أحِبُّ أَن أَكونَ بنتَ شَوارعَ: شعر: صحبيّاَ الحاج سالم- شاعرة تونسيّة مقيمة بباريس

صحبيّاَ الحاج سالم


حاولتُ أن أخرجَ هذا المساءَ
أن أمشيَ مسافةَ السّاعةِ ثمّ أركبَ المترو 
في عرباتِهِ تلتصقُ الأجسادُ 
ليستْ مواصلاتِ  “سيدي جابر*ٍ”[1] 
وحدَها التي يختلطُ فيها اللّحمُ والنّزقُ 
هذه عاصمةُ الأنوارِ تعصرُ العظامَ 
 وتحوّلُها إلي مشروبٍ فاخرٍ
لكنّي لا أحبُّ العصائرَ الجاهزةَ 
أفضّلُ أن أصنعَ مزاجي بيدي: 
أخلطَ الجزرَ والشّمندرَ 

أشغّلَ الآلةَ  
وأبدأَ بوضعِ الحبّاتِ 
أضغطَ على أسناني 
أعضَّ شفتيَّ.
أزيزُ المكنةِ يزعجني 
لكنّ ذلك اللّونَ الرّهيبَ النّازلَ رويدًا رويدًا في كأسي 
يشفعُ لها يومَ القيامة
كنتُ أنظرُ إلى الأجسام
وهي تحكُّ صديدَ المقاعدِ
تلتصقُ بعرقِها 
أمعنُ في اقترابِ الفستانِ من لبنطلونِ
وتجاوبِ الحريرِ مع البوليستارِ
يعجبني ذلك المشهدُ المفزعُ
ها هو يمتصُّني بسرعة
يربكُ شهوتي الجامدةَ
نعم يعجبني ويشبعني
الأضدادُ أهواها 
أصبحُ أسيرةَ سطوتِها
ماذا سأصنعُ بكلِّ هذا الدّوارِ 
وأنا أبحثُ عنّي في تلكَ الشّفاهِ 
والأحضانِ  
لستُ أدري حقًّا 
يفزعني أن أعرفَ 
أحبُّ أن أبقى جاهلةً  
أتلاشى كنسمةٍ في الفراغاتِ 

وأكتوي وحيدةً
غالبا يتحرّقُ الرّكابُ 
بشغفِ مشيي على أجسادِهم 
خطواتي ناعمةٌ 
لاتخافوا 
أنا لستُ عنصريّةً 
لا أحملُ سلاحًا أبيضَ 
ولا  ً أدخّنُ سيجارةً إلكترونيّةً
أنا مثلُ كلِّ غريبٍ يمرُّ من أمامِكم 
عاريةٌ من الانتماءِ 
فقط في جيبي مدنٌ كثيرةٌ تتحاورُ 
وتحاولُ أن تكونَ عادلةً
في حصّتِها من جوعِ الحنينِ
وفي قلبي أريافٌ مازلتْ تعدُّ خبزَ الشّعيرِ 
والقمحِ في الهواءِ الطّلقِ 
تقطعُ السّنابلَ بنصالِ حِميَتِها
وتعربُد على خدودِ الشّمسِ كصبيّةٍ تتعطّشُ للحبِّ..
أشعرُ أنّكم تكرهونَني 
نعم أغرقُ بذلك 
ولكنْ ليس بيدي حيلةٌ 
أحبُّ أن أطيرَ فوقَ الرّؤوسِ 
أن أرتاحَ على شامةٍ فوقَ الرّقبة ِ
أن أغنّيَ في أذنينِ كبيرتينِ 
أحبُّ كلَّ شيءٍ يمسكُني 
ويسحبُني إلى الوراءِ ، فأنا لا أعشقُ المستقبلَ 
فهو غامضٌ ومخيفٌ 
ولا أرغبُ في التّفكيرِ طويلاً في شؤونِهِ 
تعبتُ من ذلك 
كلُّ هذه العرباتِ والمواصلاتِ 
لا تجعلُني أصلُ في الوقتِ 
عادةً تخرّبُ مزاجَ يومٍ بأكملِه 
تعصرُني تحتَ السّككِ 
وبينَ الممرّاتِ الخلفيّةِ للمحطّاتِ 
حيثُ أجسامٌ صغيرةٌ تكبرُ في الرّكنِ
حيثُ بيتي الذي أشخبطُهُ على الجدرانِ 
وقبلاتُ تلاميذِ المدارسِ البريئةِ
أنا ضائعةٌ وابنةُ شوارعَ
 ابنةُ الشّمندرِ والجزرِ
ابنةُ الأضدادِ…
أحبُّ أن أكونَ ابنةً للكثيرينَ ممّنْ أمعنُ في شقوقِ ملابسِهم 
يعجبني ذلك ويريحُني
يسهلُ على طريقِ الحرّيّةِ
يجعلُني خفيفةً مثلَ فراشةٍ
ينسيني يُتمي الملازمَ لكياني

حاولتُ أن أخرجَ هذا المساءَ 
لكنْ كنتُ ثقيلةً 
زادَ وزني خمسةَ كيلوغراماتٍ 
أحتاجُ أن أمشيَ 
أن أسابقَ المترو 
أقطعَ المسافاتِ 
أتأبّطَ الأعناقَ
وأرسمَ تحتَها زهرةً وقبّعةً 
أحتاجُ إلى القيامةِ من جديدٍ كي أكتبَ
أنا ابنةُ الجميعِ 
هل تعلمونَ ذلك ؟
ولكنّ قلبي بلا عناوينَ أو هويّةٍ
والظّلالُ لا تحبُّني 
لا تقتربُ منّي 
لهذا أحتاجُ أن أخرجَ في المساءِ 
وأمشيَ طويلاً
… أحبُّ أن أكونَ بنتَ شوارعَ

 

*1- سيدي  جابر  : حي من أحياء مدينة الإسكندريّة

[1]

2 تعليقان

  1. محمد بن رجب

    جميل جدا يا سيدة صحبية…لقد وضعتني وانا اقرا نصك في اجواء اعرفها ولا احس بها….اعرفها لاني ابن عابر للمدن الكبرى …اذا زرت باريس لا اتواصل معها اكثر من اسبوع .وهكذا بالنسبة لروما او الاسكندرية ا و القاهرة او مدريد او روما…..و. انا عابر الا اني افهم ما يدور حولي…واعي اسباب توترات الناس ..اقصد بهم المقيمين…او المواطنين…وطبعا للمقيم احوال واحاسيس …قد افهمها ولا احس بها
    احسيت بهذه الاحوال النفسية المزعجة والمؤلمة وانا اتفاعل مع نصك السردي الزاخر بالشعر والشعرية

  2. كلما كنت وسط ذلك الزحام أتعمد قراءة كل العيون التي أشعر أنها تتابعني فأكتشف أن بعضها تقول نفس ما جاء في نصك وبعضها تريد قراءة العيون فأحاول أن أجعلها تقرأ نفس الكلام… جميلة جدا نصوصك صديقتي.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*