أكلها الدّود ! 

( نفسه ص 42 )

ولمّا كانت  هذه الإشارات تنفيها الوقائع التّاريخيّة ،  إذ لم تندلع في سورية حرب من هذا القبيل على نحو ما جرى في العراق المجاور ،  فإنّ الأمر لا يعدو أن يكون تصويرا مجازيّا لهجرة اضطرارية ربما كانت أسبابها سياسيّة  . ومهما كان السّبب  – ولا يعنينا إلاّ ما ورد في نصوص المجموعة –  فإنّ منبع أزمة الذّات الشّاعرة هو إذن اغتراب قِسْرِيّ أو على الأصح  عمليّة اجتثاث تجسّدت في ابتعاد طويل المدى عن الوطن مع صعوبة أو استحالة الرّجوع إليه .  ومعنى ذلك  أنّ هذه الأزمة ليست ناتجة عن  حالة وِلاديّة متأصّلة وإنما عن  صدمة تعرّضت إليها  الذّات الشّاعرة .وقوّةُ هذه الصّدمة التي ارتجّ لها  كيانها النّفسيّ والذّهنيّ جعلت آثارها  حيّة ،  منطبعة في أعماق ذاكرتها إلى حدّ أن شغلتها  على نحو  يكاد يكون كلّيّا عن وضعها الماديّ  في حاضرها .

لكنّ اللاّفت في موقفها من  الأرض الأمّ التي اضطرّت إلى مغادرتها هو أنّه  يتراوح بين النّقمة عليها والتعلّق بها . فهي عندها  من جهة ” خائنة” ( ص 17 ) و ليس فيها سوى غيوم سوداء لم تمطر  ( ص  33 )  ويهيمن عليها العمى ( ص  38 )  ومفتونة بالقتل ( ص86 ) وبمنزلة امرأة قطعت حبل سُرّتها ثم رمت بها إلى المتاه ( ص 71 ) ومن جهة أخرى هي  مصدر انتعاش روحيّ :

ورمّانة البيت إذ تلثم وجهي

بعد ماء ترتوي منه

عطرها نسيم يمرّ بصدري 

 وذاكرة من أريج

( نفسه ص  .52 )

وهذا مظهر من مظاهر الاضطراب العنيف الذي أحدثته فيها هذه النّكبة .

2 الحاجز العُلْوِيّ : سماء صامتة لا مبالية : 

من الحلول  التي تلجأ إليها النّفس البشريّة عادة  للتّخفيف من حدّة  ما يلمّ بها من أزمات التّعويض*  . وهو يكون إمّا في المنام و إمّا في أحلام اليقظة .ومن أشدّ الأزمات على الإطلاق  فقدان الحرّيّة . وذلك  حين يُزَجّ بالمرء في سجن  سواء أكان  مادّيّا مضيّقا أم  معنويّا موسّعا كالمنفى والمُغْتَرَب . و الثّاني هو حال الذّات الشّاعرة في هذه المجموعة . ولماّ كان السّجن الأرضيّ الذي توجد فيه محكم الغلق  ، لامتناع عودتها إلى الوطن فثمّة احتمال قويّ لأن تبحث لنفسها عن متنفّس في السّماء . فكيف يلوح هذا  المتنفّس الممكن في خطاب الذّات الشّاعرة  ؟ و ما هي مواقفها منه ؟

إنّنا نجدها بين الفينة والأخرى تشرئبّ إلى الأعلى ،  لكن ليس بيقين المؤمن المطمئنّ بل  بشكّ  مِلحاح لا تخفيه  ،  لاحتمال أن يكون وضعها ثمّة أشدّ تأزّما . وهو ما يلوح جلياّ في قولها :

يا جارةَ الجذر قومي

من فوق الذُّرَى، سوف تدنو السّماء البعيدة !

تلتقط  جمر روحي المتصاعد،

 إنّني وَلْهَى بالسرِّ البعيد

قد يكون الجحيم !

قد يكون النّار في وعدٍ أكيد

 أو جنّة تحت أقدامي تَمِيد

( نفسه ص 25 )

ومردّ هذا الشكّ هو  أنّ السّماء لا تحرّك ساكنا  لنجدتها و إنقاذها :

لا ترتفع الشّمس  فوق بيتي .

من الشبّاك

أراها ولا ألمسها

ألمسها ولا أراها

أحزاني تعلو سياج البيت

( نفسه ص   68)

وإذا حضرت فلتشاركَ في الاحتفاء بموتها :

أنسج كفني من خيوط الشّمس 

أهمس للقمر أن ينخفض قليلاً 

كي  يقيم الصّلاة على روحي

( نفسه ص     48 )

وهكذا فانّ السّماء في عالمها الشّعريّ  حدّ مُحكَم الغلق  أيضا لا أمل في اختراقه إلاّ إلى عذاب آخر يضاف إلى العذاب الأرضيّ . فلنلتفتْ إذن إلى أحوال الذّات الشّاعرة في هذا السّجن الكبير ، ساعين إلى تلمّس معالم الصّورة التي رسمتها لنفسها وهي داخل هذا المنفى .

3- ما بين الحدّيّن :  كيان ذهنيّ نفسيّ  مُغَيّب الكينونيّ كثيف الأنطولوجيّ :

تتبدّى الذّات الشّاعرة في خطابها داخل العالم-السّجن الذي رمت بها الأقدار فيه  روحا  خالصة أو تكاد . فلا يظفر القارئ عن  ملامحها الجسديّة إلاّ بإشارات قليلة  متناثرة من قبيل ” رأسي ” ، ” وجهي ” ، ” صدري ” لا تحيل على كينونة* مخصوصة ذات  وجود ماديّ في الواقع بل على كائن إنسانيّ أُنثويّ مجرّد . ولكنْ مقابل تغييبها  ما يسمّيه مارتن  هيدغر  Martin Heidegger  )    1889 – 1906 ) الكينونيّ ثمّة تكثيف شديد لافت لما اصطلح على تعيينه بالأنطولوجيّ أي كل ما له صلة بوعي الإنسان  للأشياء. وهو ما يبطبق هنا على  مجموع الحالات التي وُصفت فيها هذه الذّات المنشئة للخطاب  (2) . وهذا العنصر هو المحور العامّ الطّاغي على قصائد المجموعة بلا استثناء .

وإذْ تيقّنا ،  فضلا عن ذلك ، بعد تتبّعنا حديث منشئة الخطاب من أولّ بيت في المجموعة إلى آخر بيت فيها من أنّ هذه الحالات لا تنبع البتّة من عُصَاب* مّا ، لخلوّ خطابها من أي إشارات  إلى مشاعرَ ذات صلة بالجنس ،  أمكننا الجزم دون غلوّ بأن تجربة الشّاعرة في  حدود هذا التّأليف تجربة وجوديّة بحتة . والتّجربة الوجوديّة هي ، في جوهرها ،  تجربة ذهنيّة عقليّة  لكن يكون لها وجوبا انعكاس على المستوى النّفسيّ . وهو ما يجعل مدار قصائد المجموعة برمتّها على الكيان الذّهني النّفسيّ * للذاّت الشّاعرة . فما  هي  إذن  ملامح هذا الكيان الذّهنيّ النّفسيّ ؟

تلوح الذّات الشّاعرة باعتبارها روحا مجرّدة متألّفة من مقصورتين* أو دُرْجين* ، على حدّ  تعبير كارل قستاف  يونق ( Carl Gustav Jung     1875 – 1961) ( 33 ). وهاتان المقصورتان أو الدُّرْجان متفاصلان متعازلان لا يكاد يمتّ أحدها بصلة إلى الآخر . وليس ثمّة شكّ في أنّ هذا الازدواج مظهر أوّليّ من مظاهر حالة ذُهانيّة*  (4)ربّما  تعاني منها الذّات الشّاعرة  ، مع التّنبيه هنا إلى ضرورة التّفريق بين الذّات الشّاعرة  – والمقصود بها ” الأنا ” داخل النصّ  وهي الوحيدة التي تهمّنا في التّحليل ولا نقصد سواها – والشّاعرة الشّخص التي أضحت منفصلة عن كتابها بعد فراغها من تأليفه  . فلنتوقّف وإن على عجل عند ما تحويه  كلّ مقصورة أو دُرج من تينك المقصورتين أو ذينك الدّرجين  اللّذين تطلّ  من كلّ منهما  شخصّية  مغايرة للأخرى .

3 -1:ملامح الذات الأصلية :

إنّ للذّات الشّاعرة ، حسب ما يُفهم من خطابها ، أصلا ثابتا مختلفا تمام الاختلاف عن كيانها الذّهنّيّ النّفسيّ الحاليّ الذي تشكّل ،  فيما يظهر من بعض  أقوالها ،  نتيجة عوامل خارجيّة طارئة لكنْ فاعلة شديدة التأثير.  .وهذا الأصل الأوّليّ البعيد  يلوح مُنْدَرسا ، عفّى عليه الزمن ، على هيئة آثار  مُنْطَمِسة أو متحجّرات متفتّتة  . لكنّه وان لم يكن له حضور محسوس  في زمن  التلّفظ فإنّه  ما فتئ  مستقرًا في اللاّوعي . وهو ما يجعله يطفو بين الفينة والأخرى إلى سطح الوعي . وحين نتأمّل اللّقطات  القليلة  الخاطفة التي  يطفو فيها  نجده في غاية التّوازن والإشراق . فهو أصل  يانع ، وارفٌ ،  أغنُّ  ، يشعّ بهجة وبهاء . ويتجلّى ذلك في ما  يطفح به من مشاعر إنسانيّة راقية .

ولعلّ من أبرز مظاهر هذا التّوازن وذاك الإشراق نِظرة الذّات الشّاعرة الاستعلائيّة إلى نفسها قبل أن تُضَرِّسَها الأيّام بنابها ويُحِلّ بها الدهرُ نكباته فيحوّلها من النّقيض إلى النّقيض . وفي هذا تقول :

أيّتُها المرأةُ العالية

كيف أصعدُ إليكِ؟

يسألني، هذا الرّجلُ الواقفُ في صحن الأرض

جسدُه  يصطدمُ  بجسدي

كما حجرٌ بحجرٍ.

(نزهة ص  57 )

وتستعيرُ لقلبها – وهي في هذه المكانة العالية – جمالَ القمر المضيء وقوّةَ القِرْش في أعالي البحار ولطفَ المَحَار واللّؤلؤ وحيويّة الماء ، كنايةّ عن تجذّر معدِنها في  أعمقِ أعماق الحياة  :

قمٌر جديدٌ قلبي،

يُشِعُّ في امرأة قديمة

بدائيةِ الحبّ

ترتفع  كشمس.ٍ

قرشٌ متوحِّدٌ في أعالي البحار،

محارٌ ولؤلؤ

بقايا امرأة قديمة

حيٌّ هو الماء

 في جذورها

 السّطح أنهار كاذبة

هل يمكن تصحيح الأخطاء ؟

( نفسه ص ص  13-14 )

وهذا الارتباط الشّديد لكيان الذّات الشّاعرة الأصليّ بالعلوّ والنّور والماء والحبّ  يتردّد في مواضع أخرى كثيرة  ، منها قولها :

  سأحكي عن المرأة

التي حملت الحبَ شمسًا في يديها،

 عن الأنهار، التي مرّت بالقلب الخالد

 الحكاية التي بلا ذيل، لم تنتهِ

( نفسه ص  28 )

وقولها :

تحملُ نورَها

 تضيء

 وتحترق.

تستعير الأسماءَ من المجرّات

وتمضي في قراءة الحياة

( نفسه ص 29 )

وقولها :

متوهِّجة مثل عطارد،

لكنّها ترى اليباسَ شقيّاً في مواسم النّور

تلمع مثل نجمة في الأعالي

تطيُر كما يحلو لها

ترفرفُ

 ثم تعلو

ثم تعلو.

 امرأة

في السّماء ،

في بعدها الأرضيّ، تدور

مالحة مثل البحيرات

في نوافذ الضّوء، تزرع الأمل

 والمواسم قِطافٌ أليمٌ

( نقسه ص 29-30 )

فالأمر واضح جليّ إذن . لقد جاءت هذه الذّات الأنثويّة إلى الدّنيا منبسطةً كل الانبساط ، مقبلة بكلّ جوارحها على مباهج الحياة ، يحدوها أمل قويّ  في أن تنعمَ بالسّكينة والطّمأنينة وتتمتّع بالاستقرار الذّهنيّ والرّاحة النّفسيّة ، جاءت مؤهّلة جبلّيّا لتكون ذاتا غنائيّة في وفاق تامّ مع نفسها والآخر والكون . لكنّ عوامل خارجيّة طارئة  بخّرت أحلامها وعصفت بآمالها وحوّلتها إلى ذات أخرى  أُفْرِغَتْ من كلّ صفاتها الأولى ولم يبق لها منها سوى ذكريات ضبابيّة غائمة  .

ومن أدقّ ما ورد في أقوالها من تصوير هذا التّحويل العدوانيّ الرّهيب الذي مسخ كيانها الذّهنيّ النّفسيّ هذا المقطع :

كنتُ بدراً

وكنت هلالا

 ثم بدرًا من  دون اكتمال

 من يسرق النّجوم، ويستولي على نارها ؟

( نفسه ص 11 )

3 -2 :ملامح الذّات المحوّلة :

في الدّرج الآخر – وهو إن شئنا درج الحاضر أو زمن التلفّظ – تقيم شخصيّة ثانية   تتوفّر فيها جميع مواصفات الكيان الذّهنيّ النّفسيّ المجرّد .وهذا الكيان تجتاحه على نحو مسترسل ومن كلّ الجهات  رياح  من المشاعر السّلبيّة العاتية فتهزّه هزّا . وحين نتأمّل هذه المشاعر نجدها أعراضا شديدة التنّوع .  لكنّ دلالاتها تختلف باختلاف الزّاوية التي يُنظر منها إليها . ففلسفيّا هي أعراض أزمة  وجوديّة خانقة و كلينيكيّا *هي علامات اكتئاب ذُهانيّ * (5 ) . فكيف تلوح من كلّ زاوية على حدة  ؟

3 – 2 -1: أعراض الأزمة الوجوديّة :

إنّ موقف الكائن البشريّ سواء أكان مؤمنا أم غير مؤمن من الوجود موقف طبيعيّ . وهو متأتّ من إحساسه بضآلته  إزاء شُسُوع الكون وامتداده اللاّمتناهييْن و بعدم توقّف وجود هذا الكون على وجوده هو الفرديّ . وهو ما سماّه جان بول سارتر (Jean Paul  Sartre  )  “الذاّت الزّائدة ” * ( 6 )  . وهذا ما يولّد لديه شعورّا بأنّه مهمل ومتروك لمصير مجهول  ، كما ينبع الموقف الوجوديّ من  وعي الفرد بقصر المدّة التي تستغرقها حياته  وانتهائها بموت لا ريب فيه  مقابل  ماضي الكون السّحيق واستمراره بعد موته   وكذلك من تساؤله عن الغاية من وجوده هو بالذّات في المكان  والزمان المعيّنين اللّذين رمت به الأقدار فيهما .

ولكن لئن كان هذا الموقف يقترن لدى أيّ  فرد بالحيرة فإنّ بنيته  المزاجيّة وظروفه الخاصّة تنحُوَان به عادة  أحد ثلاثة أنحاء محتملة هي : الخوف أو الإذعان أو التمرّد  (7 ).

وبالتأمّل في خطاب الذات الشّاعرة نجده و إن اصطبغ على نحو عميق  بهذه الحيرة الوجوديّة فإنّ  هذه الحالات الثلاث  فيه غائبة أو  عرضيّة الحضور . فلا خوف ولا إذعان  لافتين مثلما هو الحال عند الإنسان العاديّ ولا تمرّد على نحو ما اختاره فريدريش   نيتشه (Friedrich Nietzsche  1844 – 1900  )  وألبار كامو  (Albert Camus  1913 – 1962  )   وإنمّا ضجريتجسّد في نبرة شكائيّة لا تنقطع من أوّل قصيدة إلى آخر قصيدة في المجموعة . فما هي الأسباب  العميقة  لهذا الضّجر ؟

إنّ وراء  نبرة الضّجر الغالبة على خطاب الذّات الشّاعرة   خمسة أسباب رئيسة  ، حسب ما يلوح من حديثها ، هي  : الشّعور بالضّياع والإحساس بالفوضى داخل الذّات وخارجها  والتّشاؤم   والعزلة و الوجس*.

أمّا الشّعور بالضّياع فهو ناتج عن عدم امتلاك الذّات الشّاعرة القدرة على التموقع والاتّجاه و التكيّف مع   طبيعة العالم الذي  نُقِلت  إليه عُنوة  وجهلها التّام  لما  يخبّئه لها القدر في  قادم الأيّام . وممّا قالته في هذا المعنى:

خطوةٌ ضيّقةٌ، يعرفها التّائه

امرأةٌ لا وجهَ لها سوى الهُيام

 في طرقات هائمة

(نزهة ص 5 )

بدون عصًا ترعى النّهر

وتحطبُ

ما تيسّر لها من سور النّهر

إذ طواها في مدّه

يرمي بها في كلّ تَيْه

( نفسه ص  45 )

أعيش  كفانوس تائه

( نفسه ص 60  )

تمرُّ على  الينابيع

تشربُ ..

ضياعاً آخر

( نفسه ص 77 )

ماذا تخبّئ لي يا هذا  العالم الضيّق ؟ أساله

( نفسه ص 11 )

ويقترن الضّياع لديها بالفوضى . وهي أيضا من الصّفات الرئيسة التي يصف بها الوجوديّون العالم لأنّه  ، في نظرهم  ، غير قابل للجَرْد * (88)  . و عدم  قابليّته للجَرْد مردّه إلى غموضه المتولّد عن غموض الذّات  نفسها التي تسعى إلى إدراكه دون أن تكون مدركة لحقيقة  ذاتها . وفي هذا يقول  أماّنوال مونيي (Emmanuel  Mounier     1905 – 1950 ) :  ‘” ألا يكون الأمر الرّئيس على العكس  هو  الغموض الذي يكتنف ذاتي من زاوية نظري إليها وغموض العالم   ألا يكون سوى نتيجة لهذا الغموض نفسه الذي أقْحِمُهُ بيني وبين الآخر حين أتوسّطهما ؟ ”       (9). وفي هذا تقول الشّاعرة :

فوضى تملؤني، هي ،

أقدارٌ مجهولة

تُشبه الزّواج

والحبّ

( نزهة ص ص 7-8 )

وتقول :

كلُّ الطّرق تؤدي إلى فوضى الروح !

( نفسه ص 8 )

وهذه الحالة تتطوّر في بعض المواضع إلى شعور بغياب المعنى من جرّاء القطيعة القائمة بين الذّات والعالم .

وممّا قالته الشّاعرة في  ذلك :

ماذا أرى؟

 لا ضوءَ كي أرى!

( نفسه ص 43 )

وقولها

لا أحدَ يسمعُ

العالمُ أصمَّ أذنيه

( نفسه ص 49 )

ومن أشدّ أعراض الأزمة الوجوديّة إلحاحا التّشاؤم  . ومردّه إلى أنّ نداء المستقبل  هو نداء مأسويّ لأنّه  ، في حقيقة الأمر، نداء الموت  (10). و للتّشاؤم  في المجموعة  حضور مكثّف. وممّا جاء فيه قول الشّاعرة :

امرأةً تحملُ تعبَ الأيّام

وتمضي  إلى  المقبرة

(نزهة ص 8 )

 أدورُ مثل غُبارٍ حول نفسي !

  كلَّ يوم

أرى يومي

يحترق، في دخان الأمل !

( نفسه ص 90 )

لا تُداعِبي شعري أيّتها الرّيحُ

سنهبِطُ معاً على أرضٍ بُور

( نفسه ص 17 )

3 -2 -2:أعراض الحالة  الكلينيكيّة :

تشوب مزاجَ  الذّات الشّاعرة في جميع قصائد المجموعة على نحو مستمرّ حالات ذهنيّة ونفسيّة سلبيّة شتّى أبرزها   حزنٌ ثابت  لا يتزعزع  يهيمن على منطقة الوعي بأسرها وألمٌ معنويّ  مَكِينٌ من آثار فواجع قديمة وإحساسٌ بالعجز وسوءُ تقديرٍ للذّات ونِظرةٌ سوداء إلى المستقبل وفقدانٌ للرغبة في أيّ شيء وشعورٌ بالاختناق و الذّنبِ و الخرابِ والحدادِ . والمجال لا يتّسع لسَوْق  أمثلة لكل حالة من هذه الحالات  . وهذه الأعراض الذّهنيّة والنّفسيّة هي ، بلا شكّ ،  أعراض ذُهَان اكتئابي ( مع الإشارة دائما إلى أنّنا ندرس هنا  ال” أنا” المتكلّم في النّصّ لا شخص المؤلّفة ) .لكنّه ليس عميقا لسببين : الحضور القويّ لوعي الذّات الشّاعرة ،  الماثلُ في تماسك خطابها وعدمِ وقوعها في الهذيان والآخرُ عدم فقدانها الاتّصالَ بالواقع الذي تتضجّر منه . لهذا يبقى الطّابع الوجوديّ هو الغالب على تجربة الشّاعرة .

ومن الأمثلة المصوّرة لهذه الأعراض في المجموعة  الأبيات التّالية  :

دمي مسفوحٌ على أرض ٍلا تمتصُّ أحزان البشر،

يطفو على الطّّريق مثل نهر مبتور السّاقين

(نفسه ص 11 )

يا نفس

نعبر الحياة

صحارى

بلا طَمْي

ولا ماء

( نفسه ص 66 )

روحي حديقة ٌ

يزورها  الموتى

يقطفون أزهارها

( نفسه ص  7 )

 فيا قبرُ امنحني مساحة، إنّني من عشّاق الهواء

( نفسه ص 25 )

طائرٌ قلبي

ماتت أغانيه ،

 في قفار مليئة بالحجر

( نفسه ص  34 )

اِحرقي أحلامي

أيّتها الشّمس

فاأنا غابة مفتوحة على الهاوية

( نفسه ص 38 )

على هذه الأرض الراقصة

 خلعتُ كلّ شيء

 أفكاري

 أمنياتي

 وحتّى الحلم

( نفسه ص 88 )

والجسد أقفاصُ عظام

شاهد على الموت

شاهد على القتل

شاهد على فراغ الرّوح

( نفسه ص 75 )

II  -مخيال الشّاعرة وأثره في خصائص شعرها الإنشائيّة :

إنّ الخلفيّة الذّهنيّة النّفسيّة التي تصدر عنها الشّاعرة في هذه المجموعة و إن كانت  ، كما رأينا ، على درجة عالية من العمق والتّماسك  ، فما كنت لتكفيَ لو لم تعضدها  قدرات إبداعيّة خارقة تتمتّع بها  على أصعدة التّخيّل والحساسيّة والحَدْس . وهذا هو العنصر  المحدّد الفارق ، في مثل حالتها  ، بين المنكوب العاديّ والمنكوب الموهوب . فلقد أتاحت لها هذه الملكات إمكان إنشاء أسلوب  متميّز  ذي خصائص ثابتة لا تتغيّر من قصيدة إلى  أخرى .  وأبرز هذه الخصائص مطلقا أن معظم الصّور الشّعريّة تنبع من مخيال متجانس  خالٍ أو يكاد من  حضور الجماد الصّناعيّ الذي أنشأته حضارة الإنسان الحديثة ،  مقابل كثافة  وجود الجماد الطّبيعيّ والأحاسيس والأفكار المجرّدة . وهو ما يجعله بمنزلة عالم بدائيّ موغل في القدم  لكنه  في قطيعة  تامّة مع السّماء . فلا أنبياء فيه ولا إله  يغمره أهله برحمته ولا ملائكة ترعاهم و إنّما  يسكنه الشرّ وتتوالى عليه  الكوارث والنّكبات  .

ولقد أثّرت طبيعة هذا المِخيال أيّما تأثير في نوعيّة الصّور التي صمّمتها مخيّلة الشّاعرة فإذا أكثرها يتّسم بالتّجريد لكن مع جهد متّصل من لدنها في التّمثيل والتّجسيد والتّصوير لتقريب المجرّدات من ذهن القارئ . وذلك على نحو ما تبيّنه الأمثلة التّالية . وما هي إلا غيض من فيض  :

أجرحُ فم النّهر

تخرج حياتي بغاباتها

ونمضي معاً في النّشيد

نفسه ص 43 )

وردة تنام، في صدري

تبكي

وتنتحب

بكت غيمة على حالي

وذابت مطرا !

( نفسه ص 17 )

بستانٌ حزين، أنا

وثماري عاشقة

 عطرٌ أنا

  ووردي قليل

 حبٌّ أنا

 وقلبي كراهية

حبٌّ أنا

 وقلبي كراهية

( نفسه ص 23 )

خذوني إلى مراقد الطّير

وقصّوا جناحي

خذوني إلى الجبال

وطيّروا عطري

(نفسه ص  48 )

أمّا الإيقاع الدّاخلي فخَصِيصَتُه الطّاغية هي النّبرة الهادئة لكنْ المتقطّعة ،  الشّبيهة بنغمة النُّواح والنّشيج ، تمشّيا مع ما ينتاب الذّات من الأعراض الوجوديّة والذُّهَانِيّة التي بيّنّا والتي  تلمّ بها على نحو متزامن أو متناوب . وهذا الإيقاع قارّ أيضا لا تخلو منه أيّ قصيدة من قصائد المجموعة التي يمكن عدّها جميعا  بكائيّات تامّة الشّروط . ومن ثمّة فهو ماثل في كلّ الشّواهد التي سقناها آنفا في ما سبق من هذه الدّراسة .

الخاتمة :

هذه القراءة المتواضعة المتعجّلة في مجموعة  نزهة بين السّماء والأرض لفُرات إسبر تفضي بنا إلى ثلاث  نتائج عامّة  رئيسة   تلوح  لنا مهمّة : أولاها أنّ  خطاب  الشاعرة فيها  معدوم الإحالات أو يكاد إلى شخص المؤلفة المادّي و إلى الإطار المكانيّ والزّمانيّ الذي أنشأت فيه قصائدها  زمن التلفّظ –   وهو ما قصدناه بغياب الكينونيّ –   مقابل كثافة الإشارات إلى أحوال تلك الذّات وأحوال ذلك الإطار  .وهو ما عنيناه بالأنطولوجيّ  وفقا لجهاز مارتن هيدقر الاصطلاحيّ . وقد ترتّب على هذه النّزعة الغالبة  أنْ جاءت تجربة الشاّعرة  ، في حدود هذه المجموعة ،  تجربة ذهنيّة نفسيّة أي روحيّة خالصة  . والنّتيجة الثّانية هي أنّ هذا الطّابع الرّوحانيّ وإن كان منسجما مع المناخ الثّقافيّ المخصوص للمشرق العربيّ باعتباره مهد الأديان السّماويّة  فإنّه ينزاح عنه  بعنصر لا فت هو القطيعة شبه التّامة بين عالمي الأرض و السّماء  . وهو ما يتجلّى في غياب معنى الرّجاء تماما  في  خطاب الذّات الشّاعرة وعدم  لَوَاذها بقوى غيبيّة  للتّخفيف من حدّة الآلام التي تعانيها  على نحو دائم في عالمها السّفلي المغلق . والنّتيجة الثاّلثة هي أنّ الطّبيعة  الرّوحانيّة  لتجربة الشّاعرة قد انعكست في لغتها الشّعريّة . فإذا هي موسومة   بطابع تجريديّ أسهم إلى حدّ بعيد في التّقليل من الدّلالات المرجعيّة و في تكثيف العدول والإيحاء .

و ختاما تبقى هذه النتائج في حاجة إلى المقارنة بما جاء في مجاميع الشّاعرة السّابقة لمعرفة ما هو ثابت منها وما هو من ثمار تطوّر محتمل  قد يكون تحقّق في هذه المجموعة بالذّات  دون غيرها .

1- إسبر ( فُرات ) ، نُزهة بين السّماء والأرض ، دار ” بدايات ” ، سورية  2012

2-الكينونيّ  عند هيدقر  هو ما  له  صلة بالموجودات الحقيقيّة المُدْرَكة المُحَدَّدة  أي ﺒﻭﺠﻭﺩ ﺍﻟﻜﺎﺌﻨﺎﺕ  من حيث هي ﻜﺎﺌﻨـات  ﺒﻐﺽّ ﺍﻟﻨّﻅﺭ ﻋﻥ ﻭﻋﻲ ﺍﻹﻨﺴﺎﻥ ﻟﻬﺫﺍ ﺍﻟﻭﺠﻭﺩ  والأنطولوجيّ عنده هو ما  له صلة بوعي الإنسان لوجود  الكائنات الحقيقيّة  . انظر في ذلك :

–        محمّدي رياحي (  رشيدة ) ، ” ﺑﻌﺾ  الملاحظات ﺣﻮﻝ ﺍﻟﻔﻬﻢ ﺍﻟﺘﺎﺭيخي ﺍﻟﻔﻠﺴﻔﻲ    ﻋﻨﺪ “ﻫﻴﺪﻏﺮ” “ﺍﻟﺪﺯﺍﻳﻦ” ﻛﻤﻮﺟﻮﺩ  زماني ” ،   مجلّة “التّبيين  ” ، العدد 22  الجاحظيّة ، الجزائر2004 ص ص 9-14

Grondin ( Jean ) , La métaphysique de Heidegger  et le problème de la métaphysique , site «  Philoposis « ; revue numérique  www. Philoposis.com  pp 1-6

3- Jung ( C.G) , Essai d’exploration de l’inconscient, Editions Gontier , Paris 1964  p  115

4- Petit Larousse de la médecine ( collectif ) ,Tome II ,  article «   Psychose «  , Paris 1976  p 153

5- Delourmel ( Christian ) ,  Dépression essentielle et dépression psychotique : chiasme, différences, complémentarités ,  « Revue française de psychanalyse  « , Vol. 74 ; Paris 2010 pp 1433-1440

6- Mounier (E )  ,  Introduction  aux  existentialismes,  Paris, Gallimard,  1962,  p.  40  ( se référant à  Sartre  dans  la nausée 1938 )

7- Colette  ( Jacques )  , Ch II  existence , liberté ;transcendance , coll. «  Que-sais-je « ,  PUF ,  Paris 1994 p p 47-88

8-  Mounier ( E ) ,  Introduction  aux  existentialismes ? P 25

9- Ibid.  p 18

10-                  Ibid.  p 36

 

 

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*